هندسة النص الشعري: مقاربة نقدية لقصائد نجمان ياسين

هندسة النص الشعري: مقاربة نقدية لقصائد نجمان ياسين
جاسم الفارس
إن قراءة الشعر ودراسته وفق منهج معين، هي أكثر متعة وجمالاً، فالمناهج هي ضوابط الوعي التي تبحث عن مقومات جمال النص في قدرته التعبيرية وإمكانية التوصيل، عندها نكون قد وصلنا إلى شواطئ جمال النص وجمال تلقيه عبر جملة من العلاقات التي نراها في التكثيف وجمال اللغة وأنوثة بلاغتها ووهج الحس وموسيقى الروح الكامنة في تشكيلة النص.
إن شعر الحب مثل فراشات الربيع التي تزين حدائق العالم، ينبغي التعامل معها برقة القُبلة، وهذا ما سأتعامل به مع نصوص نجمان ياسين الشعرية إذ كل نص قلعة شعرية تنبثق من وجودها أضوية الحس والرؤية والحيوية، تشتعل هنا، وتنطفئ لتضيء في قلعة أخرى.
تمتلك نصوص نجمان قدرة تعبيرية عالية الدقة، وشاعرية الأناقة، وقابلية على التوصيل الذي يملأ العقل والنفس والقلب بورد الإبداع، ونسمات ربيعه الخلاق، فتحدث أثراً في الوعي الذي يرتقي بالقلب والعقل الى معارج الجمال والحرية.
نصوص منطقيه يتوازن فيها اللغوي وغير اللغوي، التصور والتخيل والموسيقى الصانعة للنص. كثافة النص المحيطة به مهيمنة عليه، ذلك أن بنية النص متماسكة بدقة وجمال، اللغة بنحوها وصرفها وبلاغتها والخيال بسعته، التي تمتد لتشمل العالم كله، الموسيقى التي تبعثها تراتيل الوجد الثاوية في النص.
إن جوهر الشعر، كما يقول جينيت، لا يكون في الصياغة اللغوية مع أنها هي التي تقوم باستقطابه، وإنما في شيء أبسط من ذلك وأعمق، إنها نوع القراءة التي تفرضها القصيدة على قرائها، نصوص نجمان تتجاوز هذه الرؤية، إذ تتوحد اللغة بالخيال بالحلم، بالاتحاد بجسد الأنثى لتجعل من القراءة إعادة اكتشاف للوجود في تجلياته العاطفية.. أقصد الحب.
هذا الوضع المثير الذي يتجاوز مجرد ملامح النطق، أو الدلالة يضفي على جملة الخطاب الشعري، أو على جزء منه أحياناً، هذا الحضور اللازم، والوجود المطلق الذي يسميه الناقد الإنكليزي إلورد (البداهة الشعرية)، في تلك الحالة فإن اللغة الشعرية تبدو كأنها تكشف عن بنيتها الأصلية، التي لا تتمثل في شكل خاص محدد بصفات معينة، وإنما في حالة من الحضور والكثافة التي يمكن أن تصل إليها متتالية لغوية، بحيث تخلق حولها هامشاً من الصمت يعزلها عن الكلام العادي المحيط بها، هكذا هي نصوص نجمان ياسين، في تماسكها الخلاق الذي يمكن بيان مقوماته في الآتي:
-1 علامات منطقية في البنية اللغوية للجمل التي تتابع بعضها بدقة.
2 – تُبنى على منطقية العلاقات، منطقية الزمن وهي تعد جزءاً محدداً من منطقية العلاقة المتصلة بالنظام الزمني للنص، فالأحداث تقع في زمن، والأفعال هكذا تكوّن شبكة زمنية، وقد يتمثل ذلك في حالات سردية أو بنية حركية أعمق.
3 – منطقية المكان، الذي يتموقع في النص، وتقع فيه أحداثه الجزئية والكلية عبر مؤشرات مكانية منوعة، تتخللها تحولات ترتبط بالفضاء الكلي للنص.
4- منطقية الكيف، فالنص في جملته أو في بعض وحداته يمكن أن يعد (زائفاً). ينتمي للخيال البحت، أو أولياً مثل الأساطير، أو حقيقياً كالتاريخ، أو ممكناً احتمالياً كالنظريات وغيرها.
جميع هذه الخواص المرتبطة بطبيعة التجربة، التي يتم التعبير عنها، فضلاً عن المنطق الوظيفي والإسنادي المتعلق بالافتراضات والتضمينات وغيرها تحدد اشتقاق الأبنية العميقة للنص، وما يترتب عليها من تحولات تتجلى في أبنيته السطحية، كما ذهب إلى ذلك كولير في كتابه «شاعرية الشعر» الذي ذكره الناقد صلاح فضل في كتابه «أساليب الشعرية المعاصرة».
أنظرُ إلى نصوص نجمان ياسين الشعرية بعين فيلسوف الشعر هيدغر. وعبر مقولته: (إن الشعر يؤسس للكائن بكلمات الفم، الشعر يهب الأسماء التي تخلق الكينونة وجوهر الاشياء، فهو ليس أي قول، ولكنه على وجه التحديد ذلك القول الذي يستطيع بطريقته الفطرية أن يخرج للنور، أي للوعي، كل ما تحاول اللغة اليومية ان تلتف حوله وتربّت عليه.
كيف نكتشف القصيدة؟
سؤال تثيره نصوص ياسين بما تمتلكه من تفرد، فهي نصوص تعبر عن ذاتٍ تفيض بالعشق، طافحة بأفكار الجمال وتجلياته، هي شمعة شعر زيتها ذاته وفتيلها قلبه، كاتبها سجّان لطيور اللغة في قفص العشق. يقول الشاعر مالارميه: (إن الشعر يُصنع لا من الأفكار، بل من الكلمات، وبما أن الأفكار يعبر عنها بالكلمات ولا تستطيع أن تكون من دونها، وبما أن عدداً كبيراً من الكلمات تدل على الأفكار، رغبنا في ذلك أم لم نرغب، فإن هذا التعريف يجب أن يؤخذ على أنه يعني أن الشعر يُصنع لا من الكلمات كتعبير عن الأفكار. لكن من الكلمات نفسها، الكلمات كأحداث حسية، وباختصار الكلمات كالأصوات التي تحملها). ليس ذلك فحسب، بل أيضا أن أصوات معاني أصوات الكلمات لها أثرها في بناء القصيدة وجمالها. إنها نصوص تعيد تنظيم الوجود بالصور من خلال المرأه التي تختصر العالم، فصور حضورها معادل للحياة.. هي القوة التي يواجه بها الموت كما في قصائد (غزال الحب والموت) والأنثى فيه هي الثاوية في الوجود:
شجره تنتظر في وحدتها المضيئة
عزلتها المنيعة
شمس الله
نوره الهابط كاليقين
شجرة يلفها صقيع الروح
برد الذاكرة.
وهي فاختة تمحو أثر نعيق الغراب:
لكن قرب النافذة فاختة مفردة
تقرأ أحزان القلب
تنشر في الروح الحكمة والسكينة.
وتنتصر الأنثى في (آخر الجرعات) على الموت، تعيد لرجُلِها الحياة:
آخر الجرعات أسقطت الحجب عني.
أسرت بي إلى مقام أبي ذر
قبلني،
أسلمني أسرار العشق
مسد قلبي
وأطلقني برقاً يرج الفلوات..
أنثاه غزالة ترحل في حدائق الدماء، غزالة تثير في الفؤاد نار العشق والخطيئة، وامرأة تفجر الزوابع، تختزن الحرائق، والأنثى أيضاً قوته في مواجهه الخوف، تستعين بالحب لصناعة الأمن:
امرأة تولد في الخوف
امرأة خوف
ورجل خوف
يلتقيان فهل يستعينان بالحب على الخوف؟
وتتألق الأنثى في (عشبة الهائم).. في قصيدة (عائشة التي تجيء) عائشة تختصر الحلم والحقيقة، والأزمنة كلها، وعناصر الوجود:
طفلة أنت
وأنت السر والشجرة
شمس روحي
وجنون أعماقي
وساوسي
وقصيدتي التي تسكن ليل الرحيل المباغت..
وعائشة وجهها قبلة عشق:
وجهك.
أم وجهي ذاك الذي خرج من سورة المياه؟
وجهك أم وجهك ووجهك ذاك الذي يسكن الألواح
ويضيء بالآيات البينات
وجهك ذاك يا طفولتي وسقمي وشقائي
أم هي العواصف تقتلعني وتأخذني إلى بكارة الكلمات..
عشبة الهائم (نيرفانا) في جسد الأنوثة وروحِها وعقلِها بعبق صوفي آسر:
كنت ازيّنت فأشرق الوجود
أعددت مائدة القلب
نافذة لضوء الحب
وانتظرت بهلول العاشقين
وكان العاشق يسافر في الينابيع
ويناغي هيمان النجوم
يرقب نورك في غصون الآس والياسمين..
ويتألق الشعر في (تجليات عشبة الهائم) ليفوح من عطر الأنوثة، عطرُ الوجد الصوفي:
من تكونين؟
العشبة التي أترعت بعسل الأنوثة حدائق قلبي
وألغت مرارة أحزاني
وأطلقت جنوني
أم العشبة التي أفعمت روحي بالنور
وأخذتها إلى سر الأسرار وحال الأحوال
وأضاءت في طريقي؟
هذه العشبة موسيقى حدائق العشاق
وهيمان الدرويش في لؤلؤة الأعماق
سر انبثاق الزهرة
وتحولات النور
ثمرة قلبي التي تبارك سقمي ولغتي
وتجعلني الشهيد في جنائن الآفاق.
في «ظبية نون» يقف نجمان ياسين وقصائده مستصحباً ذاته إلى قمة الرضا عبر معراج العشق والتصالح مع الذات. تذوب نصوصه وسفره الدائم في براري الجمال والحرية عند الظبية.. رمز الحرية.. والظبية هي أنثاه، حبيبته هي كله، هي وجده، ونور كلماته هي ضمأه ورؤاه، هي ملاذه:
ربما جاءت لتهديني أكثر من سماء
وأكثر من نهر
وربما تأخذني إليّ
وتعيد وسامة فؤادي المخطوف
كنتَ أيقنتَ أن هذه المرارة التي سلبتك رشدك
لن تزول
آه.. كم كنتَ غير مدركٍ لسر
وسحر
هذه الظبية التي سكبت شهد الملائكة في دمك
وصيرتك طائراً يرفل بالحبور
كنتَ اقتربت من أشواك الهواجس
وكانت السد بينك وبين يباس الفزع.
لذلك كانت هذه الظبية.. أجمل وسيلة في التصالح مع الذات:
أحتاج أكثر من سنة ضوئية لأتصالح مع أشواك الحياة
ومخالب كائنات الغابة
لكنني لا أحتاج أكثر من ومضة
أو نظرة مدركة من عينيك
لأتصالح مع نفسي.
لقد تألقت قصائد نجمان ياسين في تجربتيه الحياتية الخاصة والصوفية، تضافرت التجربتان فحققتا رؤى وجودية قوامها الجمال والحرية.
كاتب عراقي