مقالات

أمريكا للبيع في بازار الصراعات الدولية

أمريكا للبيع في بازار الصراعات الدولية

توفيق رباحي

ورد في الأخبار خلال الأيام القليلة الماضية أن رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسكيدي، عرض على نظيره الأمريكي نصيبا وافرا من ثروات بلاده المعدنية مقابل دعمه عسكريا في الصراع الذي تخوضه جمهورية الكونغو مع حركة «إم 23» المتمردة المدعومة من رواندا.
ورد العرض في بداية الشهر الماضي في أعقاب هجوم خاطف شنته «إم23» في شرق جمهورية الكونغو سيطرت في نهايته على مواقع هامة أبرزها مدينة غوما الاستراتجية (مليون نسمة) الواقعة على الحدود مع رواندا. يشهد شرق جمهورية الكونغو توترا مستمرا يمكن اعتباره من ارتدادات الحرب الأهلية في رواندا قبل نحو ثلاثين سنة، تحركه اليوم بقايا النعرات الإثنية التي سبّبت حرب رواندا نظرا لوجود مكونات إثنية متصارعة عابرة لحدود البلدين، وكذلك الثروات المعدنية التي تزخر بها المنطقة. تتكون «إم23» من أبناء أقلية التوتسي التي استهدفتها مذابح الهوتو خلال تسعينيات القرن الماضي، ويبدو أن أحد دوافع الصراع المتجدد رغبة التوتسي في الانتقام.
تفاصيل عرض تشيسكيدي لترامب غير معلومة، لكن المعروف حتى الآن أنه تضمّن توقيع اتفاقية أمنية.
إذا صحّت هذه الأخبار، فالعالم أمام انحراف خطير من شأنه أن يفتح الباب أمام فصل وشكل جديدين في إدارة الحروب والصراعات الدولية والإقليمية. خطورة العرض أن تشيسكيدي عرف لمن يقدّمه.. لرئيس أمريكي جشع يسيل لعابه لِما في أيدي غيره، وبعد أن سيطر على عناوين الأخبار ابتزاز ترامب لأوكرانيا بشعار الأمن مقابل 500 مليار دولار من الثروات المعدنية.
تكمن خطورة عرض تشيسكيدي أيضا في كونه يتزامن مع كثرة الصراعات الإقليمية عبر العالم وتداخلها، وعجز الأطراف المعنية عن حسمها بنفسها، بالحرب أو بالسلم. من المؤسف أن هذا العرض، بالإضافة إلى عرض زيلينسكي لترامب، سيفتح شهية الدول القادرة على التأثير (دون أن يعني ذلك بالضرورة القدرة على فرض السلام) وخصوصا الولايات المتحدة، على الحضور أكثر في مسارح الصراع. بعد تشيسكيدي قد يستنجد أبي أحمد بترامب لسحق حركات التيغراي والحركات المتحالفة معها في شمال أثيوبيا مقابل جزء من ثروات البلاد. وقد يعرض خليفة حفتر نفط ليبيا (يقع في مناطق سيطرته) مقابل الدعم الفرنسي له للاستيلاء على طرابلس. وقد تنحو الهند النهج نفسه من أجل إحكام سيطرتها على إقليم كشمير، وتستنجد نيجيريا ببريطانيا للتغلب على بوكو حرام.. وهكذا.

العالم يتوجه بسرعة نحو خصخصة كل شيء.. الثروات، الجيوش، الحروب وحتى الدول والحكومات

لم يتسرب حتى الآن ماذا رد ترامب على العرض. لكن الميول واضحة، ففي يوم وصول رسالة تشيسكيدي إلى البيت الأبيض عبر وسيط غير رسمي يستثمر في اقتصاد المناجم في إفريقيا، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات بحق المتحدث باسم «إم23» وأخرى بحق وزير التنمية الداخلية في حكومة رواندا لدوره المزعوم في صراع جمهورية الكونغو.
المرجّح، إذن، أن ترامب سيوافق أو يطرح شروطا تستغل يأس تشيسكيدي وحاجته للتخلص من حركة «إم23» التي تقضّ مضاجعه. وما سيشجع ترامب على الانقضاض على الفرصة أنها، على الصعيد الشخصي ترضي غروره، وعلى الصعيد العام تكون جزءا من التصدي للهيمنة الاقتصادية (والأمنية) الروسية والصينية في القارة الإفريقية وبسط الدولتين أيديهما على الكثير من الخيرات هناك بعقود طويلة الأجل. من الصعب تخيّل الولايات المتحدة خالية الوفاض في عملية النهب المنظم هذه ومتنازلة عن الحضور الأمني المطلوب لحماية المصالح الاقتصادية.
بالنسبة للولايات المتحدة، يفتح عرض رئيس جمهورية الكونغو أبواب النقاش على أكثر من صعيد. بدايةً، ينسف وهمَ أن سياسة الانعزال التي يدّعيها الرئيس ترامب تجعل منه رجل سلام. يتأكد مع الوقت أن ترامب يتشدّق بالانعزالية والسلام فقط عندما لا تكون للولايات المتحدة مصلحة مادية مباشرة. في أكثر مسارح الصراع في العالم حاليا، غزة وأوكرانيا، لم يجد ترامب حرجا في إبداء استعداده للزج ببلاده في أتونهما طالما أن هنا توجد قطعة أرض يمكن تحويلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط، وهناك توجد ثروات معدنية هائلة تكفي لإنقاذ مستقبل صناعة التكنولوجيا الأمريكية وحمايتها من الحاجة للآخرين في المستقبل.
المستوى الآخر من النقاش، والذي لا يقل خطورة هو أن ترامب، بعد أن يوافق على عرض تشيسكيدي، سيجد صعوبة في إرسال جنود أمريكيين للقتال في جمهورية الكونغو، لأنه يدرك الكلفة البشرية المحتملة ويعلم سلفاً أن الداخل الأمريكي لن يتساهل معه. هذه الحقائق ستضطر ترامب إلى النظر خارج الولايات المتحدة للبحث عن حلول قد يجدها في المتعاقدين الخواص، ما يعني أنه سيكون بصدد تحويل أمريكا إلى شركة مقاولات توظّف المرتزقة وتديرهم. لقد فعلت الولايات المتحدة هذا سابقا في فيتنام والعراق وأفغانستان، لكن دائما تحت نظر الجيش الأمريكي وببعض الضوابط ولو في حدّها الأدنى. أما في التوجه الجديد فستتساوى الولايات المتحدة مع روسيا وكل الذين لطالما لقّنتهم الدروس وانتقدت «تجرّدهم من الأخلاق والإنسانية وقواعد الحروب».
أيًّا كان الرد على عرض تشيسكيدي، مجرد تقديمه يحمل إساءة للولايات المتحدة وللقيم الإنسانية المزعومة التي تشدّقت طيلة ثمانية عقود بأنها تروّج لها وتحميها عبر العالم. أما قبوله فهدية ممن لا يملك لمن لا يستحق، وفوق ذلك إهانة لأمريكا وإرساء لذهنية ستكون وبالا على العلاقات الدولية.
كما أن هذا التطور رسالة لمن لا يزال لديهم شك: العالم يتوجه بسرعة نحو خصخصة كل شيء.. الثروات، الجيوش، الحروب وحتى الدول والحكومات. آلاف الشباب الذين يقاتلون اليوم في صفوف الجيش الروسي من جهة والجيش الأوكراني من جهة أخرى مرتزقة جيء بهم من الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأوروبا وإفريقيا. الدول الغربية على وشك التوقف عن خوض الحروب بأبنائها وسيكون المرتزقة الأجانب هم وقود الصراعات القادمة. شرور هذا التوجه كثيرة وخطيرة أحدها أنه سيحفّز صُنّاع الحروب على افتعالها طالما أن الدماء المسفوكة داكنة اللون.

كاتب وإعلامي من الجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب