
محاولة التخلّي عن الأدب للكاتب عبد الفتاح كيليطو

أثير الهاشمي
ما معنى التخلي عن الأدب؟ هل بمقدورنا التخلي عن الأدب؟ متى، ولماذا؟ تلك الأسئلة الموهِمة وغيرها، يطرحها الكاتب عبد الفتاح كيليطو في كتابه «التخلي عن الأدب»، بصورة مباشرة وغير مباشرة، إذ ينطلق الكاتب من خلال لغة مفعمة بالأحكام النقدية، والآراء الذاتية الموظّفة، والهواجس الشخصية المُفترضة، لكنها غير واضحة المعالم في طرحها، غامضة في تقبّلها، يوهم الآخر في تفاصيلها. إننا هنا إزاء رؤية موجزة عن معنى التخلّي عن الأدب، حسب رؤية الكاتب والناقد عبد الفتاح كيليطو، إذ يرى في ذلك طريقين متناقضين، سواء في السياق أو في الأداء، أو في المعنى، فلكلّ طريق مبتغاه، على الرغم من وجودهما تحت نسقية الأدب.
يخوض كيليطو رؤيته النقدية بوصفه قارئاً مرة، وناقداً أدبياً مرة أخرى، فالأولى تتجلّى في قيمة التوازن بينه وبين النص، إذ تتماشَى القراءة لديه من معناها الأصل، أي ما تحمله لغته من ذاكرة مُفترضة، وهذا ما أكّده في ذلك السياق: (أنسى العديد من التفاصيل في الكتب الأجنبية التي أقرؤها، لكن ما لا أنساه أبداً هو ما يرد فيها عن الأدب العربي، هذا لا يعني أنني لا أهتم بما هو خارج هذه الإشارات، وإنما هي ما احتفظ بذكراه على وجه الخصوص). إنّ فعل القراءة لديه يوازي فعل النقد، والسؤال الذي يُطرح: متى تكون ناقداً مختلفاً؟ أعندما تكون قارئاً مُحايداً؟ وبالتالي ما يصير هنا، يكون هناك، أي متى ما تصل إلى مرحلة القراءة العُليا، ستصل إلى مضمون الناقد المختلف، لكن الكاتب كيليطو هنا، يصف نفسه من باب التواضع ربما، بأنه قارئ متواضع عندما تحدّث عن قراءة إحدى الروايات، في عدم صبره في القراءة، إذ يقول: (اطلعت عليها حقا، لكن دون ميل إلى الإقبال على قراءة الرواية بالكامل، ذلك أنني في النهاية قارئ ساذج). إنّ الاستمرار بقراءة النصوص الأدبية، أو بكتابة الأدب للكُتّاب غير المتخلّين عنه، حسب كيليطو، هم (المولعون به، ومَنْ يساهمون في استمراره، كما هو حال أبي حيّان التوحيدي). أما العكس، أي في التخلّي عن الأدب، أولئك الذين صاروا يبتعدون عنه في جوهره ومعناه، لا عن شكلهِ أو الوعاء الذي يُكتب فيه، أي أن المعنى المُراد من التخلي عن الأدب هو الابتعاد عن (الكذب)، حسب كيليطو. يتجلّى (الكذب) في الأدب، كما عُبّر قديما، أن (أعذب الشعر أكذبه)؛ فكلّما كان (الكذب) مهيمنا في النص، كانت عذوبته مُستساغة لدى المتلقي، وبالتالي ما يُطرح في الأدب من خيالٍ وتخييل، يقع ضمن دلالات الكذب لا الصدق، وهذه هي البنية الرئيسية لمفهوم كتاب (التخلّي عن الأدب) للكاتب والناقد عبد الفتاح كيليطو.
يؤكّد الكاتب كيليطو تلك الفكرة، من خلال تبنّيه لأفكار عدد من الشعراء والكُتّاب، ومن أبرزهم الشاعر أبي العلاء المعري الشاعر العباسي المُحيّر في طرحهِ، والمُفكر الكاتب الذي التمس الصدق بعد الكذب، والحقيقة بعد الخيال، والغرابة في الرؤية، بعيدا عن لغة الوضوح، فهو يرى، أي المعري، ضرورة الغموض في الكتابة، أي يُخفي ما هو ظاهر، ولا يُظهر ما هو مخفيّ، وبالتالي يكون وضوحه غموضا، وغرابته أكثر قصدا. يرى الكاتب أن المعري بتخلّيه (عن تقاليد الشعر القديمة، تنكّر بالضرورة لـ»سقط الزند»، التخلّي عن الأدب في ما يخصّه) هو (الابتعاد عن الأغراض التقليدية، عن «المَيْن»، أي الكذب، عن محاكاة ما مارسه وما وصفه السابقون).
إنّ التخلي عن الأدب، فكرة ضمّنها المعرّي في طرحهِ، وأسّس عليها كيليطو في رؤيتهِ، فالفكرة معرّية خالصة، لكنها تُحسب إلى كيليطو في تبنّيها، وفي استنتاجها، إذ هو يرى مضمونها الرئيس في أن الشاعر انتقل من الأغراض التقليدية، المتعلقة بالكذب، أي الخيال والتخييل، كان ذلك يتجلّى في ديوانهِ «سقط الزند»، والتحول إلى الصدق، أي الانتقال من الخيال إلى الصدق، في طرحهِ ورؤيتهِ وغرضهِ، وهذا ما وظّفه في ديوانهِ (اللزوميات) ووفق ذلك، فإننا ما بين الفكرة الأولى (التخييل في التوظيف)، والثانية (الصدق في الدلالة) نجد معرياً منتقلاً من رؤية إلى أخرى، أي اختلف في الطرح والطريقة والأداء، وبالتالي يكون معناه ذا مغزى واقعياً، عقلياً، فلسفياً، ينم عن عقلٍ مفكر، لا شاعرا مُتخيلا. إنّ فكرة التخلّي عن الأدب، هي محاولة واقعية، أكّد عليها المعري في تحولاته لكتابة الشعر، وانتقاله من تخييل الشعر، إلى عقلنتهِ، وحاول تطبيقها في ديوانهِ، فصار فيه، مُفكراً ناظماً للشعر، أكثر من كونهِ مُتخيلاً له.
حاول الكاتب عبد الفتاح كيليطو أن يؤسس لتلك الفكرة، ويطرحها بتحليل دقيق، استوحى ذلك من خلال رؤيته النقدية المُكتشفة لمزايا النصّ، وتحولاته، ومعناه، فأكّد لنا، محاولة الأدباء التخلي عن الأدب، وهي دعوة لنا منه، من خلال طرحنا للسؤال الآتي: أنستطيع التخلّي عن الأدب، مثلما فعل المعري، بتحويلهِ من معنى إلى آخر، أم نظلّ ندرك أن الأدب تخييل، ونحن نبقى فيه ذائبين؟ لا ندري، أن تحولنا في يوم ما، لنكون فيه أكثر صدقا لا تخييلا، وأكثر واقعية لا إيهاما.
كاتب عراقي