ثقافة وفنون

الشاعر مصطفى ملح: الفن غير قادر على تغيير الواقع

الشاعر مصطفى ملح: الفن غير قادر على تغيير الواقع

حاوره: عبد اللطيف الوراري

الشاعر مصطفى ملح: الفن غير قادر على تغيير الواقع

مصطفى ملح شاعر مغربي، وواحدٌ من أبرز شعراء الجيل التسعيني موهبة، وقدرة على التجديد في أدوات الكتابة، وانفتاحا على أجناس الأدب. راكم عبر مساره الإبداعي أعمالا شعرية منذ باكورته «دم الشاعر» في عام 2006، جعلته يؤسس أسلوبه الخاص، الذي يجمع بين ثراء الإيقاع ورمزية اللغة، بل بقي يُجرّب فيه كلما نادَتْهُ قصيدته إلى توسيع أفق حداثتها التعبيري والوجودي. عُرِف بوفائه لقصيدة التفعيلة، وأتى فيها بعجائب القول الآسر، مثلما ذهب إلى قصيدة النثر نفسها، ضافرا إحداهما بالأخرى، فلا تحسّ متى تبدأ هذه ومتى تنتهي تلك. وقد ساعده انفتاحه على أجناس الأدب، مثل القصة القصيرة والرواية والمقالة، على توظيف السرد وشعرنة اليومي وأسطرته. كما أخذه شعر الأطفال إلى ذاكرة الأيام الأولى، بقدر ما قاده إلى شخصنة متخيله الكتابي الذي يرفد عناصره من معين اللاوعي والأحلام والفنتازيا. فكانت هذه الأجناس بمثابة توسيع لمفهوم الشعر عنده، وتطوير أدواته وحساسيته اللغوية والتعبيرية.

* كيف جاء مصطفى ملح إلى الشعر وعقد عليه زمام كينونته؟ هل تذكر واقعة ما أخذتك إلى الشعر؟
ـ منذ الطفولة، كان الطفل الذي كنته يرفض أن يتأقلم مع كونه طفلا. في سن الثامنة ألفيتني أنصت إلى لور دكاش وعبده الحامولي ومنيرة المهدية، وأقرأ جبران والمنفلوطي. كبرت في سن الثامنة، وكان عليّ اجتياز ثلاثة كيلومترات من البيت إلى المدرسة، تحت المطر والبرق والرعد. كنت خائفا مرعوبا، وكانت طفولتي، تبعا لذلك، قصيدة شعرية مكسورة الإيقاع. أما السنوات التالية فهي مجرد محاولة لترميم انكسارات تلك القصيدة التي هي أنا. الخمسون سنة التي عشتها لم تكن إلا محاولات لإصلاح أعطاب الطفولة، وتنقيح أخطاء الطبيعة، بذلك صارت قصيدتي رقية شرعية ضد غضب الرياح؛ تلك الرياح التي آذت الطفل الذي كنته. رقية ضد البرق الذي أخاف الطفل، وضد أوحال القرية التي كانت تسحب حذائي فألتصق: تحتي أرض تسحبني، وفوقي سماء ترميني ببروقها ورعودها. منذ خمسين سنة وأنا أكتب: أي أخلّص الطفل الذي كنته من مخاوفه، وأنياب العزلة المغروسة في روحه.
*أصدرت باكورتك الشعرية «دم الشاعر» عام 2006. كيف تستعيد من خلاله حماسة الشاعر وأطراف شهوته التي تنحدر إلى حقبة التسعينيات؟
ـ في منتصف التسعينيات، في مدينة الجديدة المغربية، كنت واحدا ممن انتسبوا إلى السرب. السماء فسيحة، والخيال في متناول الجميع، وأنا أنخرط في السرب. كنتُ أعتقد أن الشعر شرط وجود، وعنوان حياة، وكل شيء. كنتُ أراهن عليه كثيرا لينقذني من عضات القروش، من هجوم التتار، من فوضى اللاوعي، من غموض الخفافيش، من زراعة النجوم، ومن كل شيء. كان السرب في مدينة الجديدة يسع للكثير من أصدقائي: أبو بكر متاقي، سعيد ياسف، عبد الرحيم الخصار، إبراهيم الكراوي، عبد الرحيم سليلي وغيرهم.
في تلك المرحلة كنت أنشر قصائدي هنا وهناك، لكن الحلم كان متجسدا في إصدار ديوان، وتأخر هذا الحلم إلى سنة 2006، ليتحقق بنشر ديواني الأول المعنون بـ»دم الشاعر» ضمن منشورات وزارة الثقافة المغربية. كانت المرحلة غاضبة وحزينة. وكتبت تصدير الديوان: (أنا لا أكتب شعرا، وإنما أقطر بالدم).
عندما حملت الديوان بين يديّ تفاجأت. كنتُ أظن أنه سيكون رخاميا، شفافا، يلسع ضوء مجازه. كان من ورق فحسب، لم يكن من ضوء. وكان الغلاف رديئا واللوحة لا تحتمل رؤيتها. أصبت بخيبة: أهذا ديوان أم جثة ورقية؟ أم تمثال من صفحات مفرومة؟ لكن «دم الشاعر» يبقى الديوان الأول؛ المعراج إلى الانكسارات العليا، والتوغل العبثي المتوحش في أرض البلاغة وتضاريس المجاز.


* تنتمي إلى جيل التسعينيات الذي شكّل امتدادا للجيل الذي سبقه في سياق تحديث الشعر المغربي، لكن رغم أن معظم أفراد جيلك، انحازوا إلى قصيدة النثر، بقيت وفيّا لشعر التفعيلة، وللإيقاع على وجه الخصوص في بناء ممارستك الشعرية. هل تعتقد بأنّ شعر التفعيلة قادر على مجاراة أشكال الشعر المعاصر وجمالياته الخاصة؟
ـ أنّى يكون الشعر فأنا مُطارده. لا تنسَ أني كتبت ديوانين ينتميان إلى قصيدة النثر، هما: «أرض لا تصلح للحب» و»آخر الناجين من الطوفان»، بل إنني أجد المتعة والدهشة في قصيدة النثر (نماذجها المشرقة الناضجة). وأعتقد أن الشعر لا يُحتجز داخل قفص شكلي. هو الانطلاق والتحرر وتكسير الحواجز، ولكنني أنحاز إلى قصيدة التفعيلة بكل تأكيد. منذ التسعينيات رأيت أن التفعيلة لا تعرقل بقدر ما تحرر. إنها تمنحك مساحة صغيرة لتراوغ الخصم، وهكذا يتحقق الإبداع والإمتاع. إن الحرية المطلقة تفسد الخيال وتجعله يترنح وينط في كل الاتجاهات. التفعيلة تجعل خيالك ينطلق داخل بنية محدودة، وبهذا يستطيع المرء أن يفكر أكثر، وأن ينتقي المفردة التي تستوعبها تلك البنية. وربما، على المستوى النفسي، كنتُ أصفّي حسابات قديمة مع طفولتي التي كانت بلا إيقاع، فحاولت إعادة تشكيلها بالإيقاع. وعلى مستوى التقنية، فأنا أرى أن قصيدة التفعيلة تمنح الشاعر إمكانيات كثيرة لتلميع بلاغته. إن التحرر في درجته القصوى، الذي تمنحه قصيدة النثر، قد يجعل الشاعر يركض دون فرامل، ويلتقط كل ما يمر به دون تنقيح ولا تصفية، وينتج عن ذلك إسهاب في القول، واهتزازات في النظام البلاغي.
من جهة أخرى، أنا أكتب قصيدة تفعيلية لا تكاد تختلف عن قصيدة النثر. التقنية نفسها؛ شعرنة اليومي تارة، وأسطرته تارة، عبر تسليط ضوء الشعر على الهامشي والمهمل واللامرئي واللامسموع، تكثيف اللحظة وتوريط البلاغة في متاهات الكشف، لغة اللاوعي والحلم والرؤيا..
*من خلال مجموع أعمالك الشعرية التي انتظمت في الصدور إلى اليوم، نلاحظ احتفاءك بالسرد عبر انفتاحك على مدوّنة الحياة، التي تعيد تشكيلها وفق منظور أنطولوجي. كيف تقيم هذه العلاقة المتوترة بين خطاب كثيف مثل الشعر وذاكرة حاشدة بالأحداث والاستيهامات؟ أو بعبارة أخرى، ما الذي يبقى من محكيّ طفولتك وسيرتك داخل الشعر؟
ـ في الحقيقة، العلاقة بين الشعر والسرد ليست تداخلا تقنيا، بل هي انفتاح على أفق أوسع للكتابة، حيث لا يكون الشعر كثافة لغوية منعزلة، ولا يكون السرد مجرد محكي خطّي. التوتر بينهما هو ما يجعل النص ينبض بالحياة، حيث يستعير الشعر من السرد امتداده الزمني، ويأخذ السرد من الشعر تكثيفه ورمزيته.
حين أكتب قصيدة تحتفي بالسرد، لا أتنازل عن المجاز، بل أجعل السرد نفسه فضاء لمجازات متحركة، بحيث تتحول التفاصيل اليومية إلى رموز، ويتحول الحدث البسيط إلى استعارة عن وجود أوسع. مثلا، حين أستعيد مشهدا من طفولتي، لا أقدّمه كما هو، بل أبحث عن لحظة مكثفة تحمل دلالات أعمق: ربما بيت الطين ليس مجرد بيت، بل جسد العالم الأول، وربما صمت الجد ليس مجرد صمت، بل صوت الزمن المنحني على كتفيه. ذاكرة الطفولة والسيرة في شعري ليست مجرد وقائع أستدعيها، بل هي خامة أنحتها مجازيا، بحيث تصبح التجربة الشخصية تجربة قابلة للتأويل على مستويات مختلفة. لهذا، حين أكتب، لا أسعى إلى الحكي لأجل الحكي، بل لأجل الكشف، والتقاط ما هو غير مرئي خلف الأحداث الظاهرة. يمكننا القول إن العلاقة بين الشعر والسرد هنا ليست علاقة خضوع أحدهما للآخر، بل علاقة توتر ديناميكي: الشعر يختزل الزمن، والسرد يمدّه، الشعر يحلّق، والسرد يرسّخ. وفي هذا التفاعل، يتشكل النص ككيان مفتوح على الاحتمالات، حيث يبقى الشعر سردا مكثفا، ويبقى السرد شعرا ممتدا في الزمن.
*انفتحت على أجناس أدبية أخرى مثل القصة القصيرة والرواية والمقالة، وكتبت شعر الأطفال؛ ما الذي يُفيد به الشاعر هذه الأجناس، وماذا يأخذ منها؟
ـ انفتاح الشاعر على أجناس أدبية أخرى ليس مجرد تجربة عرضية، بل هو توسعة لأدواته وتطوير لحساسيته اللغوية والتعبيرية. فالشعر، رغم كونه فن التكثيف والرمزية، يحتاج أحيانا إلى الانفتاح على السرد، والمقالة، وأدب الأطفال، ليجد مساحات جديدة للتعبير. ما الذي يمنحه الشعر لهذه الأجناس؟
الشاعر حين يكتب القصة أو الرواية أو المقالة، يترك بصمته من خلال لغته الإيحائية وكثافته التعبيرية. في القصة، يمنحها اقتصاد اللغة وإيقاعها الداخلي، بحيث تصبح الجملة أكثر توهجا ودلالة. في الرواية، يضفي على السرد بعدا شعريا يجعل المشهد نابضا بالحياة، ويمنح الشخصية أبعادا رمزية. أما في المقالة، فيمكن للشاعر أن يحوّل الفكرة إلى صورة مجازية، ما يجعلها أكثر تأثيرا وعمقا. وبالنسبة لأدب الأطفال، الشعر يمدّه بالموسيقى والخيال، ما يجعله أقرب إلى روح الطفل وقدرته على التخييل. وماذا يأخذ الشاعر من هذه الأجناس؟ يتعلم من القصة كيف يبني الحدث ويخلق التوتر الدرامي داخل النص، ومن الرواية يأخذ الصبر على التفاصيل والتوغل في الزمن والمكان، ومن المقالة يستعير وضوح الفكرة وبلاغة الإقناع، ومن أدب الأطفال يكتسب بساطة التعبير دون التفريط في الجمال. كل هذا يثري تجربته الشعرية، فيصبح أكثر قدرة على التوازن بين المجاز والمعنى، وبين الإيقاع والتدفق السردي. في النهاية، العلاقة بين الشعر والأجناس الأخرى ليست علاقة أخذ وعطاء فقط، بل هي تفاعل ديناميكي، حيث يصبح الشاعر أكثر انفتاحا، ويتحول النص إلى مساحة تجمع بين الحلم والتأمل والحكي في آنٍ واحد.
*ما هي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة؟ وهل تعود إلى تنقيح ما تكتبه؟
ـ لا طقوس لي، أكتب في أي زمن، ليلا ونهارا. وفي أي مكان، شرط أن يتوفر الهدوء لأركز في الكتابة، بالنسبة للشعر، هناك ما ينفرد به قياسا إلى غيره. لا أتحدث عن طقس الكتابة، وإنما عن الحوافز النفسية التي تدفعني إلى كتابة الشعر. العواصف والرياح وتمايل الأشجار والسحب الراكضة.. سقوط المطر ورائحة التراب. يعتبر هذا أعظم حافز لي على الكتابة، إذ أشعر بالحزن الشديد والرغبة في البكاء الشديد. هذه محفزات الكتابة الشعرية وليس طقوسها، أما الأجناس الأدبية الأخرى فلا طقوس ولا حوافز، وإنما تأتي نتيجة لعوامل اجتماعية أو سياسية يعرفها الوطن أو العالم. مثلا، الآن أنهيت روايتي الجديدة «رقصة السيد ريختر» وهي تصور جزءا من تراجيديا زلزال الحوز، الذي ضرب المغرب في سبتمبر/أيلول 2023، ودوافع إنتاج النص الروائي كما هو ملاحظ طبيعية واجتماعية. أما في ما يتعلق بالتنقيح فهو أمر ضروري. لا بد من العودة إلى نصوصي لتنقيحها والاطمئنان عليها.
* كيف تنظر إلى ما يجري اليوم في غزة من حرب إبادة أمام مرأى العالم؟ هل بوسع الشعر، والفنون عموما، أن يفعل شيئا؟
ـ إن ما يحدث في غزة هو خرق سافر لحقّ الفلسطيني في الحياة. هو تعدٍّ على حق العصافير في التغريد، وإعاقة الأشجار عن النمو. غزة تمثل تراجيديا معاصرة، وهي ترزح تحت نير الاحتلال الغاشم. غزة تتعرض لمحو هوياتي، واقتلاع للجذور، وتشويه ممنهج وجائر للجغرافيا. والغريب أن صوت العالم صار أخرس، متمثلا في منظمات حقوق الإنسان، والأمم المتحدة وغيرها. العالم يتفرج على الدراما الكنعانية في مسرح العبث المفتوح على أشلاء الفلسطينيين. الدم الفلسطيني أصبح مادة للفرجة في قنوات الإعلام ومواقع التواصل، العالم العربي منذ قرون وهو يعيش موتا سريريا أبديا، والأبجدية تنشغل ببرامج الطبخ والفكاهة والغناء، والمناضلون صاروا سماسرة وباعة متجولين في شوارع النخاسة وبيع الضمير.
شخصيا، أرى أن الرصاصة هي التي تُرجع الحق الضائع، أما الفن فغير قادر على تغيير الواقع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب