ثقافة وفنون

العدم والاحتمال: كيف يكتب أدونيس القصيدة في الفراغ؟

العدم والاحتمال: كيف يكتب أدونيس القصيدة في الفراغ؟

ناظم ناصر القريشي

ناظم ناصر القريشي
كيف تكتب اللغة العدم؟
في قصيدته «السماء الآن هي نفسها الموت»، لا يكتب أدونيس شعراً بالمعنى التقليدي، بل ينقل القارئ إلى عالم متهاوٍ، حيث تتحول اللغة إلى ركام، والزمن إلى رماد، والإنسان إلى أثر يتلاشى في فراغ بلا ذاكرة. النص ليس بياناً سياسياً ولا تأملاً في الموت، بل هو نصّ ينبض داخل العدم، يتشكل ثم ينهار، ليعود إلى التكوين من جديد.
يقول أدونيس:
«لا ليلَ، لا نهارَ، لا شرقَ، لا غربَ.
تتداخلُ الأَزمنةُ، الأَمكنةُ يَلتَهِمُ بَعضُها بَعضاً.»
لا يتحرك الزمن هنا بخط مستقيم، بل يتقلص وينحني، يبتلع نفسه، إنه حالة ما بعد التاريخ؛ حيث لا ماضي يُستعاد، ولا مستقبل ينتظر، بل هو حاضر يتآكل بلا ذاكرة واضحة. الزمن لم يعُد سياقاً لتطور الأحداث، بل كياناً يلتهم ذاته، تماماً كما يبتلع السرطانُ الجسدَ الحيّ. الجسد نفسه لا يحتفظ بحدوده، بل يتحول إلى مائدة يُلتهم عليها:
«أنتَ، أيها الجسد ـ المائدة؟»
وهنا، يتجاوز أدونيس مفهوم الاستعمار بوصفه احتلالاً مباشراً، ليقدمه كعملية امتصاص بطيء، خليةً خليةً، كما يفعل المرض في الجسد:
«غربٌ لبلابٌ يمتصُّ الشرق خليّةً خليّةً»

الفراغ كمكان شعري: هل تحدث القصيدة في العدم؟
إذا كانت القصائد التقليدية تنتمي إلى مكان محدد، فإن هذه القصيدة تحدث في اللامكان. لا توجد جغرافيا، بل فضاء ممتد إلى ما لا نهاية.
«تُلتهم فيه الأرضُ ذرّةً ذرّةً»
حتى السماء، التي طالما كانت رمز العلوّ والصفاء، لم تعد ملاذاً، بل أصبحت هي نفسها الموت. إننا أمام رؤية ميتافيزيقية للوجود، حيث العالم يعيد إنتاج نفسه من خلال التهام ذاته. هذا يعيدنا إلى فكرة العدم بوصفه ليس غياباً، بل حضوراً مطلقاً يبتلع كل شيء.
موتٌ بطيء.. موت بلا نهاية
القصيدة لا تقدم صورة لموت فجائي أو صاخب، بل لموت زاحف، ممتد، حيث الأشياء لا تنهار، بل تتآكل ببطء، كما تفعل التعرية بالصخور. وهذا ما يجعل النصّ أقرب إلى مأساة بلا ذروة، حيث الموت ليس لحظة نهاية، بل عملية مستمرة لا تنتهي.
القصيدة طقسا جنائزيا مفتوحا
هذه ليست مجرد تأملات في الموت، بل هي جنازة مفتوحة على الفراغ. لا نجد هنا رثاءً لعالم انتهى، بل تشييعاً لعالم يواصل انهياره، دون أن يجد من يدفنه.
«إنّه الأفقُ يسير إلى الأسفلِ القهقرى»
عادةً، يرمز الأفق إلى العبور نحو المستقبل، لكن هنا، يتحوّل إلى هاوية، حيث يُدفن الزمن نفسه داخل القصيدة. هكذا، تتحول القصيدة إلى قبر مفتوح، يبتلع اللغة والمعنى معاً.
اللغة المتشظية: حين تتحول الكلمات إلى رماد
اللغة في هذه القصيدة لا تسير وفق نظام نحوي مستقر، بل تتكسر، تتردد، تتشظى. لا توجد جملة مكتملة، بل جمل تتهاوى داخل المعنى المنهار.
«من يحرثُ اللهب؟
من أين يجيءُ البذار؟
متى ينتهي الحصاد؟»
هذه الأسئلة لا تبحث عن إجابات، بل تخلق إيقاعاً دائرياً مغلقاً. إنها ليست استفسارات، بل هي نبض متقطع يتردد داخل الفراغ.

البنية البصرية والسينمائية: مشاهد تتآكل في فراغها
القصيدة مشحونة بصور شعرية تتحرك كأنها لقطات سينمائية مهتزة، حيث المشهد لا يثبت أبداً.
«الأجساد تحترق، والفضاء يلبس اللهب»
تتشابه هذه الصورة مع لوحات فرنسيس بيكون، حيث الأجساد ممزقة، متحركة، تذوب في الخلفية وكأنها تفقد ماديتها. إنها أقرب إلى سينما أندريه تاركوفسكي، حيث الزمن لا يتحرك إلى الأمام، بل يتراكم كعبء ثقيل، كما في فيلم «ستالكَر».

هل يمكن للشعر أن يكتب ما بعد اللغة؟
عند أدونيس، اللغة ليست أداة للتعبير، بل هي كائن حيّ يتمزق داخل القصيدة، يختنق، ثم يعود ليتكلم من جديد. لكن هل يمكن للغة أن تستمر بعد هذا الخراب؟
«إلى أين، أيتها السماء؟ وكيف؟»
وكأن القصيدة تعيد كتابة السؤال، لأنها غير قادرة على إنتاج إجابة. إنها لغة تصل إلى حدودها القصوى، ثم تتكسر، كأنها تكتب الصمت ذاته.

الشيفرة الإبداعية في القصيدة: كيف تكتب اللغة نفسها؟
كل قصيدة عظيمة تمتلك شيفرة إبداعية خاصة بها، نظاماً داخلياً لا يُفرض عليها، بل ينشأ من داخلها. في «السّماء الآن هي نفسها الموت»، لا يوجد نسق خطي تقليدي، بل تتشكل المعاني داخل القارئ في حركة دائمة. النص لا يمنح إجابات جاهزة، بل يضع اللغة نفسها موضع تساؤل، لتصبح كل قراءة إعادة بناء جديدة للقصيدة.
«من يحرثُ اللهب؟
من أين يجيءُ البذار؟
متى ينتهي الحصاد؟»
هذا التكرار ليس زخرفة، بل بنية جوهرية تولّد إيقاعاً مغلقاً، حيث تتكسر المعاني وتتردد، ولا تمنح القارئ يقيناً، بل تتركه في متاهة الاحتمالات اللغوية. بهذا، لا تبني القصيدة عالماً مستقراً، بل تكتب انهياره، لكنها لا تترك اللغة تتلاشى بلا نظام، بل تجعل الفراغ جزءاً من المعنى، والتكرار جزءاً من الإيقاع الداخلي.

القصيدة كنصّ فيزيائي: انهيار الزمن واللغة
إذا نظرنا إلى النص من منظور فيزيائي، نجد تشابهاً مع نظريات الزمن الحديثة. عندما يقول أدونيس:
«الزمن يخرج من نفسه ويصبح رملاً»
هل نحن أمام العود الأبدي لنيتشه، حيث لا جديد في التاريخ، سوى إعادة إنتاج الماضي؟ أم أن الزمن هنا يشبه ظاهرة الأفق الحدثي في فيزياء الثقوب السوداء، حيث يصبح الزمن دائرياً، يعيد نفسه دون أن يتقدم؟
العلاقة بين اللغة والفراغ: حين يصبح الصمت لغة
القصيدة تتحرك داخل فراغ يمتص الكلمات. إنها ليست فقط عن الدمار أو الفقدان، بل عن لحظة ما بعد اللغة، حيث لا يبقى سوى الفراغات، والصدى، وما لم يُكتب بعد. الفراغ في القصيدة ليس مساحة صامتة، بل قوة تلتهم الكلمات كما يلتهم الزمن ذاته.
«هل مات الموت كما يقول المتنبي؟»
هنا، لا تكون القصيدة مجرد استعارة للخراب، بل ربما تجربة في محو المعنى ذاته، وكأنها تكتب استحالة قول أي شيء على الإطلاق.
البعد الأسطوري: ما وراء المعنى الأخير
هذا التلاشي لا يقتصر على الزمن والجسد، بل يمتد إلى المعنى نفسه. القصيدة أقرب إلى طوفان جديد، حيث يذوب كل شيء داخل الفراغ، أو إلى نسخة معكوسة من أسطورة بروميثيوس، حيث لم يعد النور خلاصاً، بل لعنة تحترق قبل أن تصل إلى الأرض.

ما وراء السؤال الأخير: هل من مخرج؟
القصيدة تنتهي بسؤال «متى يبدأ الغد الذي يُسمّى الإنسان؟»، لكنه ليس استفساراً، بل صرخة في الفراغ، إعلان عن فقدان اليقين. إذا كان الزمن يتفكك، فهل تعلن القصيدة عن نهاية التاريخ الإنساني، حيث لم يعد هناك معنى للزمن أصلاً؟

خاتمة: هل القصيدة نص مغلق، أم فضاء يتوسع؟
هذه ليست مجرد قصيدة، بل أثر لحقيقة لا يمكن لمسها. إنها نص لا يمنح إجابات، بل يترك القارئ معلقاً في الفراغ، حيث الكلمات ليست سوى بقايا رماد، والمعنى لم يعد ممكناً. هل يمكن للقصيدة أن تستمر بعد هذا الانهيار؟ أم أننا لا نقرأ نصاً، بل نحدق في فراغه؟
القصيدة
السّماء الآن هي نفسها الموت
I
أنتِ الأرضُ،
وها همْ قادةُ الإبادات وسلاطينُ العبوديّات يلتهمونكِ ذرّةً ذرةً،
أنتِ الأرض –
الظّلُماتُ تفترِسُ الضّوء.
وها هو طعامُكِ: خبزٌ يابسٌ، معجونٌ بأنفاس المُشرَّدين،
وأشلاءِ القتلى.
أنتِ الأرض-
قدماكِ حافيتان
ترابُكِ يرتعش
وكلُّ ما عليكِ خِرَقٌ تتكوّمُ حُجُباً من الحديد على
وجه المعنى.
إنّه الأفقُ يسير إلى الأسفلِ القَهقَرى.
إنّها الشمسُ تسألُ:
ما هذا السديم الذي يدور حولي؟
II
غربٌ لبلابٌ يمتّصُّ الشرق خليّةً خليةً،
الأجساد تحترق
والفضاء يلبس اللّهب:
زيٌّ كونيٌّ
من يحرثُ اللّهَب؟
من أين يجيءُ البِذارُ؟
متى ينتَهي الحَصاد؟
ألديكَ جوابٌ،
أنتَ، أيُّها الرأس الكُرَةُ، الذي يَتَدَحرجُ بين دفّتَي كتابٍ،
أنتَ، أيَّها الكتابُ الذي يتطايرُ حَرفاً حَرفاً في أنابيبَ كونيّة،
ترشح ماءً أحمر؟
ألَدَيكِ جوابٌ،
أنتِ، أيّتها اللُغات التي تُبارك الدّماءَ وتُوَزّعها «شراباً طَهوراً»
في كؤوسٍ من الفحمِ واللؤلؤ؟
ألديكَ جوابٌ،
أنتَ، أيّها الجسدُ ـ المائدة،
وماذا تقول لضيوفِكَ الكَواكبِ والمجرّات، الحَرسِ ـ القنابل
والصواريخ، والفرسانِ الذين يتكلَّمون لغات السَّماء ـ تلك التي
تتحصّن بقذائف المعجزات؟
نحنُ الأشباحَ الآدمية التي تدبُّ على هذه الأرض بقدمين اثنتَيْن،
لم نعُدْ نعرفُ من أين نأتي أو من أين أتَينا وإلى أين نمضي.
تعبت كلماتنا من المَهامِهِ ومن الجُسور التي تمُدّها بين الهاوية وأختها.
تعبّ الضوء من التنقّل بين الجسر وأخيه،
وها هو الزمنُ فينا وحولنا-
يخرج من نفسِهِ ويختارُ أن يكونَ رملاً.
الأمكنة
تتهيّأ للرّقص تحت راياتِ المُعْجِز حيث يتبادَلُ الملائكة والشّياطين
وجنودُهم من الحيوانات الإلهية، إنساً وجنّاً، قلوبَهم وعقولَهم، أقدامَهم
وأيديَهم، أفكارهَم ولغاتِهم.
وثمَّةَ أصواتٌ مشرّدةٌ تصرخ وتتساءل:
هل صار علينا أن نقشر حروفَ الكلمات وأجسامَ الأشياء، لكي
نفهم؟
وبأيّ ماءٍ سنغسلُ الورقَ والحبرَ، الكتابةَ والكُتّاب؟
وما اللقاء الذي يُهَيَّأ لنا في اتّجاه النهاية،
وفي اتجاه اللّانهاية؟
ومتى ستُطلُّ علينا السماء؟ وكيف؟
أمِن وراء صخرةٍ تتدحْرَجُ من فضاء العبث؟
أمِن شفيتن وراء كرسيٍّ «يسع السماء والأرض»؟
إلى أين، أيتها السماء؟
كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب