
الطريق إلى المرمى: حين تعبر كرة القدم بوابة الأدب

أسيد الحوتري
تُعد كرة القدم أكثر من مجرد رياضة في عالمنا المعاصر؛ إنها طقس عالمي يحتفل به الفقراء والأغنياء على حدٍ سواء، وتُحاكي نبض الشعوب وتاريخها وآمالها المعلّقة على شباك ذلك المستطيل الأخضر. لا عجب أن تُلقّب بـ»الساحرة المستديرة»، فهي تملك قدرة خارقة على توحيد الجماهير، وإثارة الدموع والضحكات، وتقليب المزاجات الجماعية بلحظة هدف أو صافرة حكم. ومع ذلك، بقيت هذه اللعبة الشعبية التي يتابعها حسب الإحصاءات أكثر من 4 مليار إنسان في العالم مهمشة في الحقل الأدبي، إلا ما ندر، وكأن النُخَب قررت أن تضع بين الرياضة والأدب فيافي وقفار من الصمت أو التعالي.
من هذا الصمت يخرج صوت مختلف. الكاتب الأردني هارون عبد اللطيف الصبيحي، وهو لاعب سابق في فريق نادي السلط الأردني، يتقدّم إلى منطقة سردية غير مطروقة، ويضع بين أيدينا مجموعة قصصية غير اعتيادية، عنوانها: «الطريق إلى المرمى». مجموعة لا تُحاول أن تسرد قصصاً عن كرة القدم فحسب، بل تجعل من الكرة وسيلة لكشف أغوار الحياة، وتجعل من الملعب استعارة للوجود، ومن المباراة صراعاً وجودياً يُشبه ما نخوضه جميعاً في طرقنا اليومية نحو «مرامينا» المختلفة.
تتألّف المجموعة من ثمانٍ وعشرين قصة قصيرة، تتوزع موضوعاتها بين الحلم الشخصي، والحنين، والانتماء، والخذلان، والحظ والانتصار، وحمى البطولة. تدور جميعها في فلك كرة القدم، لكنها لا تقع في فخ التقريرية أو التوثيق الرياضي؛ بل تبني عالماً أدبياً متخيلاً، تقوده العاطفة، وتتخلله شحنات درامية عميقة وفلسفية، تنتمي إلى الأدب أكثر من الرياضة، وتؤنسن اللعبة في أبهى صورها.
في قصة «ركض مزدوج»، على سبيل المثال، لا يركض البطل نحو الكرة فحسب، بل يركض نحو خلاصه الداخلي، ونحو أمه التي كانت «تضع الغطاء خلسة على جسد أخيه المتجمد في الشتاء» في الملعب وفي لحظة حاسمة يتخيلها تناديه: «اركض يا فيكتور، تعال يا بُني أعانقك، يشعر أنها ستكون سعيدة في قبرها إذا نجح بتسجيل الهدف» (١١) ويحدث ذلك مع المدافع كيفين الذي كان يسابق فيكتور ليصل إلى الكرة ويبعدها عن المرمى، «ستصبح يا كيفين بطلا وطنياً، «الوطن أكثر أهمية بكثير من مليارات والدك» هذا المزج بين الرياضي والإنساني، بين المهارة والذاكرة، هو ما يجعل القصص تخرج عن سطح الملعب وتدخل عمق الإنسان.
ولا تكتفي القصص بسرد التجارب، بل تقدم رؤى حقيقية عن الفوز، وأسراره. ففي قصة «القرار»، يكشف السارد، وهو لاعب وسط، عن فلسفة كاملة في اللعبة: «كرة القدم تلعب بالعقل وليس بالقدم» «وإذا كانت قرارات اللاعب سليمة داخل الملعب، سترتفع قيمته السوقية وشعبيته» (٢٥). ثم يعود ويضع يده على لبّ المسألة: «القرار يجب أن يتخذ بلحظة، التمرير، التسديد، المراوغة، كل ذلك يعتمد على الزمان والمكان» (٢٥). فالنجاح، إذا، ليس موهبة فقط، بل توقيتٌ، وانضباطٌ، ووعيٌ.
في قصة أخرى، هي «مدرب المنتخب»، تتجلى أبعاد جديدة للفوز. يخاطب المدرب لاعبيه قائلاً: «سنقاتل بشجاعة… قتالنا رياضي لكنه لا يقلّ قيمة عن قتال الأبطال في ميدان المعركة» (٣٤). وهنا تتحول المباراة إلى ساحة معركة وكرامة، ويصبح الانتصار إنجازاً يتعدى النقاط والترتيب. لاحقا، يُعبّر النص عن أهمية الدعم النفسي والعاطفي حين يشحن المدرب لاعبيه بأغنيات وطنية، وبنداءات حماسية تُحاكي المارشات العسكرية، ليصير الفريق «قلب رجل واحد جاهز بدنيا وذهنيا» (٣٤).
ومع كل قصة، تنفتح لنا نافذة على ملعب آخر. «تسلل» ليست فقط عن مصيدة التسلل الكروية، بل وعن تسلل الأعداء لبث الفتن بين الجماهير «نصيب» ليست فقط عن لاعب يسجّل هدفًا قاتلًا، بل عن مشجع فقير يربح جائزة يانصيب في اللحظة ذاتها التي يخسر فيها فريقه البطولة بهدف يسجله لاعب اسمه عامر نصيب «اعتراف» هي مرافعة لاعب شهير يعترف بأنه «لم يكن عبقريا بل محظوظا»، وأن «الهدف الذي صنع له المجد ارتطم بساقه دون أن يقصد» (٤٥).
تضم المجموعة قصة تستشرف مستقبل كرة القدم «كرة الغضب» وقصة تتحدث عن استخدام الذكاء الاصطناعي في المباريات! وتقدم قصة «كرة في القلب» تفصيلات تتناول هذا اللعبة الشعبية من مختلف الزوايا، بينما تطرح القصة الأخيرة في المجموعة «البديل» سؤالا صعباً جداً ومهماً : ماذا لو كانت كرة القدم غير موجودة أبداً وبكل العالم؟
يتميز أسلوب هارون الصبيحي بلغة انسيابية، مشحونة بالعاطفة، ذات إيقاع سردي مشوّق، يجمع بين البساطة والرمزية والفلسفة. مفرداته قريبة من وجدان القارئ، لكنها مشحونة بشفرات تأويلية عميقة، خاصة حين يستخدم الصور الحسية والمجازات التي تستعير من قلب اللعبة لتقول شيئاً أكبر من اللعبة ذاتها.
ختاماً، يمكن القول إن «الطريق إلى المرمى» ليست مجموعة عن كرة القدم فحسب، بل عن الحياة كما نعيشها على شكل مباراة في ملعب كبير: نخسر، نركض، نحتج، نفرح، نُصاب، ثم نعود للركض من جديد. وما كتبه هارون الصبيحي ليس مجرد مجموعة قصصية، بل هو مغامرة أدبية جريئة تُعيد لكرة القدم مكانتها الثقافية، وتثبت أن الأدب لا يجب أن يبقى حبيس البرج العاجي، بل عليه أن ينزل إلى المدرجات، ويسمع هتاف الجماهير.
روائي وناقد أردني