
عبارات القلق المريحة

توفيق قريرة
في الخطابات العاطفية، يظهر القلق بشكل واضح في طريقة استخدام الكلمات وتفسيرها. وتساعد اللسانيات الحديثة في فهم الكيفية التي تعكس الخيارات اللغوية الحالات العاطفية والمعرفية. إن كنت منشرحا فإنك ستقول لمن تحبّ: (أنا أحبك) وما شاكلها، لكن إن كنت قلقا فيمكن أن تصوغ السؤال الانكاري التالي: «يعني… أنا مرتاح معك؟». الشخص القَلِق قد يستخدم لغة غير مباشرة لتجنّب المواجهة، أو الرفض. ويعتبر ذلك استراتيجية لغوية لحماية الذات وتقليل المخاطر العاطفية.
في حوار عادي يمكن أن تقول لمن تحبّ: «أنا مشغول هذه الأيام». وفي جوّ القلق يمكن أن يجيب من يريد التصعيد: «هل هذا يعني أنّك لم تعد تهتم بي؟». القلق يمكن أن يؤدي إلى استنتاجات زائدة عن الحاجة بناءً على معلومات غير صريحة، حيث يميل السامع المتبرّم إلى تفسير الإشارات البسيطة على أنّها تعكس تغيّر المشاعر.
ليس التوتر في الحديث عن عواطف الحبّ شيئا سالبا دائما، فمن الممكن أن يعمد المتحدث الخائف إلى استعمال عبارات استعارية تعكس فقدان السيطرة على الجسد من نوع: «أنا غارق في حبّك»، وفيها استعارة يصبح فيها الجسد فاقدا للسيطرة فقدانا يعكس توترا، وإن كان في ظاهره كلاما مريحا، ذلك أنّ هذه الاستعارة تريح من سيستفيد من غرق المحبوب في الحبّ، ولكنّ أساسها قلق على ضياع الوجهة بإغراق الجسد. الاستعارة تعكس حيرة عميقة، إذ حين يغرق الجسد كيف سيفكّر الغارق في بقية الاتجاهات؟ وفي هذا السياق نفسه يمكن أن تجد أقوالا من نوع: «أشعر معك بأنّي أمشي على بيض ليس عليّ أن أكسره». في هذه العبارة تعبير عن توتر في العلاقة، تعكس الاستعارة صعوبة السير في ميدان كلّه مخاطر فلا المرء يعرف كيف يتوقّف ولا هو ينجح في مواصلة المسير؛ وبين وضع ساق ورفع أخرى يمكن أن تنكسر بيضة، أو أن يتهشم قلب أو تفيض روح هي أسرع من محّ بيضة حين تسيح لحظة كسر غير إرادية. في عبارة أخرى تقال لإراحة المحبوب، ولكنّها تعبّر عن شدّة قلق المحبّ القائل: «قلبي ينبض بسرعة كلما رأيتك». فيها يربط الحب باستجابة جسدية قد تكون مشابهة لأعراض القلق. القلق في الحبّ يصاغ بعبارات فيها ما يريح المتلقّي، ولكنّه يعكس قلق الباثّ. يشتعل الكلام حين يحاك، وينبغي أن يصل إلى المتلقي بردا لروحه وسلاما.
في حياتنا اليوميّة يظلّ المحبوب في وضعية قلقة بتكرار السؤال: «هل تحبّني فعلا؟»، أو «أما زلت تحبّني؟» ومن منظور تداولي، قد يؤدي البحث المستمر عن الجواب المريح إلى تكرير السؤال بحثا عن برد اليقين، وهو من شأنه أن يعكس من خلال السؤال توترا في المحادثة. فتكرير السؤال يفترض ضمنا عدم ثقة في الإجابات السابقة.
لا يمكن الجزم بأن الكلمات المتوترة مريحة، أو غير مريحة في حد ذاتها، بل يتحدد ذلك حسب البنية التصورية التي خلف الخطاب وحسب سياقه العاطفي والإدراكي. وهذا السياق يعكس تعاونا مقلوبا: فلسان حال المحبوب الذي تنتج لأجله الرسالة يقول: أرح قلقي بكلمات تكون كنسج الحرير حريرا يلفّ روحي المرهقة. ولسان حال العاشق المبتلى أن يستعير ما به يصف لظاه واكتواءه وهو يريح سامعه. مبدأ التعاون Cooperation Principle الذي قال به الفيلسوف غرايس Grice والذي يقتضي أنّ المتكلمين يتعاونون في ما بينهم لإنجاح المحاورة، يبدو في مثل هذه الحالة مشتغلا على طبقتين: ظاهرة وخفية: قلق مغلف بالراحة؛ وتعاون على قتل نفس من أجل إحياء أخرى. كثيرة هي المعاني التي تستعمل في العشق وتوحي بأنّه بني على روح ثأريّة. لسان حال العاشق يقول حتى أستريح، عليّ أن أثأر منك أنت من ورطني في هذه الحكاية العشقية القاتلة؛ ربما حرّك معاني العشق سؤال: هل تريد قتلي؟ إذن لنمت معا ولكن أفضل السيناريوهات لديّ أن تموت أنت يا عاشقي من أجلي. في استعارات العشق قتل وهي استعارات متواترة في كثير من الثقافات يختفي هذا المعنى وتزيّنه لنا الأدبيات المسالمة في معان كثيرة أهمّها الموت من أجل الحبيب، أو الموت في أهدابه.
تسعفنا اللسانيات العرفانية بالقول، إنّ تأثير الكلمات التي تعكس التوتر يتوقف على السياق الإدراكي والتأويلي الذي توجد فيه. فالكلمات ليست مجرد وحدات مستقلة تحمل معنى ثابتا، بل هي محفزات إدراكية تعكس أنماطا تصورية محدّدة لدى المتلقي. ليس ما أقوله هو الحقيقة، بل الحقيقة هو ما ينطبع في نفسك أنّي قلته. سيقع في نفسك يا عاشقي أني أنا المحبّ قلق ونار الحب تقتلني، وجسدي ليس جسدي منذ أحببتك، وروحي ما باتت روحي، لقد دكت أعمدتها. وأنت يا عاشقي قلق أيضا مثلي ربّما وتريد أن ترتاح لقلقي. ليكن سأقول كلاما يصفني ويصدقني وسأخرجه على ثنايا استعارة تأرية (الحب قتل مثلا) ؛ ولتفهم يا حبيبي فهما قد تخفف به قلقك من أني ميت صبابة. ولأقل بالكلام نفسه ما يريحك وما يريحني لكنّ ما يريحك هو عين موتي. لتنم هانئا يا حبيبي لأنك أدركت من قولي ما يريحك أمّا تصوّري الذي استعرته فهو ما أحيا به: أنا على قلق كأنّ الريح تحتي على حدّ عبارة المتنبي. إذا كان الشخص يشعر بالتوتر وأتاح له التعبير عنه بالكلمات تصريفا عاطفيا، فقد تكون هذه الكلمات مريحة، لأنها تساعد في بناء جسور تعاطف مع المتلقي وتخفف عنه العبء النفسي. لقد حدث ما يسمّى تأطيرا عرفانيا جديدا إذ استخدمت هذه الكلمات داخل إطار سياقي يتيح إعادة تأويلها بطريقة إيجابية يحولها إلى أداة مريحة.
يرى لايكوف أن اللغة تعمل عبر استعارات تصورية تترجم التجربة الجسدية إلى أنماط إدراكية، ما يعني أن الكلمات المتوترة قد تستحضر تجارب جسدية متوترة فعلا. ففي الاستعارات مثل التوتر ضغط نفسي يُصوّر التوتر على أنّه ضغط جسدي، ما قد يجعل استخدام هذه الكلمات تعزز الإحساس بالتوتر فعلا. ففي قول عبد الحليم من شعر نزار قباني: إنيّ أغرق.. أغرق.. فإنّ هذا القول وكيفية التلفظ به يعكسان عمليات عرفانية تؤثر في بناء العاطفة. فهذه العبارة التي تستند إلى استعارة «الحبّ سائل غامر»، تجعلنا نرى الحبّ على أنه شيء يمكن أن يغرق الشخص. هذه الاستعارة ترتبط بتجربة حسية فعلية (الغرق)، ما يجعلها تثير مشاعر التوتر عند سماعها أو قولها وشعورا بالراحة لدى من يريد من الحبّ أن يغرق المحبوب. وفي نظريات أخرى فإنّ الذهن ينشط المناطق المرتبطة بالخطر والتهديد، حتى إن كنا نعلم أنّ العبارة مجازية. نحن إزاء حقيقة أخرى تقول لنا إنّ المجاز ليس جسر نجاة من الحقيقة القاتلة، بل هو دارة مجاورة له؛ فرفقا بالأبواب التي تفتح دارة على دارة.
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية.