ثقافة وفنون

الجسدنة والتمثل في التنزيل

الجسدنة والتمثل في التنزيل

توفيق قريرة

(2) الكلام في المهد تجسُّدا
التمييز بين التجسد والجسدنة أمر مهمّ؛ والجسدنة تراعي عمل التمثّل للأفكار وللمجردات في الجسد وعلاقتها بوعينا وإدراكنا. هذا المسار لم تذهب إليه غير بعض التفاسير القديمة، وذهاب أصحابها إليه كان حدسا ما قبل معرفي لفكرة أنّ الوعي بالتمثيل وإدراكه على شاكلة معيّنة، هو درجة من الوعي البسيط بتشخص الأرواح المفارقة وهي تتمثّل في صورة بشر سويّ.
نواصل في هذا المقال، وبالاعتماد على «سورة مريم»، الحديث عن التجسد لا بما هو روح تمثلت بشرا سويا، مثلما رأينا عليه الأمر في مقالنا السابق؛ بل سنتحدث عن التجسد اللغوي ممثلا في نطق عيسى عليه السلام في المهد، لا بما هو معجزة (فهذا لا شغل للسانيّ به)؛ بل بما هو شكل من أشكال الجسدنة السابقة لأوانها.
ولنعد التذكير مرّة أخرى بأنّ من أساسيات فكرة الجسدنة العرفانية، أنّ الذهن ليس منفصلا عن الجسد؛ وأنّ الإدراك يرتكز على التجارب الحسية والحركية. فتفاعلاتنا الجسديّة مع العالم تُشكّل طريقة تفكيرنا، وتصوّرنا، واستخدامنا للغة. فعلى سبيل المثال لا يمكن أن نقبل بحكم تجربتنا التي اكتسبناها مع الكلام البشريّ، أن نقبل أنّ جسد الرضيع – بما هو بشر عاديّ أو طرازيّ – قابل لإنتاج الكلام وتقطيع اللغة، إلاّ في عمر معيّن؛ وأنّه وبناء على ذلك العمر يمكن أن نعتبر الطّفل متأخّرا في الكلام أو ناطقا في وقته، أمّا أن يلد ناطقا نطقا بيّنا بالكلام، مثلما هو في «سورة مريم»؛ فهذا تجسد للكلام قبل وقت نضجه.
تبدأ القدرة العادية على إنتاج الطفل الكلامَ وعلى فهمه في الثانية من عمره وقد تتقدّم قليلا أو تتأخر قليلا. وفي فترة النموّ الأولى يتعوّد الطفل على إنتاج كلمات مفردة معزولة؛ وعلى فهمها وفهم الأوامر أو النواهي التي يمكن أن نصدرها إليها. لكنّ تشكيل اللغة بما هي كلام يبدأ بالقدرة البشرية على بناء المركبات والجمل. ففترة الطفولة الأولى هي فترة يختزل فيها الطفل الأقوال في الكلم المفردة، أو بعض المركبات؛ ولا تستعمل المفردات عنده على أنّها مفردات، بل هي عنده جمل مختصرة لذلك ومن فرط استعمالها يمكن أن تكون مفهومة في محيط الطفل الضيق دون غيره.
في الآية 29 من «سورة مريم»: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾. هذا المقطع من السورة مهمّ لأنّ فيه تركيزا على لغة الجسد وهي الإشارة التي ما كانت إلاّ تبديلا للنطق والكلام. لنتوقّف أوّلا عند تفسير البغوي يقول:
«﴿فَأَشَارَتْ﴾ مريم ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى عيسى عليه السلام أن كلِّمُوه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما لم تكن لها حجة، أشارت إليه؛ ليكون كلامه حجَّةً لها. وفي القصة: لما أشارت إليه غضب القوم، وقالوا مع ما فعلت أتسخرين بنا؟ ثم ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾، أي: من هو في المهد، وهو في حجرها، وقيل: هو المهد بعينه». هذا شرح بسيط فيه بيان للمقام الذي حدث فيه الكلام المختلف عن العادة: كلام الوليد عيسى في المهد، كان الكلام في رأي المفسّر، للبرهان والحجة بعد أن سكتت مريم عن الكلام واستبدلته بالإشارة أو الإيماء إلى طفلها. تُعدّ الإيماءات أكثر من مجرد حركات يدوية مصاحبة للكلام، فهي عنصر أساسي في الجسدنة من منظور عرفانيّ؛ إذ تعكس الكيفيّة التي بها تفاعل الذهن والجسد معا في بناء المعنى، والتواصل، ومعالجة الأفكار. ومن منظور العرفان المجسدن، لا تعتبر الإيماءات مجرد إضافات إلى اللغة، بل هي جزء لا يتجزأ من الطريقة التي نتصور بها الأفكار ونعبر عنها. فالصيام عن الكلام الذي تقرّر لمريم ليس صياما عن أيّ كلام، بل عن أداء جزء من الجسد لدوره الأصلي وهي آلات النطق، وعملت الإشارة بديلا لها. الصمت ليس إسكاتا لتمثيل الجسد للغة، بل هو إغفال لحركة النطق وتحريك لعناصر أخرى في الجسد، تنتج إدراكيا اللغة وهي اليد وهذا الدور، تواصلي ما دام يُفهمنا ما يقول المشير المومئ.
بعض الإيماءات أيقونية، لأنّ الإشارة فيها تحاكي هيئة ما تمثله كأن تحرك يدك في شكل دائرة لتمثل الكرة. لنفترض أنّ مريم تريد إفهام اللائمين من قومها، والمتهمين لها. النظام الإيمائي الأيقوني يعجز عن أن يكون هو النظام الأمثل لأنّ التهمة أمر مجرّد: (لقد جئت شيئا فريّا)، وكذلك ردّه هو أيضا مجرّد لذلك كانت الإشارة لا تنخرط في سياق الردّ، بل في سياق مصدر من يردّ: كلموه الصبي في المهد، هو من سيجيبكم بالكلام.
كيف نكلم من كان في المهد صبيّا؟ جواب بالقول على إشارة إلى محال عليه لا يعقل أو لا يدرك بالتجربة الاجتماعية المشتركة. ولكنّ نطق عيسى في المهد كان يندرج ضمن ما سيعرف بالمعجزة، ونحن سنسميها الجسدنة اللغوية المفارقة؛ ويمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأوّل هو آنية جسدنة اللغة، والثاني هو نضج الكلام المجسدن. آنية النطق تتمثل في جعل النبيّ عيسى ينطق في المهد. لقد كان النطق مزامنا للحظة الولادة؛ والنطق هنا ليس بتقطيع الأصوات، بل بتقطيع الكلام في جمل. هذا النطق المبكر جدّا لا يعرفه البشر. الجسدنة بالنطق تخرج من سياق المنجز المألوف؛ إذ ينبغي أن تتهيّأ للكلام أسبابه الفيسيولوجية والنفسية، بأن يصبح جهاز النطق ناضجا، بما يكفي لكي يقوم بدور الكلام. فالحنجرة مثلا تحتاج وقتا كي تكون قادرة على التدفق المناسب للهواء الذي يتطلبه إنتاج الكلام؛ ويحتاج المتكلم إلى اكتمال في التحكم في الجهاز العصبي، وهو تحكم لا يقدر عليه الصبي في المهد؛ لذلك ترتبط المسألة باكتمال النمو. إنّ النطق معالجة ذهنية تتطلب اكتمالا للأعضاء مثلها مثل المشيء مثلا فهي فعل يمكن أن يأتيه المرء لكنّه يحتاج ردحا من الوقت. نطق عيسى في المهد يشبه المشي في المهد، أو هو أعظم منه شأنا. لأنّ فعله يقتضي أنّ الأعضاء قد اكتمل نضجها سريعا كي تنجز وظائفها. وأن يدرك المحيط الاجتماعي هذه المعطيات الخارجة عن المألوف خارج عن الأنساق الذهنية التي لدى البشر المتعامل مع محيطه في نسق تجريبي من الألفة والعادة؛ لذلك كان سؤالهم: كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟
الكلام حركة جسدية لكنّها مرتبطة بحركة ذهنية أو نفسية تقتضي أنّ من نكلّمه ينبغي أن يكون في هيئة من النضج العقلي، تسمح له بأن يتكلم لكي يجاري نسقا من الفكر، لا يمكن أن يجاريه إلاّ من كان ناضجا. هنا ندخل إلى الضرب الثاني من الجسدنة، التي حدّدناها والمرتبطة بنضج الكلام. بالعودة إلى كلام عيسى في المهد، فإنّ ما يلحظ هو استعماله لجمل تامّة (إنّي عبد الله/ آتاني الكتاب/ وجعلني نبيا/ بدأ الكلام بجملة نوويّة مختصرة إلى أن طال الكلام لتصبح الجمل موسعة (أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا وبوالدتي..). ليس في مقدور الأطفال أن يستعملوا الجمل التامات بقطع النظر عن مضامين تلك الجمل. حين نستعمل في كلامنا اليومي الجمل فذلك دليل على أنّا أصبحنا لغويا ناضجين نضجا يجعلنا نركب تركيبا مفيدا بين الكلام بمنطق العقد والتركيب كما يقول النحاة: أن نعقد بين المتناسبين من الجمل وأن نركب بين عنصرين يتركب العنصر الأول منهما مع الثاني تركيبا منسجما، فالمضاف ينبغي أن ينسجم دلاليا وإعرابيا مع المضاف إليه ليتركبا وهكذا شأن المركبات جميعا. يضاف إلى هذه الجسدنة المفارقة في تركيب الكلام، مفارقة أخرى في مضمونها الناضج جدّا. فغرابة الكلام الذي ينطق به عيسى ليس في تعقّد التركيب في ذاته، بل في المضامين المفارقة فمن يتكلم في لا يتكلم وحسب، بل هو لا ينطق عن هوى ويدافع عن أمّ متهمة بحجج يعتقد أنّها خارقة للمألوف الكلامي في عصرها، وهو يريد أن يقنع بمضمون كلامه اعتمادا لا يدور في الأصل على المحتوى، بل على أنّه نطق في المهد: على جسدنة مفارقة للكلام.
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب