كتب

«اسمه الأسمر» رواية العماني محمد الشحري: مثالب الاستعباد كأصفاد لنسائم الحرية

«اسمه الأسمر» رواية العماني محمد الشحري: مثالب الاستعباد كأصفاد لنسائم الحرية

المثنى الشيخ عطية

تنجو الروايات المتداخلة بالسياسة، أو حتى التي جعلتْ «السياسيّ» محوراً لها، من وصفها بالانحياز إلى غير الإنسان؛ أو انتقاصها بوصف أنها «سياسية» من دون وجه حقٍّ، إن أجادت كيفية التداخل بعمقٍ في السياسة، واتّصفت بحكمة الموضوعية فابتعدتْ عن ممارسة الاستئثار بملكية الحقيقة. إذ لا شيء يقتل الرواية أكثر من تبنّي معتقدٍ إيديولوجي ما، والترويج له بالرأي خارج حقيقة سلوك الشخصيات المرسومة، وأكثر من الحكم على المعتقدات المخالفة بحدّ سيف الترويج الفجّ.
ولا يجانب النجاحُ الرواياتِ المعالَجةَ بالسياسة تلك عند تداخلها بالحبّ/ غالباً أكثر من أيّ عنصر آخر، كما لا يضيرها تداخلها بالمنفى السياسي أو الكفاح المسلّح في الثورات المسلحة أو السلمي في المظاهرات والاعتصامات، أو مسائل المجتمع العبودي أو الذكوري، أو معاناة الفقر والظلم، أو صراع الطبقات، إن اتّصفت بالجرأة على تعرية الذات التي يُقزّمها ضيق الأفق الإيديولوجي. فالسياسة شاء المرء أم أبى تتداخل بكل تفاصيل الحياة وتؤثر على قوت الناس وآمالهم بما يوفر لهم الخير والحرية والسعادة، ولا شيء يهرب من تداخلها به حتى الحبّ.
رواية الكاتب العماني محمد الشّحري التي وضعها تحت عنوان «اسمه الأسمر»، معجونة بالسياسة، رغم إيحاء عنوانها بالحبّ، لدى المجتمعات التي لم تجلدْها سياط تجارة العبيد/ الأفارقة، في الخليج وعُمَانَ على وجه الخصوص. وتغنَّت باللون الأسمر كعشيق جميل، تردّده الآهات بـ: «آه يااسمراني اللون/ حبيبي الأسمراني»، ودمغتْ مغنياً فذاً مثل عبد الحليم حافظ بلقب «العندليب الأسمر» كمثال.
ويكتشف قراء هذه المجتمعات البعد السياسي لهذا العنوان من خلال تطور التعامل معه في الفصل الثاني من الرواية وما بعده، في الوقت الذي يدرك فيه قراء الخليج، مضافاً إلى الحب، إيحاءَ العنوان بلون الأفارقة السود المخطوفين الذين تم الاتّجار بهم عبيداً. وحوّلتْه المجتمعات الجالدة المجلودة بهذه السياط، اعتذاراً منها ربما على تاريخها «الأسود» المبرّر دينياً، وتقرّه الكتب المقدّسة، إلى «الأسمر».
وباسمها الأسمر، الذي تعلمه عليٌّ كاسم له خلال نضاله من أجل الحرية في ثورة ظفار، تسير رواية الشّحري على صراطٍ خطِرٍ مجدولٍ بفخاخ السياسة، بدءاً من عرضها لصراع الفقراء من أجل العدالة والمساواة والمَلَكية الدستورية ضد المَلَكيّة المطلقة، وصراع العبيد من أجل الحرية، وصولاً إلى دمج الحرية بالكرامة كجزء من ثورات الربيع العربي الطامحة إلى بناء دول مدنية ديمقراطية.
وبخصوصيةٍ أكثر عمقاً، تتمحور الرواية حول مثالب العبودية ولصوقها بالمجتمع، حتى بعد إلغائها، سلوكاً يدمّر طاقات السادة والعبيد ومن تربّوا على قيم العنصرية والاستعلاء على السواء، ويصعّب حالات تشافيهم. إذ تتحوّل العبودية تشوُّهاً في النفوس يوجّه سلوكها إلى غير ما تطمح من سيادةٍ للعدالة والمساواة، على صعيد عام، وإلى غير ما تشتهي من علاقاتِ حبّ صحيةٍ تولّد السعادة، على الصعيد الشخصي. حيث يكتشف القارئ وفقاً لبناء شخصية بطل الرواية الثاني سعدون سلوكه الذي يحتار هو نفسه فيه ويعتذر عنه مع إدراك خسارته، لحبيبته عفاف، التونسية التي تحبّه وتساعده على نيل شهادة الماجستير في القانون الدولي.
ويقوم هو بخيانتها في منتهى نذالة السلوك، إذ لا يخونها مع أخرى فحسب، بل يتركها في ملهى يسهران فيه، ناسياً إياها من دون نقود ومن دون هاتف، ليذهب مع بائعة هوى. وتقبض عليها الشرطة كواحدة من بائعات هوى الملهى، حيث يقول لها في رسالة وعيه بخطيئته: «عفاف، بكل صراحة وأمانةٍ أقولها لكِ، وبدون أي مجاملةٍ أو استرضاء، أنتِ ملهمةٌ وتستحقِّين الأفضل بالتأكيد. نعم خذلتُكِ وخنتكِ، لكنني لا أبحث عن أعذار، ما مضى انقضى، مثلَ أعمارنا التي ننزفها على تقاويم الزمن، كم تمنيتُ أن أقدّم لك ما يليق بك، لكنني فشلت، أيضاً أعترف بالفشل في الاحتفاظ بك. كنتِ لي مصدر السعادة والإلهام، لكنْ ماذا أفعل لقدَري الذي يحْرِمني عادةً من الأشياء الجميلة؟! كأنَّ حظي يعاندُني أو أنه مكتوب عليَّ الشقاء وفي كل أحوال الأمر المرير الذي يعصف دائماً بصاحبه».

شخصيتان صقلهما سندان العبودية بالتضاد:

في رسمه وتطويره لشخصية الأسعد أو سعدون، في الفصل الأول من الرواية: «خريف 2014»، مثل كل الفصول الثلاثة عشر التي اختار لها الزمنَ فاصلاً؛ يمهّد الشحري لقارئه، التعرّف على هذه الشخصية بكونها شخصية موظف في وزارة الداخلية العمانية يعود إلى تونس التي يعرفها من قبل، ضمن وفد رسمي في حدث لقاء وزراء الداخلية العرب. ويستعيد ذكرياته عن تونس قبل عشر سنوات، وعن مغامراته الغرامية فيها، وفساد شرطتها التي ابتزته مع حبيبته عفاف في عهد بن علي. كما يستعيد ذكرى علاقته بهذه الفتاة، التي درس معها الماجستير في معهد الدراسات الدبلوماسية والعلاقات الدولية، مع إشارات في الذكريات تمهّد إلى أسباب دمار علاقة حبهما، وتتكشف في الفصول اللاحقة عن خلل شخصية الأسعد، والأسباب التي تعود إلى مفاجأة طفولته العادية الميسورة كابن مدير مدرسةٍ، بمأساة اعتقال أبيه سياسياً، رغم معتقده الديني الإسلامي الأقرب إلى التطرف بمحاربة أعداء الدولة الشيوعيين من بقايا الحركة الوطنية، ومنهم خال ابنه علي الأسود.
وفي رسمه لمعاناة الطفل من التمييز في المدرسة، ومن الفقر بعد إيقاف السلطة لراتب أبيه واستيلاء البنك على بيته، ودراسته ثم استحالة توظيفه بسبب أصله المتواضع، يكشف الشحري مع تداخل الفصول التي تعرض شخصية خاله الموازية، مدى التشوه الذي أصاب شخصيته. وذلك بفعل العلاقات الاجتماعية التي لم تستطع الخلاص من العنصرية والتمييز بعد إلغاء العبودية، وفعل فساد وظلم الحكومة، لكي تتحول إلى شخصية انتهازية لا تجد الراحة لها ولا تريح من يقيم علاقة بها، رغم تميّزها بالجمال والكرم.
في المقلب الموازي يبلور الشحري، عبر تداخل عرض شخصية الأسعد، شخصيّة خاله الأسمر، الذي وصل الثلاثين من عمره، عام 1984، لاجئاً سياسياً في عدن، يعاني غربةً عن الحركة الوطنية التي ينتمي إليها، بعد تطور وعيه السياسي، بفعل دراسته للحقوق في دمشق واحتكاكه بحركات التحرر. ويقرّر العودة إلى بلاده، مخدوعاً بدعوة مخابراتها للتصالح، لكنه يندم على العودة، ويستمرّ في نضاله، ليُسجن ويعذّب، ويبقى نظيفاً.
عن تكوّن شخصيته، يعود الشحري إلى رسم طفولته، فتىٍ يحقد على السلطان سعيد وحاشيته، بسبب موت أبيه عند وقوع سيارة السلطان التي يحملها مع الخدم على رأسه، دون تعويض عائلته. ويهرب لكي يتعلم ويعيلها، ثم يلتحق بالحركة الوطنية التي تعاني بعدها من الخلافات، ويعاني منها، إذ تعدم خالته على وقوفها ضد التصفيات الدموية فيها.
يعيش علي الأسمر قصة حبّ مع رفيقةٍ بحرينية تدرس الأنثروبولوجيا الثقافية في بيروت، ويُفجع بفقدها إثر تفجير سيارةٍ في شارع الحمراء، فيقرر أن لا يقيم علاقةً بعدها.

بطولة منظومة السرد:

لا يصيغ الروائيون المحترفون أو الموهوبون إن كان عملهم روايةً أولى، عملَهم وفق عناصر الكيفية الروائية، مثل بنية الرواية والتشويق والثيمة الناظمة ومنظومة السرد، عبثاً؛ إذ تفشل الرواية عندما لا تتمتع عناصر الكيفية بنبض حياة خيوطها الواصلة بينها وبين القارئ. وقد يكون مبرَّراً لمراجعة الرواية، كونها قراءةً لا أكثر، خروجُها على محدّدات النقد باعتبارها منظومةَ السرد، في الرواية المقروءة كمثال هنا، بطلاً من أبطال الرواية.
وفي هذا، يصيغ الشّحري روايته وفق منظومة تعتمدُ صيغتين للسّرد هما سردُ المتكلّم عن نفسه والآخرين، وسرد الراوي العليم عن الشخصيات والأحداث، وبما لا نعرف في هذه الرواية من هو الراوي غير الكاتب، إذ لا يتم الكشف عن آخر غيره.
ويُشابك الشّحري صيغتيِّ سرده في جريان الرواية من دون فواصل العناوين أو النجوم أو الفراغات بين الأسطر، حيث يجري الانتقال دون إشارةٍ، من صيغة الراوي المتكلّم إلى الراوي العليم أو العكس. بما يدفع القارئ للبحث في أول انتقال إن كان هناك خطأ ما في حرف تاء الحاضر أو هاء ماضي المخاطب؛ قبل أن يدرك من تكرّر الأمر أنه أسلوب الكاتب في صياغة سرده، وجعْل هذا السرد منظومةً وأسلوباً للرواية، لا يثير الشعور بالقطع عند تكرره.
وبتساؤل القارئ عما إذا كان هذا فذلكةً من الكاتب، فإن شعوره باختلاف مستويات تأثير الصيغتين فيه ما يلبث أن يسعفه بالإجابة، إذ تضعُه صيغة المتكلم أمام مرآة ذاته، لمراجعة ما فعل أو سيفعل عند وضعه في الخيارات الصعبة؛ حيث تحفل الرواية بالكثير من الكشف والمعالجة النفسية العميقة:
ــ في حالاتِ ما يدفع للندم من الأفعال الخاطئة التي يرتكبها بطل الرواية الأول علي الأسمر، على سبيل المثال من سوء تقديره لما يُعرف «بالعودة إلى حضن الوطن»، والذي تضعه مخابرات الدول، مثلما حدث بقوة في أحداث الثورة السورية، فخّاً لإفراغ المناضلين من روح الكفاح والمقاومة. أو قتْلهم مثلما فعلت بأحد ضحايا تعذيب نظام الأسد العائد مازن حمادة عندما لا تستطيع كسر أرواحهم؛ ومثلما يحدث مع «الأسمر»، الذي يدفعُه الندم من العودة المشروطة، إلى التمسّك بإنسانية روحه، وجبْر كسرها بالحفاظ على نظافته، وتحوّله عنواناً للحرية وللرواية.
ــ وفي حالات ما يدفع للندم من الأفعال المشينة التي يرتكبها بطل الرواية الثاني الأسعد، الذي يتخلّى عن اعتصام مسقط، في ربيع عمان، ويقبض المال، والوظيفة في وزارة الداخلية ثمناً لخيانته رفاق الاعتصام والشعب الذي يكافح سلمياً من أجل الحرية والكرامة؛ وينال تدمير الروح وفقْد الحب وسَكينة راحة الضمير، رغم مواجهة نفسه واعترافه.
وفي الحالتين، يبلور الشحريّ شخصيتيه، وفق إثرائهما بقوة تأثير منظومة سرد المتكلم، الأسمر كمناضل نظيف ينطبق عليه اسمه المقرون بالحرية، في حواره مع ابن أخته الأسعد الذي جرى وراء مصالحه الخاصة، وفي إعجاب أخته أمل بخالها لتلاعبه بالكلمات مثل اللاعب ميسي الذي يتلاعب بالكرة واللاعبين، ومزاح خالها معها بتماثله ليس مع ميسي، وإنما مع اللاعب البرازيلي المنسي سقراط، الطبيب المثقف ورفيق الحرية. والأسعد، الذي يقع بقلّة تجربته، ورعونته، في شرك الانتهازية الذي يلاحقه بالخزي.
ويكمل الشحريّ سرد الراوي العليم عنهما أنهما: «الأسمر شخص نبيل، لا يحمل ضغينة لأيّ أحد، يبادل الجفاء بالمحبة والمودة، يقال إنها خصال المناضلين الثوريين، عكس ابن أخته الأسعد الشاب قليل التجربة والحكمة، الذي يراكم الخلافات ويحولها إلى عداوات، كل من يختلف معه يعاديه، يحمل في ذاته سلوك الجبان والمهزوم وأسلوب الذي تستفزه كل كلمة».
وفي ختام روايته، بنجاحٍ أو بمنزلقٍ مختلَفٍ عليهما، ربّما لتأكيد خسارة شخصية الأسعد الانتهازية أكثر، يقفل الشحري الرواية بباب مفتوح، يثير الأسى على الفتاة التونسية الذكيّة المثقفة الطيبة عفاف، التي تُغْني الرواية بمعرفتها العميقة عن طبيعة الرجال والنساء في الحب، وهي ترحل بحدوث تفجير إرهابي في شارع بتونس.
محمد الشحري: «اسمه الأسمر»
دار الآداب، بيروت 2024
248 صفحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب