ثقافة وفنون

تسلق الهاوية بسلالم جدل بيزنطي

تسلق الهاوية بسلالم جدل بيزنطي

شهباء شهاب

نصعد إلى الهاوية بسلالم جدل بيزنطي، نحفر قبورنا به، نضيع حياتنا في أوهام لا تشبع ولا تغني من جوع، نمارسه ليلا ونهارا، في حياة بائسة امتلأت به. انشغلنا كثيرا بالجدل البيزنطي بمختلف أطيافه وصنوفه، وتركنا أنفسنا خلف ظهورنا، تنهشنا الضباع الضالة، وهي تستمتع وتتسلى بنهش جثثنا وأشلائنا. لم ينجح أحد في فرقتنا أبدا، كما نجح هذا الجدل البيزنطي، الذي حفر بيننا أخاديد امتلأت دما وقيئا. هذا الجدل البيزنطي أنجب ملايين الأبناء ونشرهم بيننا ليديموا حياة أخاديد الموت الممتلئة صديدا وقيحا.
الجدل البيزنطي هذا جاءنا من عصور سحيقة، وأقام واستوطن بين ظهرانينا. عصور لم نشهدها بأنفسنا، ولم نخالط الناس فيها، ولكننا قرأنا عنها، هنا وهناك، أو سمعنا بها من أحاديث الناس ورواياتهم، جيل يورث الروايات والأحداث لجيل آخر، فتتغير الحكايا والمنقولات، بسبب القص واللصق والذاكرة البشرية الناقصة، التي تذكر شيئا وتنسى أشياء، والتي قد يفوتها الكثير من الشوارد والهنات هنا وهناك. ثم نجيء نحن أبناء اليوم نختلف حولها، ونتصارع ونتقاتل بشأنها، ثم ننتهي بعداء وقطيعة، أو بحرب باردة أو مشتعلة.
وكما يدل عليه اسمه، فإن هذا الجدل ولد في بيزنطة عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، التي أشتهر أبناؤها بأنهم ممن يحبون الجدل العقيم ويعشقونه، ولا يستطيعون العيش من دونه، فهو كالهواء والماء لهم، وهذا مما كان يسعر الحياة ويملأها توترا ونزقا وضغينة، فينشغل الناس بهذه المشاعر السلبية عن البناء والإعمار والإنجاز، ويبقون واقفين بلا حركة ولا تقدم ولا أمل بالتغيير الايجابي. فعندما دخل الجدل البيزنطي حياتهم، فتك بهم فتكا، ولم ينس منهم أحدا، يتجول بينهم مختالا ينكأ الجروح، يفتحها، وينثر فوقها ملحا، ويزيح التراب عن القبور لتنهض شهقة الميتين، تخطف الأرواح المتصارعة فتنفتح قبور جديدة لضحايا الجدل البيزنطي، يدفنهم هو بيديه، ويهيل عليهم التراب وهو يشهق ضاحكا ملء شدقيه فرحا وغرورا وخيلاء، بما أفلح ونصب من فخاخ لأهل بيزنطة المساكين العزل، إلا من ألسنتهم التي لا تكف لغطا ولا تشبع نزالا، ومن أرواح شقية أنساها الجدل البيزنطي نفسها فزهدت بحياة البشر الأسوياء، وأحبت حياة الموتى وحسدتهم عليها، فارتقت ساحة النزال تقاتل نيابة عنهم، هم الغائبون، إلا من ذكراهم المتوقدة في قلوب عشاقهم المخبولين.
كان على حاكم بيزنطة آنذاك أن يعثر على طريقة لينقذ بلاده من المرض الذي أصابها وتفشى فيها، مرض الجدل البيزنطي، فما كان منه إلا أن شرّع قانونا يحرم بموجبه الجدل البيزنطي تحريما تاما، ويفرض عقوبات على من يخالفه. إلا أن البيزنطيين كانوا، مثلنا نحن، قوم جدل وشقاق ونفاق، فرفضوا التخلي عن الجدل البيزنطي الذي كانوا يعشقونه كما يعشقون حبيبا لا يمل ولا ينسى، وظلوا ممسكين به قرونا طويلة، متشبثين به تشبث العاشق بأطراف ثياب معشوق مغادر، لا يرضون أن يتركونه يغادرهم ويرحل بعيدا عن دنياهم، حتى جاء الموت يوما لتارك الصلاة. وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي حاصر فيه العثمانيون بيزنطة. حاول الإمبراطور البيزنطي في ذلك اليوم العظيم أن يحرض شعبه على قتال الغزاة المعسكرين على أسوار الإمبراطورية. فكان يدعوهم ليلا ونهارا لأن ينفضوا عنهم وعن ثيابهم براثن الجدل البيزنطي، الذي كان يوسوس لهم ويملأ صدورهم بالأحقاد والضغائن، ويخدر حواسهم بسحره الأسود الخبيث، ثم يلتهمهم واحدا واحدا كوباء كاسر. ولكن كل صيحاته لم تجد آذانا صاغية تسمع وتعي، ولم تجد ألبابا تفقه وتفهم.
كان الجدل البيزنطي يخدرهم بدروبه ومتاهاته، كمتاهة الثالوث المسيحي وكينونته، ومتاهة جنس الملائكة وهل هم ذكور أم إناث، ومتاهة حجم إبليس وشكله وصورته، وهكذا. فالغزاة كانوا يعسكرون خارج أسوار الإمبراطورية، يتربصون بها، حتى وصلوا إلى بيزنطة نفسها، فانتقل القتال إلى شوارع المدينة، والشعب وكبرائه في شغل شاغل يختصمون ويتقاتلون حول متاهات لا تؤدي إلى نهايات، والجدل يتلصص عليهم من بعيد، منتشيا هازئا أنه قد انتصر عليهم بالحيلة والمكر والخديعة. وصل الغزاة لأعتاب غرف نومهم، وهم مستغرقون في خدر الجدل البيزنطي الذي أنشب أنيابه ومخالبه فيهم، وانتزع ألبابهم وقلوبهم منهم. وهكذا أسقط الجدل البيزنطي إمبراطورية الروم العظيمة وحضارتها، كما يسقط فيروس صغير لا يكاد يرى بالعين المجردة مجتمعات بأكملها ودولا كبيرة فيصيبها بالوباء والفناء.
خطر الجدل البيزنطي على بالي وأنا أرى أن هذا الجدل البيزنطي، غير نوعية حياتنا للأسوأ، وملأها بمتاهات جدلية عقيمة لا نهاية لها، مثل متاهة أصل العراقيين وجذورهم، وهل هم عرب أم سومريون؟ ومتاهة العهد السياسي الأفضل في العراق هل هو الملكي أم الجمهوري؟ ومتاهة من دمر العراق، ومن شارك بالتآمر عليه، ومتاهة من بدأ الحرب هل هو العراق أم جيرانه؟ ومتاهة هل أنت معي، أم أنك صامت، وبالتالي فأنت منحاز لعدوي، ومتاهة التشفي بإخوان وأصدقاء لنا تصيبهم مصيبة، فنختلف في ما بيننا أنفرح أم نحزن لها، حسب طائفتهم، وحسب معتقدهم، ومتاهة هل نتدخل في شؤون الدول المجاورة لنا، أم نهتم بشؤوننا الداخلية، ما دمنا ننكر على جيراننا التدخل بشؤوننا نحن؟ ومتاهة هل ننتصر للإنسان البريء بغض النظر عن لونه ودينه وطائفته وأصوله، أم نحاسبه على كل ذلك؟ ومتاهة التدخل بما ينشر الآخرون من آراء وأفكار، ومحاولة التحكم فيهم، أو إقصائهم وتهميشهم إذا لم نتفق معهم، وغيرها من المتاهات الجدلية العقيمة التي لم تنتج إلا تباعدا وفرقة وضغينة وبغضاء وقطيعة بين أفراد المجتمع الواحد، أو بين مجتمع معين وغيره من المجتمعات الأخرى، في وقت نحن بأمس الحاجة فيه للتضامن والتواصل والتعاون بيننا حتى نلحق بما تحققه الأمم حولنا.
فلا أخطر من أن يقع مجتمع ما تحت وطأة الجدل البيزنطي ومكره وسحره الأسود، فيعيش في الماضي أكثر مما يعيش في الحاضر، ويرافق الموتى أكثر مما يرافق الأحياء، ويعتاش على الخلافات والنزاعات العقيمة، ويبحث عنها ويقتات عليها أكثر مما يعيش على المحبة والتفاهم والتناغم والسلام. ولكن هذا لا يعني أن لا يكون للحوارات النافعة والنقاشات الموضوعية والمحادثات التي تصفع الأدمغة وتحضها على التفكير العقلاني، وعلى الغوص في الأعماق وتجلية أسرار النفس والكون، التي تنشد النقد البناء للفرد وللمجتمع مكانا في حياتنا وفي مجتمعاتنا من أجل الوصول لحلول ورؤى للنزاعات ومسائل الخلاف، بل إن هذه كلها مطلوبة للوصول إلى تصالح بين الأفراد، والجماعات من أجل تحقيق التنمية والرفاهية للجميع.
فالحوار العقلاني والموضوعي الهادئ على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول لا بد أن يكون وأن يظل هو الطريق الأوحد لحل القضايا الشائكة والخلافات العميقة التي قد يظن لوهلة أن لا حل لها، إلا إذا كان أحد الأطراف يرفض اللجوء لهذا النوع من الحوار عدوانا وضلالا.

كاتبة عراقية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب