ثقافة وفنون

الروائية الفرنسية آن بوريل: الأدب جسر بين الثقافات… والتصوف الإسلامي يجذب الغرب

الروائية الفرنسية آن بوريل: الأدب جسر بين الثقافات… والتصوف الإسلامي يجذب الغرب

حاورها: معتصم الشاعر

آن بوريل روائية فرنسية، فازت روايتها «غواية الثلج» بجائزة كابري دور التي تمنحها أكاديمية سيفينول الفرنسية عام 2016، وقد ترجم هذه الرواية إلى اللغة العربية عام 2023 المترجم والروائي السوداني عاطف الحاج سعيد، الذي عكف على ترجمة جميع رواياتها، «حانة جران مدامز» 2023 و»ملك الليل والنهار» 2024، وترجم روايتها القصيرة «تاكوياكي»، ولآن بوريل إسهامات في المسرح أيضا، ولها اهتمام كبير بالشرق والثقافة العربية على وجه الخصوص، زارت معرض القاهرة للكتاب 2024، وكانت سعيدة بتمكن القراء العرب من تذوق رواياتها، التقيتها فكان هذا الحوار:
* سعيد بترجمة أدبك إلى العربية، في عالمنا العربي، نتهم الغرب دائما بتقصيره في ترجمة أدبنا العربي، ذلك يُشعرنا وكأننا لا نستحق أن يعرفنا الآخرون، قبل قرون كان الغرب مفتونا بالسرد العربي، كانت لحظة فارقة حين اكتشف «ألف ليلة وليلة»، في فرنسا تعرفتم عليها من ترجمة أنطوان غالان في القرن الثامن عشر، ومن تبعوه من أمثال جوزيف شارل مادروس وكذلك رينيه خوليفين، والآن يظن البعض أن الغرب لا يبحث عن الدهشة في أدبنا، بقدر ما يبحث عن الأصوات التي تعزز الصورة النمطية التي يرانا بها، هل توافقين على هذا الرأي، أم أن هناك رغبة في استكشاف الأدب العربي بعمق أكبر؟ وما هي أبرز الروايات العربية المعروفة في فرنسا؟
ـ الاهتمام بالأدب العربي في فرنسا يتجاوز بكثير «ألف ليلة وليلة»، على الرغم من أن هذا العمل لا يزال يفتن المخيلة الجماعية، وإن كان أحيانا في إطارٍ اختزالي. اليوم، يقرأ الجمهور الفرنسي ترجمات لكتّاب مثل نجيب محفوظ، إلياس خوري، علاء الأسواني، وهدى بركات. وقد شكّل فوز محفوظ بجائزة نوبل نقطة تحول مهمة في إضفاء مزيد من الحضور على الأدب العربي، لكن لا يزال هناك الكثير مما يجب إنجازه لكسر النظرة الاستشراقية التقليدية، وتوسيع نطاق الاهتمام بالأعمال المعاصرة.

*وكيف هي علاقتكم بأدب المغرب العربي؟
ـ بحكم القرب الثقافي والجغرافي، نجد في فرنسا اهتماما أكبر بكتاب المغرب العربي، الذين ينشرون غالبا مباشرة بالفرنسية أو تترجم أعمالهم سريعا. شخصيات مثل الطاهر بن جلون، ليلى سليماني، وكمال داوود (جميعهم فازوا بجائزة غونكور) أصبحت جزءا من المشهد الأدبي الفرنسي. أما أدب المشرق العربي وأدب افريقيا الناطقة بالعربية، فلا يزال أقل شهرة، وهو أمر مؤسف.
*لا يزال كتاب بارزون من اليمن، والأردن، والعراق، وسوريا يواجهون صعوبات في الوصول إلى القراء الفرنكوفونيين، إما بسبب غياب الترجمة أو ضعف الاهتمام من قبل الناشرين. من الضروري أن نكثف جهود الترجمة في جميع الاتجاهات، وأن نسلط الضوء على كتّاب مثل عاطف الحاج، الذي أثارت كتاباته إعجاب العديد من القرّاء العرب، أو جلال برجس، الذي تناول في روايته «دفاتر الورّاق» قضايا التهميش وأزمة الهوية في الأردن. كما يقدم حسن بلاسم، علي المقري، وإبراهيم الكوني ـنعم، جميعهم رجال، فالكاتبات العربيات يُترجَمن بشكل أقل!ـ أعمالا قوية تستحق حضورا أوسع في كتالوغات دور النشر الفرنسية. إن هذا النقص في التنوع يعكس رؤية لا تزال اختزالية للأدب العربي في فرنسا، حيث يتم اختصاره في بعض الأسماء البارزة، بينما هو في الحقيقة غني بتعدده وثرائه الاستثنائي.

ـ يبدو أن الغرب مهتم بكتابات المتصوفة المسلمين، فجلال الدين الرومي معروف على نطاق واسع، كذلك عمر الخيام وابن عربي وغيرهم، ما الشيء الذي يجذب الغربيين إلى هؤلاء؟
ـ صحيح أننا نرى كثيرا من اقتباسات جلال الدين الرومي أو عمر الخيام تتداول على وسائل التواصل الاجتماعي، وغالبا ما تُؤخذ خارج سياقها تماما. لقد رأيتُ حتى أبياتا للرومي منقوشة على جدران مزخرفة في مدينة ماريبور الصغيرة في سلوفينيا! هناك نوع من الانجذاب إلى هؤلاء المفكرين، ربما لأنهم يتحدثون عن موضوعات كونية: الحب، البحث عن الذات، العلاقة مع الغيب. لستُ متخصصة في التصوف الإسلامي، لكن ما يلفت انتباهي هو أن هذه النصوص تقدّم طريقة مختلفة لرؤية العالم، نهجا لا يفصل بين العقل والشعور. نحن نعيش في زمنٍ سريع الإيقاع، حيث يتم تمجيد العقلانية والفعالية. لذلك، تأتي هذه النصوص، التي تتحدث عن النشوة الروحية، والتأمل، والوحدة، كنقيض لهذا الواقع. إنها تقترح إيقاعا آخر للحياة، وطريقة مختلفة للوجود. لكن هناك دائما خطر الاختزال والاستغلال السطحي. قراءة الرومي على إنستغرام لا تكفي لفهم فلسفته، تماما كما لا يمكن اختصار عمر الخيام في احتفاءٍ بالخمرة واللذة. ومع ذلك، إذا كانت هذه النصوص تفتح أبوابا جديدة أمام القارئ، فهذا أمر جيد. الأهم هو أن نتجاوز الاقتباسات السريعة، ونستمع حقا لما لا تزال هذه الكتابات تقوله لنا اليوم.

*يرى البعض في العالم العربي أن الغرب المادي بحاجة إلى الروحانية الشرقية لاستكمال حضارته، هكذا ببساطة، كيف تستجيبين لهذا الرأي؟
ـ أنا دائما متحفظة تجاه هذه الثنائيات المطلقة: الغرب المادي مقابل الشرق الروحي، فهذا تبسيط مفرط. هناك تقاليد روحية قوية في أوروبا، تماما كما يوجد مادية في كل مكان آخر. لكن من الصحيح أيضا أننا نعيش في زمنٍ سريع الإيقاع، حيث يُدفع الناس إلى الإنتاج والاستهلاك وتحقيق الربحية باستمرار. لهذا، لا شك أن هناك فراغا. وفي مواجهة هذا الفراغ، يبحث البعض عن إجابات في روحانيات لا يعرفونها جيدا. أحيانا تكون رحلة اكتشاف حقيقية، لكن في كثير من الأحيان، تكون مجرد استيلاء سطحي. لا يمكن سدّ فراغٍ وجودي بمجرد قراءة ثلاثة أبيات للرومي. المهم ليس أخذ روحانية جاهزة من الآخر، بل تعلم الإصغاء، والفهم، والحوار.
*وكيف يمكن للأدباء العرب أن يفيدوا في هذا الجانب، وماذا يمكن أن تقدم كتاباتهم للغرب؟
ـ الكتّاب العرب يلعبون دورا محوريا في هذا التبادل. ليسوا هنا ليقدموا «شيئا» للغرب، بل ليكتبوا عن عوالمهم. ومن خلال قراءتهم، وترجمتهم، والإنصات إليهم بعمق، يمكننا تجاوز هذه الثنائيات العقيمة. المسألة ليست في استكمال حضارة بأخرى، بل في الاعتراف بأننا بالفعل نتأثر بتأثيرات متداخلة ومتعددة.

*وهذا يعيدني مرة أخرى إلى ترجمة الأدب العربي إلى الفرنسية. ما مدى انتشارها؟ وكيف يتلقّى القارئ الفرنسي الأعمال العربية؟
ـ لا تزال ترجمة الأدب العربي إلى الفرنسية محدودة للغاية. صحيح أن هناك دور نشر مثل أكت سود وسندباد ولو سويل، تقوم بعمل مميز، لكن المشهد العام يظل ضيقا، والأهم أن عملية الترجمة غالبا ما تخضع لانتقاء تحكمه التوجهات التحريرية، حيث يتم تفضيل موضوعات معينة مثل المنفى، القمع السياسي، وقضايا النوع الاجتماعي. لا شك أن هذه القضايا ذات أهمية كبرى، لكنها لا تمثل وحدها ثراء الأدب العربي المعاصر. في فرنسا، كما ذكرت لك، نحن ثقافيا وجغرافيا أقرب إلى أدباء المغرب العربي، الذين يكتبون غالبا بالفرنسية أو تُترجم أعمالهم بسرعة. لذا، نجد كتابا مثل الطاهر بن جلون، ليلى سليماني، وكمال داود يحظون بحضور قوي في المشهد الأدبي الفرنسي. في المقابل، يظل أدباء المشرق أقل حضورا في الترجمات والإعلام، رغم أنهم يقدّمون نصوصا قوية ذات حداثة لافتة. أما القارئ الفرنسي، فيكتشف هذه الأعمال بفضول، لكنه أحيانا يقع في فخ التوقعات المسبقة. فهو ينتظر أن يتحدث له الأدب العربي عن «شرق معين»، مغمور بالصراعات أو مفعم بالشاعرية الاستشراقية. لكن الواقع أن الأدب العربي المعاصر أوسع من ذلك بكثير؛ فهو أدب مدني، وغالبا صادم بحداثته، يتناول التحولات الاجتماعية، والرقمنة، والعلاقة بين الفرد والمجتمع. لذا، من الضروري قراءته بحرية أكبر، دون أن يكون مجرد شهادة تفسيرية للعالم العربي بالنسبة للغرب. لكن العكس أيضا صحيح: الأعمال الغربية المعاصرة نفسها تعاني من قلة الترجمة إلى العربية، ويرجع ذلك جزئيا إلى التكلفة العالية للترجمات وحقوق النشر، التي تشكل عائقا كبيرا. لهذا، يظل الكثير من الروايات الفرنسية، على سبيل المثال، غير معروفة للقراء العرب، ما يؤدي إلى خلل في التبادل الأدبي. وإذا كان الأدب فضاء للحوار، فمن الضروري أن يكون هذا الحوار متكافئا، يسير في الاتجاهين، لا أن يبقى محصورا في تدفق ثقافي أحادي.

*ما مدى تأثير الكتاب العرب الذين يكتبون بلغة شارل ديغول على الثقافة واللغة الفرنسيتين؟
ـ إنهم بمثابة جسور ثقافية، ومكتشفون لآفاق جديدة. عندما يكتبون بالفرنسية، فإنهم يوسّعون فضاء اللغة ويثْرونها بإيقاعات ومخيّلات مختلفة. أمين معلوف، على سبيل المثال، نسج روايات يتقاطع فيها المصير الفردي مع التحولات الكبرى في العالم المتوسطي، بينما كمال داود، في روايته «مورسو، تحقيق مضاد»، قلب أحد الأساطير الأدبية الفرنسية رأسا على عقب، إذ أعطى صوتا للشخصية الصامتة في الغريب لألبير كامو. لكن بعيدا عن تأثيرهم الفردي، فإن هؤلاء الكتّاب يمثلون جزءا من حركة أدبية أوسع، حيث يتجاوز الأدب الحدود الوطنية ويتحاور مع ثقافات متعددة. فاللغة الفرنسية، بطبيعتها، كانت دائما تتغذّى من المؤثرات الخارجية، وما زالت تتجدّد من خلال هذه الأصوات المقبلة من آفاق أخرى. إن الأدب هو اليوم أحد الأماكن القليلة التي لا تزال فيها الحدود مفتوحة. ففي عالم تتصاعد فيه النزعات الهوياتية ويُبنى فيه المزيد من الجدران، سواء المادية أو الرمزية، يظل الأدب مساحة للعبور والتواصل. إنه وسيلة لاجتياز العوالم والهروب من التصنيفات الضيقة والتعبير عمّا هو غير قابل للترجمة.
*فرنسا قبلة المهاجرين، كيف أثّرت الهجرة عموما على التكوين الثقافي الفرنسي؟ وما تجليات ذلك في الأدب المعاصر؟
ـ الهجرة تُغني الثقافة، والأدب يعكس ذلك بشكل مباشر. في فرنسا اليوم، جزء كبير من الإنتاج الأدبي يأتي من أصوات تنتمي إلى تجارب الهجرة، سواء من الجيل الأول أو الثاني. هؤلاء الكتّاب يقدّمون سرديات تستكشف الهوية والمنفى، لكنهم يتناولون أيضا موضوعات كونية مثل الحب، العائلة، والذاكرة. كتّاب مثل ليلى سليماني، فايزة قنة، وكوثر عديمي يرسمون صورة لفرنسا المتعددة الثقافات، الغنية بإرثها المختلط. آخرون، مثل نينا بوراوي وعبد الله الطايع، يتناولون قضايا الجسد والجندر والحميمية في سياق ما بعد استعماري. لكن الهجرة ليست مقتصرة على الكتّاب ذوي الأصول المغاربية، فالأدب الفرنسي يستمد زخمه أيضا من أصوات مقبلة من افريقيا جنوب الصحراء، آسيا، وجزر الكاريبي. ومن بين الأسماء التي تجسّد هذا التلاقح الثقافي، الطيب صالح، الروائي السوداني، الذي عاش في فرنسا فترة دراسته في جامعة مونبلييه، حيث التقى بزوجته الفرنسية ذات الأصول الاسكوتلندية جوليا ماكلين. هذا الاحتكاك بفرنسا أثرى نظرته النقدية للعلاقة بين الشرق والغرب، وهو موضوع مركزي في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال». اليوم، لم تعد مواضيع الهجرة في الأدب الفرنسي محصورة في الشعور بالاقتلاع أو الإرث الاستعماري. هناك تحوّل واضح، حيث أصبح الأدب يتحدث أيضا عن الرحلات الداخلية، وإعادة تشكيل الذات، والهوية الهجينة. لم تعد الهجرة على هامش الأدب الفرنسي، بل أصبحت جزءا أساسيا من نسيجه المعاصر.
*كاتب ومترجم مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب