ثقافة وفنون

بين الأصالة والتجريب: ملامح الحداثة في شعر دلال جويد

بين الأصالة والتجريب: ملامح الحداثة في شعر دلال جويد

ضياء الجنابي

أماط عنترة بن شداد اللثام عن كشف نظري مهم وحقيقة نقدية جديرة بالتوقف والدراسة، ألا وهي ظاهرة انتقال الجينات النصية من أعمال المبدعين القدامى إلى أعمال المبدعين الجدد بوعي أو بدونه، وأحيانا يتكأ بعض أصحاب القلم الأحياء بقصدية على الإرث الذي تركة الغابرون، لأنهم ببساطة يعترفون أن الأوائل لم يتركوا جزئية في أي حقل معرفي إلّا وأدلوا دلولهم فيه للحد الذي تعسر عليهم الإتيان بالشيء الجديد أو غير المطروق بتعبير أدق، وفي أحيان أخرى يصل الأمر عند البعض إلى الاتكاء القصدي وغير القصدي على نتاج المعاصرين كذلك بطريقة السطو المباشر الذي يصطلح عليه جزافاً بـ (السرقة الأدبية)، وهو مؤشر خطير وفعل مشين يقترفه أنصاف الموهوبين، وعودة على ذي بدء فقد حدد عنترة أبعاد هذه الظاهرة اللافتة بشكل مكثف وصريح ودون تورية أو مواربة في صدر مطلع معلقته الشهيرة مستخدماً أسلوب الاستفهام الانكاري قائلاً:

هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم
أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهمِ

وقد اتفق علماء اللغة العربية وشرّاح هذه القصيدة على أن عنترة العبسي أكد من خلال استفهامه الإنكاري في المصراع الأول من مطلع معلقته على أن الشعراء الأقدمين لم يتركوا شيئاً إلّا وتناولوه في قصائدهم من أغراض الشعر كافة والغزل على وجه الخصوص، لكنه أشار من طرف خفي إلى أنه استطاع بقريحته المتفتقة أن يأتي بطازج الشعر الذي لم يسبقه أحد إليه، وتمكن من التحرك في منطقة إبداعية بكر لم يطأها الشعراء من قبل، وهو بهذا الفتح النظري أكّد على إمكانية الابتكار والخلق الشعري عند أصحاب المَلَكات الكبيرة ، وكذلك إمكانية السير في المسالك غير المطروقة من قضايا ومواضيع الحياة المتشعبة، رغم مرور جحافل الشعراء وتعاقب الأجيال الشعرية في عصور تاريخ الأدب العربي منذ أول بيت قالته العرب، إلى اليوم الذي أنشد معلقته فيه، وصولاً إلى يومنا هذا.

دلال جويد

القرائح الملهمة الجيّاشة لا تنضب، ولا يشح فيها ماء الشعر النقي مهما تداخلت الخطوط والمواقف، وهذا ما أردت أن أشير إليه في هذا التقديم كمدخل لفهم طبيعة البوح الشعري عند الشاعرة العراقية دلال جويد، في مجموعتها الشعرية «دمعةٌ وحيدة.. مطرٌ كثير» تلمست قدراتها على معالجة جملها الشعرية بطريقة مبتكرة، وكأنني بها ترفض الاستعانة بما لديها من خزين معرفي ناتج عن تخصصها بالأدب العربي ومواكبتها لمستجدات الحركة الشعرية المعاصرة في الوطن والمهجر، كما أنها تبتعد عن معطيات وإفرازات الآداب الغربية كالأدب الإنكليزي والأدب الفرنسي الذين وقع في شباكهما الكثير من الشعراء العرب من مختلف الأجيال الشعرية.
ويمكن الإشارة إلى دلال جويد تتجنب بحساسية عالية كل ما هو مطروق ومستهلك، وتأتي بكل ما هو مبتكر ومستحدث من التراكيب والانزياحات اللغوية، وقد استطاعت أن تبتكر لغتها الشعرية المتفردة ذات الخصوصية العراقية المطنبة جذورها في أطلال مدن وقرى الآجر والمياه والقصب والرقم الطينية الرافدينية منذ أوروك وأريدو إلى أبسط تفاصيل الحياة الريفية العراقية الراهنة، لذلك فإن حضورها الفاعل في اللحظة الشعرية القائمة يشي بأنها بنت بيئتها الجنوبية ، فنراها حين تبوح بمشاعرها للحبيب تقول:

«تتدلى من زناري أشعار ريفية
ونساء غيبهن العشق
يتدلى من زنارك
قلبي…»

الشاعرة دلال جويد تحسن التجريب والبحث المستمر في مختبراتها الشعرية الخاصة، وقد تميزت بعدم استسهالها الكتابة، وعدم لجوئها إلى مجرد تصفيف الجمل الشعرية دون رؤية ورويّة، لذلك نراها تبحر وتتعمق في تجلياتها الشعرية وتستحضر كل ما يعزز الفعل الإبداعي الأصيل، فالشعر عندها ليس ترفاً ولا لحظة عابرة في عمر الزمن، بل هو ضرورة حياتية ملحّة، وحاجة يومية لا يمكن الاستعناء عنها، مثل رغيف الخبز والملح.

ولم تلجاً الشاعرة إلى استمالة المتلقي بأسلوب غير شعري على الرغم إجادتها أسلوباً رقيقاً تفوح منه النكهة الأنثوية التي بإمكانها تدجين مشاعر المتلقي على حساب الإبداع الحقيقي، لكنها تحبذ اللجوء إلى مداهمة المتلقي بالتفاتات مباغتة ومثيرة لكي تبقيه متأهباً ومستعداً للاحتفاء سوية بالحياة وتفاصيلها اليومية الثرية، على الرغم من أن هذه الالتفاتات قد تعيق تنامي النص الشعري، وقد تخلق ارتباكاً في ديناميكية التلقي، إلّا أن شاعرتنا تعي ما تقول وتجيد مسك العصا من المنتصف للوصول إلى النتيجة المطلوبة.

من جانب آخر تحاول دلال جويد تفجير الأسئلة ذات النهايات المفتوحة لكي تضيء بها مناطق العتمة وتفتح أمام المتلقي بوابات التأويل على مصراعيها، ومما يعينها على ذلك إجادتها وتمكنها من لغة السهل الممتنع، ولهذا فهي زاهدة عن التراكيب الصعبة غير المتداولة، بل إنها حريصة على استخدام لغة مألوفة في الحياة المعاشة وقريبة من قلب المتلقي..

«كيف تفكر البئر بظلمتها
هل تتمنى لو تشعل قنديلاً في ليالي الشتاء؟
كيف تفكر الشجرة بثمارها المتساقطة
هل تشكو ألماً في الأغصان؟»

ولابد من الإشارة أن لدى دلال تقنيات كثيرة تسهم في إنضاج الصورة الشعرية، منها استخدام الجمل الفعلية المتلاحقة بهدف تصعيد الموقف وتوسيع الرؤية، وقد تصل هذه الجمل إلى مستوى التعنقد بغية تكامل أبعاد الصورة وإبراز جميع تفاصيلها، فتقول:

«نكاية بالكلام
أنسج الصمت معطفاً للطريق
أكتب أشجاراً على الجانبين
أدون النظرة فاكهة تسقط ولا تراك
وأقوس قلبي كي يشبه دمعة
كلما تدلى رفعته»

فالأفعال المضارعة (أنسج، أكتب، أدون، أقوس) كلها أفعال مرتبطة بالزمن الحاضر وهي أدوات فاعلة للدلالة على الانتشار والتوسع، ومن ثم تجسيد البعد الحركي وتوفيز المشاعر لكي تصل إلى المراد من الصورة، وكذلك استخدمها ظرف الزمان الذي يفيد الشرط (كلما) لكي تفاجئنا بالنتيجة اللافتة وهي حتمية رفعها للقلب الذي في كل مرة يتدلى بها، وهي نتيجة مقنعة وجميلة كونها أرادت لقلبها أن يشبه الدمعة التي من شأنها التدلي لكنها تقف حيال ذلك بإباء، وكذلك فإن ظرف الزمان (كلما) وشرطه جاء كتتويج لسلسلة الأفعال المضارعة المتتالية.

أما في قصيدة (جوع) التي تقول فيها:
«يمر القطار سريعاً…
الحقول تغازل بطء الغيوم
والعابرون يمسدون فراء الكلام
وأنا لا شأن لي بالحقول
ولا العابرين
أو المحطات
كنت أمضغ جوعي إليك
بينما يتدثر رغيف قلبي بالتجاعيد».

إن فطنة دلال جويد الجنوبية، تعد من أهم العوامل والمعطيات التي ساعدت في تشكيل هويتها الشعرية المتميزة..

«لا حكايا تشبهني
لا بحار تضاهي جحيمي»

حيث اختزلت دلال جويد بهذه الومضة الخاطفة خصوصيتها المتفردة كشاعرة تمتلك أدواتها التي تميزها عن بقية الشعراء.

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب