الخيال والواقع في أدب نسرين جيهان: بصمات الواقعية السحرية

الخيال والواقع في أدب نسرين جيهان: بصمات الواقعية السحرية
العربي بنجلون
كاتب مغربي
بين الواقعية السحرية والخيال الجامح صلة قرابةٍ، وإن كانت الأولى عــنــصرا أهــم وأقــوى حضورا من الثاني في النص الأدبي، ومن هنا تأتي صعوبة التمييز بينهما. لكن، توجد وسيلةٌ لــتفكيك هذا التمييز، تتجلى في أن الواقعية السحرية تأخذك من يـدك لـتوصلــك إلى العالم المادي الواقعي، بينما الخيال يحملك، بل يرحل بك إلى عالمٍ آخر لا تستطيع، وأنت القارئ النبيه، أن تــماثــله بالواقع، إلا بالكد الذهني، كما يعرفـك فيه على شخصياتٍ غير حقيقيةٍ، أي أن الواقعية السحرية تــقــرن عناصر الخيال بــتــفاصيل الواقع، وتستعــمل الاستعارة تارة، والمجاز تارة، فــتــدخل عناصر الخيال في النص، لـتمزج بين العناصر العادية والاستــثــنـائـية، والـــعـــناصر الـطــبــيــعــية بالـخــيــالــية. وغــالــبا ما تستــقي شكــلها الــفــني الساحر من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية، خصوصا العجيبة منها، ولهذا نطلق عليها (الواقعية السحرية)
وقد دأبنا ـ خطأ ـ على توظيف هذا المصطلح، قاصدين به (السحر) فقط، فيما نستبعــد (الواقعـية) وهما متصلان ومرتبطان، كل منهما يتعلق بالآخر، رغم تناقضهما الواضح. بـيـنما الطريقــة التي تعمل فيها الواقعــيــة السحــريــة، هي أن يكون السحر عنصرا قــويا مـتــجــذرا في الواقع، أي أن الأمرين معا مندمجان
ويجدر بنا أن نشير إلى أن الكاتب جون أنتوني بودن كودون (2 يونيو/حزيران 1928 – 12 مارس/آذار 1996) حدد سمات هذا النمط من السحــر في: الـتجاور بين الواقعي والخـيالي، والــتحــولات الــزمــنــيــة، وتوظيف الأحلام والـمتـاهات، والأساطير والـقصص الخيالية، والتعابير الوصفية، وحتى السريالية، والمعرفة الغامضة، وعــنصر الــمــفــاجــأة، أو الـصدمة الــمفاجئة ويبدو أن تطور الواقعية السحرية، حاليا، نتج عن التناقضات بين عالمين متضادين: عالم التكنولوجيا، وعالم الخرافة، إذ لم تكن شيئا مذكورا قبل الخمسينيات من القرن الماضي، إلى أن صدرت رواية «مئة عام من العزلة» للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي يعود إليه الفضل في نشر هذا الشكل الفني من الكتابة، لحد أن وصفه قاموس (لاروس للكتاب) بـ(أستاذ الواقعــية السحرية) وفي بلاد (البنغال) تعتبر الروائية نسرين جيهان 15 مارس 1964 من أبرز كتاب وكاتبات الواقعية السحرية، إذ لــفــتــت أنظار الأدباء والنقاد منذ روايتها الأولى «أوروكو/ الطائر، أو المرأة التي طارت» 1993 فازت بأهــم الجوائز، وانطلاقا من هذه الرواية، لم تحـد الكاتبة عن قضية المرأة التي تـتمرد على مجتمعها العاجز عن تحريرها من العادات والتقاليد والأعراف، التي تــقــيدها، وتهــمش دورها في الحياة الاجتماعية والثقافية.
فهي تؤمن بحرية المرأة، وتعــتــقــد أن اعــتــمادها على قدراتها الذاتية يحرر حياتها من الخضوع للهيمنة الذكورية والطبيعة أيضا. وإن كانت المرأة البنغالية، اضطلعـــت بأدوارٍ عالــيةٍ، لم تحقــقها أخــتها في غــيــرها من البلدان العربية والافريقــية، وحتى الآسيوية، وهي التي تعــيش في بلدٍ يــنــتــمي إلى العالم الثالث، وتــتــمــيــز كــتــابــة الروائية نسرين، فــنــيا، بـنــثــرها الشعــري، ونهجها النفسي التحليلي للسلوك البشري، والتعامل مع العــقــل الغامض بــدقــة، وتكاد في كل نصوصها القصصية والمسرحية والروائية، حتى في كتاباتها الموجهة للأطفال، تشهد بأنها الوجه الآخر لـسيغموند فرويد، في تحليله النفسي للقلق الفردي والتوبة والخوف، والرغبة والنفور، والحب، والكراهية، والجنس، والحزن، والوسواس، والصدمة.. يبدو ذلك جليا في شخصياتها المضطربة التي تكابد المعاناة الذاتية، وتحتضن الوعي الرومانسي.. تعرضها بلغةٍ قاسيةٍ حينا، وشفافةٍ حينا. ففي كل روايةٍ، تـكبر الشخصية المحورية، وهي تواجه صراعاتٍ دامية، وواقعا قاسيا. مثلا رواية «أوروكو» تعكس العالم الداخلي لامرأةٍ، تـشحذ أظافــرها لمواجهة محيطٍ اجتماعي محافظٍ، يتمسك بالموروث، ويرفض المستحدث…إنها (نينا) الشخصية الرئيسية في الرواية، تشعر في نفسها النشيطة الوثابة، بامتلاكها جناحين قويين، تطيــر بهما إلى العاصمة (دكــا) لتشتغل موظفة بسيطة، هــربا من خليلها، الذي أنجبت من صلـبه طفلا، وتنكر لعلاقته بها.
ولم تــرد أن تعــود إلى قريتها التي تعاني تخلفا وفقرا، ورفضا لأي علاقةٍ حميميةٍ غير شرعيةٍ. فهي ذلك الطائر، الذي غادر قــفصه قهــرا، وإن كان يــوفــر له القوت. وهنا، يغوص وعــيها في الماضي البعيد، ماضي الطفولة، الذي عاشته، سواء بين أفراد أسرتها، التي ترتع في الـفـاقة، أو مع خليلها، الرجل الذي لم يــقــدر أحاســيــســها الأنثوية المتأججة وهكذا تــتــسلح بالصبر والتحدي لكل العوائق الاجتماعية، لتبقى امرأة صلبة الإرادة، تخوض أمواج الحياة لوحدها. غير أن الزمن أقوى من إرادة الإنسان؛ ففي ليلة من ليالي الشتاء، القارسة البرد، ستلتقي بخليلها، صدفة، وسيعاد تأسيس العلاقة الجسدية بينهما. وتستمر الحياة، حفاظا على الحب الذي جمعهما سنواتٍ، وعلى الطفل الذي يشكل ثـمرة علاقــتهما الجسدية
كانت «أوروكــو» بداية تجربة نسرين الـروائــية، لكـــنها تخــلــت عــن أسلوب عرضها ولغـتها الشعرية المكــثــفة، وإن جلبت لها الجوائز والتـــقدير. فهي أرادت ألا تظل مرتبطة بهذا اللونٍ، لتنتقل إلى أساليب حديثةٍ، تــبعــدها عن النمطية، أو ربــما كان ذلك التحول طبيعيا، نابعا من ذاتها؛ ففي بدايتها، وهي الكاتبة الشابة، حاولت أن تجرب أشكالا وألوانا من الأساليب، كي ترسخ قــدمها في عالم الكتابة الروائية، لأن الكاتب الذي يقـتـنع بتجربته الأولى، فيجترها في أعمالٍ أدبيةٍ أخرى، دون أن يصقــلها ويطورها، لا يستطيع أن يحافظ على مكانته الأدبية. فالكتابة، كأي مجالٍ آخر، كائنٌ حي يولد وينمو ويرتقي على يد مبدعه، وإلا أصيب بالشلل فــور ولادتــه. تقول نسرين عن هذه التجربة الروائية الأولى: «أوروكو هي روايتي الأولى، كما أن الطفل عندما يتعلم لأول مرة، يريد أن يتعلم كل شيءٍ، وأن يستوعبه دفعة واحدة، ينظر إلى ما لا يعرفه بعين شقية، ويسميه اسما في قلبه، تلك الرفقة التي كانت لديّ أثناء الرحلة.
لاحظت أن في هذه الرواية بعض التناقضات الدقيقة، التي قد لا تكون ملحوظة للآخرين، وبعض الفجوات التي يمكن ملؤها بأشياء أخرى». وظهر ذلك جليا في روايتها الثانية «نيكونتيلا» وهو اسم شابةٍ، تشغل ذهنها أسئلةٌ حرجةٌ، منذ طفولتها، تطرحها على والدتها، التي كانت أحيانا تجيبها باكية، وأحيانا ضاحكة، وأحيانا تغرق في التفكير. لكنها لم تــتــضايــق من أسئلة ابــنــتــها، لأنها تــعــتــبــر «الرذائــل تــتحول يوما ما إلى فضائل»، فـتـتجرأ لتسرد لها ذكرياتٍ حميمية من حياتها الشقــية، التي لا يستسيغها عــقــل، لخروجها عن السائد في المجتمع، كي تستفيد من تجاربها، فلا تذوق من الكأس التي شربت منها، وإن كانت بعض الأمور، تحتفظ بها لنفسها، وتخشى أن تحكيها للآخرين، لأنها تخالف التقاليد والأعراف. وبين الأسئلة والأجوبة، تستغل الكاتبة تــيار الوعي، أو تدفق المعاني والأفكار والذكريات المتلاشية، التي تـــثــوي في لا وعــي الأم، لتخرجها من منطقة الظلام في سلسلةٍ من الاعترافات التي يرفضها المجتمع. إلا أن الأم بحكيها للأسرار، ستـتحول، مجازا، إلى شقيقة ابنتها نيكونتيلا، أي ستسقط ذلك الجدار الفاصل بين الأم وابنتها بصدقها وصراحتها، فيغدوان بمثابة أخــتــيــن، كأنهما «توأم، ولدتا من الجنين نفسه» وبذلك، تعيش هذه الشابة فصلا مؤلما في مرحلة بلوغها، على الرغم من أنها فتحت عينيها على عـائــلــةٍ واعـيةٍ، تصفها الكاتبة بـ(المياه الذهبية) العذبة الــجــارية، وليست الراكدة الآســنة، الــتي تحرم أولادها وبــنــاتــها من تجــربة الــحــيــاة الحقيقية.
وفي روايتها الثالثة «رحلة القمر الأولى» استطاعت أن تتخطى تجربتها السابقة، لــتــنــتــقــل إلى مستــوى آخر، تخلــق فــيه قصصا على شكل حكاياتٍ خرافيةٍ، إذ يستحيل فصل صور الحياة الواقعية عن عالم الحكايات الخرافية. وهي تعــتــبــر أقصر نصوصها الروائية، تــتــألــف من ثمانٍ وستين صفحة، حاولت في بنيتها الروائية، أن تــوحد بين الواقع وعالم الخيال، وتستغل عنصري التــركــيــز والتــكــثــيــف في المعنى البعيد للتحول الطارئ نتيجة الحروب. تستهــل هذه الرواية بالمقطع التالي: اسمها شاندرا ليكا ويقال أنجبها نهرٌ. طبعا، هذه أسطورة تحكى بأوجهٍ شتى. كانت تطفو على سطح خشبي.. لم يستطع الماء الهادر أن يلمس أنفاسها. الجميع يعي جيدا أن المرأة التي تحملها المياه أكثر من مجرد إنسان. بالنظر إلى جبينها المتلألئ، يمكن للبشر من كل الأديان واللغات والحضارات أن يــروا علامة دينهم متألقة هناك.. فوق تــل يعيش خفاش. يأتي ليلا إلى سطح شاندرا الجميلة، ويحط على أناملها الناعمة، فــيطــأطئ الناس رؤوسهم طائعين خاضعين. تسكن شاندرا قصرا خشبيا، نصفه في مياه النهر الجارية، ونصفه الآخر فوقها. حبات المسبحة البيضاء تزين جسدها، ولون بشرتها مزيج من الحليب والدم. لا تظهر كملكة هذا البلد، ولكن عندما تتوهج أسنانها البيضاء في الكون، وترى جموعا تــتــســمر أمامها، يصدح صوتها عاليا بسرعة العاصفة، ثم تظهر قوتها وقـدرتها على التنويم المغناطيسي، وهكذا تستمر في تسييرهم وتوجيههم نحو ما تريد.
وما أن نجتاز عتبة الرواية، حتى تبدأ الراوية في سرد خيوطٍ من حياة شاندرا؛ فهي كانت تعيش في بلدٍ ناءٍ، دون أن تحدد اسمه، ولا جهـته، تعرضت للاغتصاب في حقبةٍ سادت فيها الحروب. لكن إرادتها لم تنكسر، فــقــد قادها صبــرها وتــشبــثها بــالأمـل إلى أن تعـتـلي عــرش بـلـدها، وتــنهــج ســلــوكــا حميدا يحافظ على علاقتها بوطنها، تــتعايش فيه كل القوميات بلغاتها وعقائدها وتقاليدها… فهل كانت نسرين تحلم بأن تــتــشكــل بنغلاديش من جديد، بعد أن كان الأوروبيون يعــدونها أغنى بلدٍ، يمكنهم التعامل معه، لولا الحروب الضارية؟ وهل ترى أن الرقي والتطور لن يتحقق إلا بمشاركة المرأة؟ وللكاتبة نسرين أضموماتٌ القصصية، منها (رقصات ثعبان آدم) تحتضن عشر قصصٍ، وقاسمها المشترك هو (الثعبان)، الذي تــبــنى الإنسان سلوكاته. وهنا، نثير السؤال التالي: هل توجد، فعلا، ثعابين تعاشر البشر؟ طبعا، لا نعني الثعابين الحيوانية بعينها، إنما نقصد تلك النماذج البشرية السيئة، التي لا تجــد حرجا، فــتــؤذي الآخرين بأقوالها وأفعالها البذيئة. وفي المقابل، توجد الحمائم الوديعة التي تـنشر الخير والوداعة والسلام بين البشر.. لكن الكاتبة، تركز على الأولى، لأنها الأكثــر ظهـورا في المجتمع، والأقوى إيذاء للبشر.. والسؤال: لماذا يــتــخــذ الثعبان رمــزا للخديعة والفتك والقتل في الأدب والدين والأساطير؟ ألا يعيدنا هذا الرمز إلى إبليس الذي أغوى حواء وآدم لأكل الفاكهة؟ ألا نرى الثعبان في القرآن الكريم، والكتاب المقدس مرتبطا بالشيطان؟ كذلك، تركز الكاتبة نسرين على دور الثعبان، الذي يتخذ شكل (الفكر المتخلف) في تأجيج الصراعات بين البشر، بخلق التناقضات، كالفقر والغنى، والخير والشر، والحرب والسلم…ذلك ما نــلــفــيــه في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها «رقصات ثعبان آدم».
كاتب من المغرب