حنين لجذور سردها له جده عن المنشية.. و«زهر يافا»

حنين لجذور سردها له جده عن المنشية.. و«زهر يافا» أنعشه ورافقه وولد ألبوماً من 12 مقطوعة محمد نجم في فندق البستان: فرح وشوق للقاء.. مخيلتي تقول بأن موسيقاي ستنال إعجاب الجمهور
زهرة مرعي
بيروت ـ :من فندق البستان ستفوح رائحة زهر الليمون واصلة للتو من يافا. زهر ليمون برائحة زكية لا تحتاج لجواز سفر، وتعصى على الإبادة. «زهر يافا» يحمله الموسيقي محمد نجم والرباعي، إلى جمهور يتواصل معه، ويتقرّب منه بالاستشعار عن بعد. زهر ورمل ومقتنيات أخرى، يحملها في قلبه صاحب ألبوم «زهر يافا»، الذي يشكل مع ثلاثة من زملائه رباعيا فنيا موسيقيا.
في «زهر يافا» المؤلف من 12 مقطوعة تظهر جلية موسيقى عازف الكلارينت محمد نجم. يعتمد الجاز المعاصر، ونظام الصوت المعاصر، وبهذا الألبوم يرى أنه أعاد جده ابراهيم إلى مكانه الأول في منشية يافا عبر الموسيقى، وحيا روح والده المولود في غزة كلاجئ من يافا، ومعهما شعبه المعذّب والصامد.
الجمهور الفرنسي خاصة والغربي بشكل عام ينظر إلى محمد نجم كموسيقي فلسطيني بارز، بعد أن تعرّف إلى موسيقى الثلاثي جبران. فنجم يختزن معارف ثقافة ثلاثية تتألف من الكلاسيكي والشرقي والجاز.
إذاً إلى مدينة البرتقال يافا التي ابتلعتها مستعمرة تل أبيب سينقل ألبوم «زهر يافا» المتلقين في فندق البستان.
هنا حوار مع الموسيقي والمؤلف محمد نجم:
○ مهرجان البستان عريق ونخبوي هل هي إطلالتك الأولى منه على لبنان والشرق؟
• نعم لأول مرّة أكون إلى جانب الرباعي. لكني عزفت الكلارينت في لبنان كعضو في أوركسترا شباب فلسطين، حيث رافقنا الفنان مارسيل خليفة في قصيدة «أحمد العربي» ضمن إطار مهرجانات بيت الدين الصيفية 2009. صحيح هي الإطلالة الأولى لمجموعتي في شرق المتوسط، أن تكون الإطلالة ضمن مهرجان البستان الذي يحمل تاريخاً متراكماً من الخيارات التي يقدّمها لجمهوره، فهذا يعني لي الكثير. فَرِح بأن يكون الرباعي أحد اختيارات المهرجان لهذا العام، ومن جهة، وأن أكون في لبنان لتقديم ألبومي فهذا مؤثر عندي. كفلسطينيين نحمل في ذاكرتنا الموسيقية وآذاننا ما قدمه لنا لبنان من أسماء فنية وموسيقى، وأتمنى أن يلبي ما أقدمه ذائقة الجمهور اللبناني. وفي مخيلتي أني سأنال اعجابهم كون الموسيقى التي أقدمها تدمج بين هويات عدّة. ونحن في منطقة ما يُعرف ببلاد الشام متأثرون بعضنا بالآخر في الهوية الموسيقية. وكفلسطينيين نقول بأن أذننا اليُسرى تتجه إلى لبنان، واليُمنى إلى مصر. نشأنا منذ الطفولة على أغنيات صباح ووديع الصافي، وزكي ناصيف وفيروز والأخوين رحباني وزياد، ومن دون شك متأثرون بالذاكرة الراسخة بداخلنا.
○ وماذا عن الريبرتروار الذي أعددته لـ18 آذار/مارس في فندق البستان؟
• «زهر يافا» بالتأكيد، وهو جديد أقدمه في جولاتي، يتضمّن 12 مقطوعة من تأليفي، لكل منها قصتها وموضوعها، وهي تجارب شخصية عشتها. سردية عن يافا المدينة التي ينتمي إليها جدي وولد فيها قبل النكبة، وبالتالي هي مدينتي ولي فيها إرث بالتأكيد. وفي هذا الألبوم مقطوعة عن حياتي في بيت لحم ودراستي فيها، إلى موضوعات عن الحب، وغيرها، ويتضمّن الحفل مفاجأة فنية خاصة بالمهرجان.
○ هل تهاب جمهوراً جديداً؟
• عندي حماس كبير لهذا الحفل بالتحديد. جميعنا يعيش هيبة المسرح قبل الحفل بحوالي الساعة، وعندما تحين لحظة الخشبة وكأنّ أحدنا يُبدّل ملابسه بأخرى. جوابي بأني متحمّس أكثر من كوني خائف، سبق وعزفنا الألبوم في الغابون وقطر وفي بلدان أوروبية كثيرة وصولاً إلى جزر المارتينيك الفرنسية، ودائماً أشعر بالحماس لأكون مع تجربة صوت جديدة خاصة بالصالة، وأنتظر التفاعل مع الجمهور بشوق كبير.
○ عندما قررت أن تسمي ألبومك «زهر يافا» هل خطر لك أنك ستُسأل عن معنى يافا؟
• عندما نعيش في الغربة تلحُّ علينا الجذور، فنستحضرها. نعود للقصص التي رواها لنا الأهل والأجداد، يعود الحنين لصحن الزعتر والزيت، ونشمُّ رائحة طعام الأم. وتنبعث الألوان الراسخة في الخيال من جديد. إثر وفاة والدي قبل أربع سنوات بدت الحاجة للعودة إلى الأمكنة التي تمنحني الأمان والدفئ أكبر، ولتخطي الصعوبات التي واجهتني، وجدت في الإنتاج عاملاً مساعداً، تفرّغت للتأليف، وإذ بمخيلتي تنقلني مباشرة إلى قصص جدي ووالدي، وهكذا توالدت فكرة السعي للتوثيق ومن ثمّ التأليف. أعدت بناء الحي أو المدينة التي سُرقت من ذاكرتي، ثمة ذاكرة جماعية أحمل كفنان مسؤولية الحفاظ على جزء منها، لمن سيأتي بعدي في المستقبل، فقد يقتدون بمن سبقهم. إنها دعوة لكل من لديه قصة كي يرويها، وأن لا يتركها عرضة للنسيان، حاولت إعادة تشكيل هيكلية يافا عبر الموسيقى، توقعت سؤال لماذا زهر يافا؟ في حين أن يافا المدينة التاريخية معروفة، وثمة معان متعددة للزهر، ومصدره زهر البرتقال التي اشتهرت به يافا قبل احتلالها.
○ «زهر يافا» ولد في زمن إبادة القرن الـ21 في غزّة. فكيف تمكنت من تحضيره؟
• في الواقع انتهى العمل على الألبوم في شهر حزيران/يونيو من العام 2023. واُنجز التوقيع على العقود المتعلّقة بإنتاجه في أوائل شهر ايلول/سبتمبر. وكان السابع من تشرين الأول/أكتوبر، حيث حاصرتني دوّامة مرهقة، سعيت للإلغاء والتأجيل. دخلت في عراك داخلي شخصي، وأصرّ المنتج على الالتزام بالوقت المحدد نظراً للارتباط ببرنامج حفلات. حاورت أصدقاء مقربين، وكان رأيهم الآن هو الوقت المناسب لصدور الألبوم. فالضرورة تستدعي الإثبات بأننا شعب يحب الحياة، وإننا نقاوم بالموسيقى أيضاً، وتذكرت كذلك بأن والدي ولد في غزّة، وعاش لسبع سنوات من حياته في حي الرمال. وكوني أبتعد عن القصص المباشرة قلت بأن الألبوم يتضمّن قصصاً عاشها جدي قبل 70 سنة، وهي الآن تحصل أمامنا مباشرة وبالتقنية ثلاثية الأبعاد. فيافا الساحلية هي عكا وحيفا وغزّة بالتأكيد، وتملكتني قناعة بأن أي إنتاج فلسطيني هو مهم، ومن واجبي مواصلة العمل، وفي الوقت عينه كنت أمام مخاطرة إنتاج عمل في فرنسا كمواطن فلسطيني، فنحن جميعاً بتنا معادين للسامية ومجرمين بعد السابع من اكتوبر. إلى المخاطرة بعمل يحكي عن يافا وفلسطين التاريخية المحظورة، تحملت تلك المخاطر وشددت عزيمتي، والحمد لله وجد الألبوم الكثير من النجاح. ووصلت الرسالة تماماً.
• رباعي محمد نجم أحيا حفلات في زمن الإبادة وأنت معروف كموسيقي فلسطيني. كيف تفاعل معك الجمهور الذي يعرف خلفيتك؟
• ألمس التفاعل في عيون وآذان الجمهور. قبل وبعد السابع من أكتوبر الحفلات مكتملة الحضور، والحمدالله. بعض الجمهور يجذبه فضول التعرّف إلى رباعي محمد نجم والجاز، وبعضهم يقول لذاته لنتعرّف إلى عازف الكلارينت الفلسطيني أو العربي. وآخرون تجذبهم المتابعة المباشرة بعد مشاهدة لفيديو أو قراءة عن المشروع، شعوري أنهم جميعاً قصدوا الحفلات في زمن الإبادة كنوع من التكاتف والتلاحم، كوننا معاً نحمل الوجع نفسه، والمشاعر الإنسانية نفسها.
○ هل للموسيقى صدى في هذا العالم المتوحّش؟
• لأني طرحت هذا السؤال على نفسي قررت المضي بإنجاز الألبوم. بعد العدوان على غزّة طرحت السؤال على نفسي مئة ألف مرّة، وما زلت أكرره. أدرك بأن الموسيقى مرآة المجتمع ومرآة الداخل، وفي حاضرنا قد تكون الموسيقى لغة الروح، والصوت والكلام هما لغة العقل والوجدان، وليس للموسيقى تعبير يوظّفها في كلمات. عندما يسمعها أحدنا يتأثر بالتأكيد، لكونها موجات، وجزء من الروح البشرية. أن تستمر الموسيقى، وأن يكون لها مريدون، يعني أن الروح ما تزال موجودة. وهي من تضع تعريفاً للبشر. الأمل يستمر من خلال هذه الخلاصة أو المعادلة، والتوحّش الذي نحن حياله قديم العهد، ومنصّات التواصل الاجتماعي كثّفت وصوله مباشرة وسريعاً للناس. وهنا أعود لشعر محمود درويش «سقط القناع» إنما عن ماذا؟ «عن القناع». ثمّة قناع سقط إذاً. تعبّر الموسيقى عن وجدان الشخص، وعندما تُنتج أغنية ثورية لمرسيل خليفة أو سميح شقير أو أحمد قعبور أو آخرين، فستكون مرآة المجتمع وتعبيراً عني وعنك وغيرنا من الناس. وعندما يُقدّم أحدهم مقطوعة موسيقية، لن أحتاج الكلام، بل أحتاج سماع لغة الروح. لغة تُربت على كتفي وتساعدني لمتابعة الطريق.
○ الموسيقى لغة الروح، والموسيقى تُعبّر عن روحك، فهل كانت هذه الموسيقى حزينة أو تبكي في جديدك أو بعضه؟
• إنها مقطوعة «إلى أبي»، أنجزت تسجيلها في الأستوديو، ثمّ انهمرت دموعي وفقدت السيطرة. مقطوعة لصيقة بقلبي، ولم أتوقع ما حدث إثر تسجيلها. لا أسمي تلك المقطوعة بالحزينة، بل بالروحانية، إذاً عودة لسؤال الروح.
○ لدى التسجيل هل تتبع التقليد الموسيقي أم يجذبك الارتجال؟
• بالتأكيد أعتمد النوطا. وفي كل مرة نعزف المقطوعة يختلف الآداء قليلاً عن التسجيل، وهذا غير مقصود، ويشبه المغني الذي يفقد الاهتمام إن أدّى العُرب نفسها في كل حفل. إذاً في كل حفل ثمة جُمل موسيقية تُقال بطريقة تختلف عن السابق، إنما يبقى اللحن محتفظاً بهويته.
○ تصف موسيقاك بأنها روحك وهويتك وحكايات جدك وواجبك إعادة سردها. ماذا تعني تلك الموسيقى لزملائك الغربيين في الرباعي من عازف البيانو والكونترباص والإيقاعات؟
• لم يُطرح أحد السؤال من قبل. نحن الرباعي نعزف معاً منذ سنة 2016، فقط حلّ جديداً عازف الكونترباص أرثور هن. أحكي لهم القصة بكل ما فيها من مشاعر. وأطلب منهم تعبيراً أشعر به خلال عزفهم. صدف أن عازف البيانو خسر والده قبل تسجيل الألبوم، وكان الأكثر احساساً معي خلال تسجيل مقطوعة «إلى أبي». لغتنا الموسيقية المشتركة مكنتنا من التفاهم خلال العزف. رغبتي من زملائي الثلاثة أن يحتفظوا بهويتهم الموسيقية وبعدم السعي للاقتراب من الهوية الشرقية. ولكوني درست الموسيقى في الغرب وأعرف موسيقاه، كان الاتفاق أن يقترب زملائي من موسيقاي بمقدار خطوة. وهذا ما حدث. ولأن الموسيقي حسّاس، يحتاج إلى قصة تأخذ بيده إلى المطلوب، وبالتأكيد نمرّ بتجارب قبل أن نرسوا على المراد بضوء إضافي هنا، أو بقليل من العتمة هناك.
○ كيف تفسّر الضوء والعتمة في الموسيقى؟ وكم تشبه الظل والنور في الرسم؟
• العزف بوتيرة معينة قد يشعرنا بمقطوعة مُعتمة، أو لنقل «مْعَبْأة». نضيف للحن نفسه بعض الضوء فيتألّق، الموسيقى شبيهة بالطبخ، مع قليل من البهارات او الملح تتميز بروحها. ولكل مقطوعة خصوصيتها.
○ لماذا لم تزر يافا؟
• كنت حيال فرصة لزيارتها، وبالوقت نفسه قرار بعدم الزيارة. جدي ولد ونشأ في حي المنشية قريباً من البحر. الاحتلال حوّل المكان إلى حديقة وجرف الحي، وإذا زرت يافا لن أجد أثراً لحكايات جدي. أريد للصورة التي رسمها لي أن تعيش في خيالي. يافا بالكاد موجودة الاحتلال محا هويتها.
○ وماذا عن الفيديو كليب ورمال يافا وحجارتها وبعض من زهر الليمون فيها؟
• صديقتي ربا أتت بها. رمال من بحر يافا، وحجارة من أرضها. وفي بيتي شجرة برتقال تظهر في الفيديو، تعذّر الإتيان بها من يافا. رموز عزيزة جداً على قلبي.
○ من هم أعضاء الرباعي؟
• بيانو كليمون بريول. كونترباص آرثور هين. طبول بابتيست كاستيت.
○ ما هي أسماء البوماتك؟
• هي ثلاثة «الطابق الرابع، لقاء لويشتر ـ نجم، وزهر يافا».
«القدس العربي»