ثقافة وفنون

في مواجهة النسيان: منير بولعيش وشعرية الغياب

في مواجهة النسيان: منير بولعيش وشعرية الغياب

عبد السلام دخان

في زحمة الأسماء التي تتزاحم على بوابات الذاكرة الشعرية، يقف اسمٌ وحيدٌ كظلٍّ ممدودٍ على حافة النسيان؛ إنه الشاعر المغربي منير بولعيش، الذي رحل في الثاني والعشرين من مارس/آذار 2010، حاملاً معه سؤالا مريرا عن مصير مَنْ يكرّسون حياتهم لإضاءة الكلمة، ثم يغيبون في صمتٍ أشبه بصرخةٍ تختنق بين جدران الغُربة. رحل بولعيش في اليوم التالي لليوم العالمي للشعر (21 مارس)، وكأن القدر أراد أن يربط رحيله المُبكّر باحتفالية عالمية تتُوّجُ الشعراء، بينما ظلَّ هو في وطنه ضحيةً لغيابٍ مؤسساتيٍ. فكيف لشاعرٍ ساهم في تشكيل هوية قصيدة النثر، وخلّفَ نصوصا تُلامسُ الأعماق، أن يُطوّى اسمه كورقةٍ عابرة في أرشيف النسيان؟
تعرّف التجربة الذات على أنها عملية تشكيل ذاتية متجددة، تتأثر بتجارب الفرد وتفاعلاته مع محيطه، ما يجعلها مساحة مفتوحة لإعادة اكتشاف الهوية عبر الزمن. وكانت تجربة الشاعر منير بولعيش رحلة وجودية تخترقُ أسئلةَ الإنسان عن معنى الحياة والموت، عن الانتماء والضياع. «لست الملاك الذي يَحِقَ لَهُ أَنْ يُوبِّحَ الأبالسة وَأَنَا: لَسْتُ ذَاكَ الرَّحِيمِ مَنْ تَسْتَمِينْ رُغْمَ زَنْقَةِ الشَّيَاطِين …وَرُغْمَ أَنْ قَصَائِدِي لا تُبَارِكُ سِوَى المُنشقين.. وَمَنْ تَخَطَّى الأسيجة بنَص جَدِيد!!».. من ديوان «لن أصدقك ايتها المدينة». هذه السمات البارزة في تجربته الشعرية تكشف طرائق تعامل الشاعر مع الزمن، الذي لم يكن منحصرا في معهود العيش فقط، بل عبر تأسيس حوار بين أزمنة مختلفة وتأويل هذا الحوار شعريا، وبموجب ذلك لم تكن الذات الشاعرة منفصلة عن تاريخها العام، لأنها دائمة التفاعل معه بعيدا عن المظاهر الاجتماعية، والأقنعة التي تفرضها الحياة اليومية. ليصبح الشعر عنده وسيلة لفهم التداخل المعقد بين الأبعاد الزمنية والنفسية للذات.
وتقدم التجربة الشعرية رؤية عميقة للذات باعتبارها حقلا وجوديا، يتشكل من خلال تفاعل الزمن والذاكرة والأسطورة. في هذا السياق، تُستعرض الذات في حضورها الأنطولوجي مختلف الاختلالات والصراعات بين الانتصار لنداء الحرية، والضغوط الاجتماعية التي تسعى لتقييدها، «أكلَّما حدثتك عَنْ زَمَنِ الأَخْطَاءِ …تَتَدَخَلُ نِيُويُورك بَيْنِي وَبَيْنكِ وَتُغَيِّرُ مَجْرَى الحديث» .
ديوان واحد.. نبوءةٌ بغيابٍ مقبل:
لم يترك بولعيش سوى ديوان واحد عنوانه «لن أصدقك أيتها المدينة»، كأنه أودع فيه نبوءة مكتوبة بمداد القلق، مُعلنا تمرّده على زيف الواقع ووعوده المُعلّبة. تحوّل الديوان إلى كونٍ شعريٍ مكثّف، ينقسم إلى محورين كجناحَي طائرٍ يحلّق بين فلسفة الوجود ومرارة السؤال الاجتماعي. حوّل بولعيش مدينة طنجة في نصوصه إلى كائنٍ أسطوريٍ يتنفّسُ بالأحلام، وينزفُ بالهشاشة الإنسانية. كانت كلماته سكاكينَ تشقّ جلد المدينة لتكشف عن تناقضاتها، وتشرق استعاراته مثل ضوء يفضح زوايا الظل في زنقة الشياطين.
في عوالمه الشعرية، جدل لا ينتهي بين أسئلة حارقة تعبر عن منظوره لذاته وللآخر وللمدينة التي أحبها، طنجة التي وصفها بالمنفى الكبير، مقدما شهادة إثبات على رؤيته الشعرية: «لَسْتُ هَارِباً وَمِنْ مَسْرَحِ الْجَرِيمَةِ سَأَدْلِي بهذا الكلام :لستُ شاهد نفسي.. لَسْتُ شَاهِدَ زُور.. ولَسْتُ شَرِيكاً فِي هَذَا اليِّبَابُ.. أنا لاجي فِي طَنْجَةَ (مدينة الحياد) حَيْثُ لا حالمين فِي مُسْتَوَاي وَلَا أَعْدَاءَ فِي مُسْتَوَاي، لذا لا دخل لي بهذا الدم.. لا شَأْنَ لِي بِهَذا الجنون… أنا كحمامة نُوحٍ ضائع مُنذُ سُولٍ فَوقَ سَواحِلِ الغَرقِ أرقب برق الخلاص وأفجرُ هَذا السؤال: طنجة أمِنْ هُنَا الطِّينُ جَاءَ.. أَمْ مِنْ هُنَا ابتدأ الطوفان ؟!».
تنبثق تجربة الشاعر منير بولعيش مثل نبض معذب يخترق سكون الظواهر، محولا الكلمة إلى مرآة تعكس أعماق الذات الإنسانية. ليس الشعر لديه وسيلة لوصف الواقع، بل فعل مقاومة لتشييد واقع جديد، حيث تصير الأسطورة لغة سرية لفك طلاسم الهوية. فكل قصيدة عند بولعيش هي رحلة مضنية بين أطياف الماضي وضباب الحاضر، وصدام مع أقنعة تتراكم على وجه الحقيقة. تبدأ الرحلة مع الذات المدركة لراهنها وللفضاء، حيث الحيوات في صراع مع معهود الحياة ومع ثقل الذاكرة وجروحها. في هذا السياق، تخرج المدينة من صورتها النمطية لتصير مشهدا يجسد صراع المصائر المختلفة. لكن الرحلة لا تخلو من صراع مع الأقنعة التي تفرضها الأدوار الاجتماعية.
الذات عند بولعيش هي مسرح لعرائس متحركة، تحركها خيوط التوقعات والمخاوف. لأن «الأنا» ليست واحدة، بل سلسلة من التمظهرات لشخصيات لم تكتمل. في قصيدة «الشاعر»، يكشف الشاعر عن أن كل قناع يخلعه يواجهه بقناع آخر، فتصبح الهوية لعبة مرايا لا تنتهي، حيث يتجزأ الوجود إلى وجوه متعددة، كل منها يحمل سرا من أسرار الذات. لأنه الهيبي الذي رأى المدينة، وكان وحده يمتلك مفتاحها ولم يصدقه أحد. وفي خضم هذا التشظي، تبرز اللغة الشعرية بوصفها جسرا متينا بين الواقع والمتخيل. يجمع شتات الذات ويعيد ربطها بالكون. لتتحول الحروف إلى رموز وجودية، وتصير اللغة إدراكا أنطولوجيا يفضي إلى اكتشاف مساحة للذات بين الفوضى ومعهود الحياة. ولا ينفصل هذا الصراع عن سياقه الثقافي والاجتماعي. فالمجتمع لدى الراحل منير بولعيش ليس خلفية صامتة، أو لوحة خاصة بالسياح، بل محركا يعيد تشكيل هوية المدينة بخيوط ناعمة، والشعر آلية لتمظهر هذه الهوية في اختلافها وتعددها الخلاق.
تشكل الأسطورة مرتكزا محوريا في ديوان» لن أصدقك أيتها المدينة» لكونها أداة لاستعادة الذاكرة وإعادة تأويل تاريخية مدينة طنجة، ومعها ذات الشاعر المثقلة بالحمولة الأسطورية، من خلال أسماء أدبية وفنية رفيعة كانت مفتونة بفضاء طنجة مثل: بول بولز وجان جيني، وهنري ماتيس، دولاكروا، جون هوبكنز، وليام بوروز، خوان غيوتيسولو، خابيير بالينثويلا، جاك كيرواك، إيرا كوهين، بيتر أورلوفسكي. صمويل بيكيت، ألبرتو مورافيا، راندي وستون، والدوك إلغتون، وبرايان جونز. وبموجب ذلك فإن فضاء طنجة يغري بالتأويل ومحاولة إعادة تشكيل صورتها على نحو فيمينولوجي عبر ربط تمثيلاتها بالإدراك الحسي، وتجربة الشاعر وهي تروم رسم صورة مكتملة عن مدينته المشهدية، لذلك فهو لا يصدر يقينات، بل يفتح أبواب التأويل عبر جمله الاستفهامية، وصيغة التعجب المرادفة لحيرة الشاعرة من تحولات مدينته المحاصرة بالإقامة الجبرية:» لا مَوْسِمُ المَطَر.. لا مَدَافِعُ سُورِ المَعْكَازِينَ.. لا رُوّادُ زَنْقَةِ الشَّيَاطِين.. وَحْدَهَا رِيحُ الشرقي مَنْ تَفْرِضُ حَالَاتِ الطَّوَارِي وَالإِقَامَاتِ الجَبْرِية».
شاعرية الذاكرة والنسيان:
الذاكرة لدى الشاعر منير بولعيش محكي شعري متجدد تُعاد فيها صياغة الأحداث عبر حوار بين الذات والرمز أو الأسطورة، حيث يمتزج الماضي بالحاضر لينتج زمنا شعريا مرنا، يتجاوز فكرة التتابع الخطي أو الثبات. الماضي ليس حقيقة ثابتة، بل مساحة مفتوحة لإعادة البناء، حيث تتشكل الهوية، من خلال تداخل الذاكرة الفردية مع الجماعية. وعندما يستخدم بولعيش رموزا مثل: «آدم، محمد شكري، دولاكروا، الكيخوتي، هيراقليس، عل باي، المهاجر المالي»، لا يمجد الماضي الأسطوري، بل يعيد تفعيل هذه الرموز في سياق معاصر، لتصير جسرا يربط الذات بالعالم.
الرمز بأبعاده التاريخية والدينية والأسطورية أداة لمواجهة النسيان السلبي الذي يُلغي الماضي، ويستطيع الشاعر عبر طاقة هذا الرمز أن يعيد اكتشاف الهوية الشعرية على نحو مختلف. بموجب ذلك يعمل منير بولعيش على تحرير الذات من قيود الزمن الخطي، ويسمح بخلق هويات متعددة عبر التحولات الرمزية. لأن الرمز في شعره لا يُخفي الحقيقة، بل يكشف عن قدرة الذات على التحول، حيث تختفي الحدود بين الواقع والخيال، ويصير الوجود حوارا مستمرا بين الظاهر والمخفي.
هذا التحول (الزمني أو الرمزي) يرتبط بتصور بولعيش للزمن بوصفه حركة أنطولوجية، حيث اللحظة الحاضرة نقطة التقاء الماضي بالمستقبل. لكون «الزمن الضائع» في شعره ليس زمنا جامدا، لأنه مرتبط بوعي شعري مكثف تذوب فيه الفواصل بين الماضي والحاضر، ويقاوم فكرة الانتهاء. هذا الملمح الفينومينولوجي للزمن، في تجربته الشعرية يمكن الذات الشاعرة من اختبار اللحظة الآنية، وإعادة تشكيل الذات عبر تفاعلها مع الذاكرة ومعهود الحياة. وتبعا لهذا المنظور يصبح النسيان ضرورة لإبداع هوية ثقافية جديدة. تعكس تجربة منير بولعيش الشعرية هوية الإنسان الحديث الممزقة، وهو يسعى مثل «هيراقليس» جمع أجزاء وجوده المهدد بالفناء. هذه الحوارية الشعرية بين الذاكرة والنسيان تمكن الشاعر من إدراك إبدالات الذات بوصفها إمكانات متعددة من المحتمل. وتزودها بطاقة النسيان يمكنها التحرر من عبء التاريخ، وتفتح بابا لتجديد الهوية عبر تذويب الحدود بين الزمنين، وبين الذات والآخر، وبين الكلام والصمت.
تشابك اللغة والكينونة:
تتحول اللغة في تجربة الشاعر منير بولعيش من أداة ناقلة للمعاني، إلى موطن يَتَجَلّى فيه الوجود ذاته، حاملا إمكانية الإنصات إلى همسه الخافت، حيث لا تُختزل الكلمات في وظيفتها التواصلية، بل تتحرر من قيودها لتصير نوافذَ تُطلّ على عوالم لا تُدركها الحواس، لأن الشاعر هو حارس الوجود يفكك المتعالي، ويكشف المُستتر. والحقيقة لديه ليست مفاهيم جاهزة، بل إمكانية تأويلية عبر الحوار مع كل محمولات الحياة، لذلك وتبعا لديوان» لن أصدقك أيتها المدينة» فإن ماهية الحياة تظل مرتبطة بغموضها كأفقٍ لا ينضب، ما دام الشعر ممارسةً فيمينولوجية تُعيد تشكيلَ علاقة الإنسان بالعالم، عبر فتح مسارات جديدة لفهم الذات والكون، وبموجب ذلك كانت كلماته تجسيدا لوعي شعري قلق وحساسية جمالية مفرطة. ولعل هذه السمات جعلت من تجربته مجالا لنقد فلسفي جذري للاختلالات الأخلاقية والاجتماعية. رأى في الشعر وسيلة لإشعال شرارة الوعي، فكتب دعوة إلى استعادة القيم الإنسانية المدفونة تحت ركام المدنية الحديثة. مدينة الإسمنت التي رسمها في شعره لم تكن مكانا ماديا فحسب، بل استعارة لانهيار التواصل الإنساني، وتحوّلِ الفرد إلى كائن غريب في عالمٍ يفتقر إلى الروح. آمن بولعيش بأنّ الصراعَ مع العالم فرصةٌ لإعادة التوازن المفقود، فسعى عبر قصيدته إلى نسجِ معان جديدةٍ تُعيد الربط بين الإنسان ووجوده، والفرد والمجتمع. وكانت كلماته جدلا مستمرا بنزعة إنسانية رفيعة.
في هذا التشابك بين اللغة والكينونة، يصير الشعرُ فعلا تأسيسيا يعيد ترسيم حدود الإمكان البشري. فالشاعر عند بولعيش ليس سيد الكلمات، بل هو ضيف عليها، يستمع من خلالها إلى نداءات الوجود، ويشارك في صنع عالمٍ أكثر اتساعا، وأعمق غموضا». الشاعر الذي انتهى تمثالا في متحف الشمع، خذلته قرون الاستشعار في الاهتداء إلى الرباط السحري الذي يصل الزنقات بالزنقات، الشوارع بالشوارع، الحانات بالشعراء، المقاهي بالكسالى، والأمهات بمزار القديس سيدي المصمودي، حيث أشعل الشموع – كل يوم – وأصلي لأجل الشاعر الذي انتهى.. انتهى تمثال شم!!».
بولعيش لم يرحل، إنه يُلقي قصيدته الأخيرة من وراء الغياب، ويطلب منا أن ننصت لها. الشعراء «حراس الذاكرة»، وكلّ كلمة نكتبها عنهم تُشعل شمعة في مواجهة ظلام النسيان، قبل أن يُصبح الشعرُ مجرَّد أحجارٍ على قبرٍ مجهولٍ.

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب