فيلم «الخريج» بعد خمسين عامًا: أسطورة سينمائية أم مبالغة إعلامية؟
زيد خلدون جميل
عرض فيلم «الخريج» The Graduate (1967) عام 2017 بمناسبة مرور خمسين عاما على أول عرض له، إذ كان أحد أكثر الأفلام نجاحا من الناحية التجارية وأكثرها تأثيرا على الذاكرة الشعبية ومسيرة صناعة السينما الأمريكية، ما جعل بطله دستن هوفمان نجما سينمائيا. ولكن هل يستحق هذا الفيلم كل هذا الاهتمام؟
أحداث الفيلم
يعود الشاب «بنجامين برادوك» (دستن هوفمان) إلى مدينة باسادينا في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، بعد حصوله على البكالوريوس ليسكن في منزل والديه. ويقيم الوالدان له حفلا يحضره أصدقاء العائلة وشريك الوالد في شركة المحاماة. وتطلب السيدة «روبنسن» (آن بانكروفت)، زوجة الشريك، من الشاب «بنجامين» إيصالها إلى المنزل، لأن زوجها أخذ سيارتهما للذهاب إلى مكان ما. وعلى الرغم من عدم رغبة «بنجامين» في ذلك، إلا أنه وافق. وعند وصولهما المنزل تدعوه للدخول، وتحاول أغواءه، ولكنه يرفض معللا رفضه خوفه من قدوم زوجها. ولكن «بنجامين» يتصل بها هاتفيا بعد ذلك عارضا عليها اللقاء في أحد الفنادق، وتوافق السيدة «روبنسن» فورا، حيث يحجز غرفة في الفندق تحت اسم مستعار لتبدأ بينهما سلسلة من اللقاءات الجنسية السرية في الفندق نفسه. ويكتشف «بنجامين» أن السيدة «روبنسن» غير منسجمة مع زوجها، وأنها تزوجته لأنها حملت منه فقط. وعندما لا يكون «بنجامين» مع السيدة «روبنسن» يقضي الوقت في حمام السباحة في منزل والديه اللذين يحاولان معرفة خططه للمستقبل ويحثانه على الاستمرار في الدراسات العليا.
يبلغ والدا «بنجامين» أن «أيلَين» (كاثرين روس)، ابنة عائلة «روبنسن»، قد عادت إلى منزل والديها لفترة قصيرة، إذ أنها طالبة في جامعة كاليفورنيا، ويطلبان منه مواعدتها. ويمانع «بنجامين»، أما والدتها، السيدة «روبنسن»، فتستشيط غضبا عند سماعها الفكرة منه وتنهره. ومع ذلك يرضخ «بنجامين» لرغبة والديه ويواعد «أيلَين»، ولكنه يعاملها معاملة مهينة، حتى إنه يأخذها إلى محل تعري (ستربتيز)، فتشعر بالإهانة وتخرج من المحل باكية. وفي هذه اللحظة يعتذر منها «بنجامين» ويأخذها لتناول الطعام، ثم يقرر الذهاب إلى الفندق الذي يرتاده مع والدتها لتناول المشروبات وتلاحظ «أيلَين» أن جميع العاملين هناك يعرفونه باسم آخر. وبعد نقاش بينهما يبلغها أنه كان على علاقة بامرأة متزوجة ولديها ابن، إلا أن هذه العلاقة انتهت. سرعان ما تكتشف «أيلَين» أن تلك العلاقة كانت في الحقيقة مع والدتها، فتقطع علاقتها معه. ولزيادة الطين بلة تخبر السيدة «روبنسن» ابنتها «أيلَين» أن «بنجامين» أغتصبها. وتعود «أيلَين» إلى جامعتها في مدينة بركلي حيث ترتبط بعلاقة غرامية مع شاب وسيم في كلية الطب. يقرر «بنجامين» أن يعيد العلاقة مع «أيلَين» وأن يتزوجها، فيذهب إلى مدينة بركلي ويطارد «أيلَين» بإلحاح حتى ينجح في إقناعها بمشاعره وتوافق على التفكير بالزواج منه. ولكن والد «أيلَين» يواجه «بنجامين» بأنه قد يزجه بالسجن إذا أقترب من ابنته، وأنه على وشك طلاق والدتها. وينجح والدها بعد ذلك في إقناعها بالزواج من حبيبها طالب الطب.
يسمع «بنجامين» بحكاية ذلك الزواج، فيأخذ سيارته مسرعا لإيقاف الزواج ويصل الكنيسة فور انتهاء مراسيم الزواج. ولكنه يقتحم الكنيسة وما أن تراه «أيلَين» حتى تترك زوجها وتنضم إليه حيث يهربان من الكنيسة، على الرغم من مطاردة والديها وأصدقاء زوجها لهما. ولمنع المطاردة يأخذ «بنجامين» صليبا كبيرا ويهدد المطاردين به ثم يستعمله في إغلاق باب الكنيسة من الخارج. ويستقل العاشقان حافلة عامة وسط دهشة الركاب لكونه في حالة رثة بينما كانت هي بملابس الزواج. ويجلس العاشقان في مؤخرة الحافلة مبتسمين إلا أن الأبتسامة سرعان ما تزول. وتنتهي هنا أحداث الفيلم.
ملاحظات وآراء حول الفيلم
كان الاسم الأول في قائمة أسماء ممثلي الفيلم «آن باكروفت» لأنها كانت النجمة الوحيدة في الفيلم، إذ كانت «كاثرين روس» غير معروفة نسبيا بينما كان «دستن هوفمان» غير معروف على الإطلاق. واقتبست قصة الفيلم من الرواية الأولى للكاتب الأمريكي تشارلز ويب، ونشرت عام 1963، وكانت أولى أعماله وأشهرها. لا يمكن المبالغة في وصف شهرة الفيلم في الإعلام الغربي، وما زال نقاد السينما يكتبون عنه بإسهاب حتى الآن، كما قام علماء في الطب النفسي بتحليل قصته وحياة شخصياته، فالفيلم يتناول حياة شاب خجول بشكل غير عادي، وضياع الشباب المتعلم وعدم قابليتهم على تحديد مستقبلهم، حتى إنهم اعتبروا المشهد الأول للفيلم الذي يظهر فيه «بنجامين» وهو يسير في مطار مدينة باسادينا، رمزا للشعور بالضياع، وأن العلاقة بين «بنجامين» والسيدة «روبنسن» ترمز إلى احتقارها له. واعتبر آخرون مشهد المواجهة في الكنيسة رمزا للثورة. ولكن الأمر أبسط من ذلك بكثير، فلم تكن هنالك أي رموز ثورية من الناحية الاجتماعية، إذ لم يكن «بنجامين» ثائرا في علاقته مع والديه، بل على العكس كان ممتازا في علاقته بهما، ووافق على أن يبدأ بعلاقة مع «أيلَين» بناء على طلبهما الذي لم يكن غريبا في المجتمع الغربي. أما عن مشهد الكنيسة، فلم يكن ثوريا، ولكنه كان الأول من نوعه في السينما الأمريكية. ويتناول الفيلم الطبقة الثرية من المجتمع الأمريكي، أي أنه ليس عن أناس يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة، بل عن أناس يعيشون في رخاء، ولذلك، فإن مشاكلهم مختلفة. وإذا دققنا في حالة «بنجامين»، فإن حيرته الواضحة في ما سيفعله بعد التخرج بتفوق، شيء عادي، فنظرا لعدم وجود حاجة ماسة للمال يستطيع المرء أن يتريث قليلا في اتخاذ قراراته.
لم يكن «بنجامين» في الفيلم شخصا خجولا، بل كان شابا أنانيا وعديم الأدب، فالشاب الخجول لا يأخذ فتاة إلى نادي تعرٍ، بل لا يدخله حتى بمفرده، ولا يأخذها إلى الفندق نفسه الذي كان يلتقي فيه مع عشيقته، أي والدتها. أما مشهد ارتباكه عندما حجز غرفة في الفندق للمرة الأولى للقاء عشيقته، فكان غير متناسق مع سياق الأحداث ومفتعلا. وحتى تحرش السيدة «روبنسن» به لم يكن شيئا صادما على الإطلاق، فهذه أشياء تحدث في المجتمعات في جميع أنحاء العالم لاسيما في المجتمع الغربي. وإذا كان «بنجامين» خجولا فعلا، فلماذا اتصل بالمرأة ليبدأ علاقتهما الجنسية أصلا؟ ومن مفارقات الفيلم أن «بنجامين» لم يكن خجولا عندما مارس الجنس مع والدة «أيلَين» تكرارا ولكنه كان يخجل أن يسميها باسمها الأول، يا للأدب والخجل!
على الرغم من حصول مايك نيكلز، مخرج الفيلم، على جائزة الأوسكار للإخراج، فإن إخراج الفيلم كان سيئا للغاية، لأن تطور الأحداث كان بطيئا جدا، لاسيما تلك التي في بداية الفيلم وكثرت المتناقضات فيه مثل مشهد دخوله الكنيسة الذي ظهرت السيدة «روبنسن» فيه سعيدة لمشاهدتها له وهو يحاول الوصول إلى «أيلَين»، ولكننا نشاهدها غاضبة في المشهد التالي لها. ويضاف إلى ذلك مشاهد «بنجامين» في حمام السباحة في منزل والديه التي كانت طويلة ومملة. أما مشاهد توجهه إلى الكنيسة بسيارته ونفاد الوقود فيها، ما جعله يكمل الرحلة راكضا فقد كانت مثيرة للسخرية لسخافتها. وكانت بعض المشاهد غير واقعية على الإطلاق مثل مشهد حفلة عيد ميلاد «بنجامين» التي لم يحضرها أصدقاؤه أو أشخاص في سنه. وكانت بعض المشاهد عمليا عديمة الأحداث لاسيما المشاهد التي صحبتها أغاني المغني بول سايمن. وبالنسبة للأغاني في الفيلم، فقد كانت قد انتجت قبله، وحتى أغنية «السيدة روبنسن» كانت أغنية لحنها بول سايمن قبل الفيلم، ولكنه غيّر بعض الكلمات.
كان اختيار الممثلين غريبا، فدستن هوفمان لم يبدو رياضيا، كما وصف في الفيلم، أو شابا في الواحد والعشرين من عمره، بل أكبر من ذلك حيث كان في الثلاثين من عمره، وكان ذلك واضحا. كان قصر قامة الممثل دستن هوفمان إلى درجة أنه كان أقصر من الممثلين اللذين أديا دوري والديه. وربما ظن المخرج أن هذا سيجعل الممثل يبدو صغير السن، ولكن هذا لم ينجح. وافتقد الممثل أبسط صفات الوسامة، وكان ذلك مقصودا، فالفيلم عن الدميم القصير جدا الذي ينتصر على الوسيمين الرياضيين بالنسبة للحصول على الفتاة الجميلة. ولكن ذلك جعل رغبة السيدة «روبنسن» في التحرش به غير منطقية وكذلك ميل «أيلَين» إليه، لاسيما عند أخذ قلة أدبه وأهانته لها بنظر الاعتبار. وقد ذكر دستن هوفمان أنه عندما قابل الممثلة كاثرين روس للمرة الأولى فكر أنها من المستحيل أن تغرم به.
أما الممثلة آن بانكروفت، فلم يكن اختيارها موفقا كذلك، إذ أنها كانت أكبر من دستن هوفمان بست سنوات فحسب، وليست ضعف سنه كما أدعى الفيلم. ولم تملك أي مقومات الجمال لتجعل شابا في سن الواحدة والعشرين، من الممكن أن يكون معجبا بها، ولكن الممثلة كاثرين روس كانت موفقة في تمثيل دور «أيلَين» وبدت طالبة جامعية، على الرغم من أنها كانت في الثامنة والعشرين من عمرها.
التزم الفيلم حتى نهايته بفكرة عدم معرفة أبطاله الشباب بما عليهم أن يفعلوا، فبعد هروب «بنجامين» مع «أيلَين» من الكنيسة بعد انتهاء مراسيم زواجها وشعورهما بالسعادة في الحافلة، فإن المشاهد يلاحظ اختفاء مظاهر الفرح حيث يظهر الاثنان وكأنهما في حالة حيرة في ما عليهما عمله بعد ذلك.
شهرة الفيلم
قد يكون أحد أسباب شعبية الفيلم فكرة أن شابا عديم الوسامة مثل دستن هوفمان يستطيع منافسة الشباب الوسيمين والرياضيين في الحصول على فتاة جميلة من عائلة محترمة، حيث أعطى هذا، الأمل للكثير من الشباب. ولكن هنالك أسباب أخرى، فقد شهدت نهاية الستينيات ظواهر مهمة في الولايات المتحدة، وهي ارتفاع المستوى الاقتصادي والزيادة الكبيرة في عدد طلاب الجامعات وغيرها من المؤسسات التعليمية، وزيادة تأثير الطلاب على الرأي العام. وعندما عرض الفيلم كان نجاحه هزيلا، فقامت الشركة المنتجة بعرضه في الجامعات الأمريكية في حملة دعائية شارك فيها الممثل دستن هوفمان. وكانت تلك مبادرة ذكية من قبل القائمين على الفيلم، إذ أثار الفيلم إعجاب طلاب الجامعات، وبالتالي بدأت شعبية الفيلم بالتنامي بسرعة. ولكن بعد خمسين عاما كان الفيلم خيبة بالنسبة للذين شاهدوه للمرة الثانية بعد أن شاهدوه في المرحلة الجامعية، إذ اصبحت نظرتهم للحياة أكثر واقعية ونضجا.
اشتهرت بعض مشاهد الفيلم وتم اقتباسها في الكثير من الأفلام اللاحقة والإعلانات، مثل مشهد أخذ «بنجامين» لـ»أيلَين» في الكنيسة ومشهد خلع السيدة «روبنسن» لجاربها الذي استعمل كدعاية للفيلم. وتذكر بعض المصادر أن الساق الموضح في الدعاية ليس للممثلة آن بانكروفت، بل للعارضة ليندا غرَي، التي أصبحت في ما بعد ممثلة شهيرة وأدت دور السيدة «روبنسن» على خشبة المسرح، إذ عرضت قصة الفيلم كمسرحية عدة مرات. وبلغت شهرة الفيلم إلى درجة أن فيلما أنتج عنه عام 2005 من تمثيل كيفن كوستنر وجنيفر أنيستن وشيرلي مكلَين بعنوان «هنالك إشاعة» Rumer has it. قد يتساءل البعض إذا كان الفيلم سينال النجاح نفسه، إذا أنتج الآن عوضا عن عام 1967. وقد يكون الجواب سلبيا، فقد تغير الكثير من المفاهيم الاجتماعية، خلال خمسة عقود، وقد يثير الانتقادات بسبب مشاهد مطاردة «بنجامين» لـ»أيلَين» الملحة، ما قد يُعَدّ دعوة إلى مضايقة النساء.
باحث ومؤرخ من العراق