أمام التحدي الصيني والأمريكي والروسي… الاتحاد الأوروبي يستيقظ جيوسياسيا حتى لا يصبح قوة إقليمية

أمام التحدي الصيني والأمريكي والروسي… الاتحاد الأوروبي يستيقظ جيوسياسيا حتى لا يصبح قوة إقليمية
كل تأخر في توسيع الاتحاد الأوروبي يعني جعل دول البلقان تسقط تحت النفوذ الاقتصادي الصيني وربما الهيمنة العسكرية الروسية، لاسيما وأن نسبة من ساكنة المنطقة متعاطفة مع موسكو.
تدفع الأزمات التي يتعرض لها الغرب مثل قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العسكرية والتجارية الاتحاد الأوروبي إلى تصميم تصور جديد حول علاقاته الخارجية والتفكير في استقطاب أعضاء جدد ونسج علاقات متطورة مع دول مثل المغرب العربي-الأمازيغي، ويرى أن عملية التوسيع الآن ضرورة جيوسياسية للاتحاد.
ويواجه الاتحاد الأوروبي تحديات تاريخية في مسيرته تشبه تلك التي واجهها إبان التأسيس في الخمسينات لإرساء السلام بين ألمانيا وفرنسا، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وعملية ضم أعضاء جدد. والآن أمام التحدي الثلاثي الأمريكي الذي يسحب المظلة العسكرية ويفرض رسوما جمركية، والصيني الذي يحاول استقطاب دول الجوار الأوروبي ثم الروسي الذي يهدد عسكريا الأمن القومي الأوروبي. وأقدم الاتحاد الأوروبي على خطة عملاقة من خلال مشاريع توحيد الصناعة الحربية وبناء جيش أوروبي في الحد الأدنى من التنسيق ابتداء من الوقت الراهن، والآن ينتقل إلى تعزيز النفوذ لاسيما في جواره القريب قبل البعيد.
وهكذا، إن رهان الاتحاد الأوروبي حول توسيع نفوذه هو رهان على محورين أو استراتيجية تنقسم إلى قسمين، الأول وهو عملية توسيع واستقطاب أعضاء جدد للنادي الأوروبي، ويتجلى الثاني في تطوير علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية بالمفهوم العسكري، وذلك من أجل التحول إلى نقطة استقطاب وفلك جيوسياسي تدور حوله الكثير من الدول لاسيما القريبة جغرافيا لتفادي الهيمنة الأمريكية والصينية بالدرجة الأولى ثم الروسية فيما يتعلق بما هو عسكري.
التوسيع لم يعد ترفا
وأهمية توسيع حظيرة أعضاء الاتحاد الأوروبي لم يعد ترفا بل ضرورة جيوسياسية، وجاء هذا على لسان مارتا كوس، المفوضة الجديدة المسؤولة التي قالت عن عملية الانضمام للبلدان العشرة أو نحو ذلك من البلدان التي تقدمت بطلبات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إن «التوسيع أصبح ضرورة جيوسياسية للاتحاد الأوروبي»، في حوار مع الجريدة الفرنسية «لوموند» يوم 9 نيسان/أبريل الجاري. وتضيف في الحوار نفسه «فبين حرب الغزو الروسي في أوكرانيا، وموقف الولايات المتحدة المتغير تجاه القارة العجوز، وطموحات الصين في البلقان، علينا أن نمضي قدمًا، بدون أن نخسر دولة مرشحة للانضمام إلينا، لأن ذلك قد يضعفنا». مؤكدة أنه «للمرة الأولى، نحن نواجه قوى تريد أن ترانا نفشل أو تشن هجمات هجينة ضد بعض المرشحين في الانتخابات الرئاسية مثل مولدافيا (في إشارة إلى التدخل الروسي). يجب أن نحافظ على قدرتنا على التصرف وضمان أمننا».
وفي الاتجاه نفسه، يبرز المحلل جول بيغوت في مقال تحليلي يوم 26 اذار/مارس الماضي في منصة «توريون أورغ» أن «العالم أصبح أكثر خطورة من أي وقت مضى، وأوروبا أكثر ضآلة من أي وقت مضى على الساحة الدولية. فبين روسيا الامبريالية التي تغرق أكثر فأكثر في أوكرانيا، والولايات المتحدة الأمريكية الترامبية التي تضع عينها على غرينلاند أوروبا، يكافح الاتحاد الأوروبي لإسماع صوته ومصالحه. ولهذا، فعملية انضمام دول جديدة إلى الاتحاد يجب أن تكون على أسس جيوسياسية محضة أو لا تكون».
وكانت تقف عدد من الدول الأوروبية في وجه انضمام أخرى وخاصة دول البلقان لسبب اقتصادي، وذلك خوفا من فقدانها تمويلات أموال صندوق التماسك، غير أن التطورات السياسية جعلت الآن هذا العائق هامشيا لأن الاتحاد يرغب في استقطاب دول خاصة البلقان قبل سقوطها تحت الهيمنة الصينية. ونشر معهد التفكير الاستراتيجي جاك دولور خلال شباط/فبراير الماضي تقريرا يبرز فيه أن انضمام ألبانيا والبوسنة والجبل الأسود ومقدونيا وصربيا ولاحقا كوسوفو لن يكون له تأثير كبير على توزيع أموال صندوق التماسك لاسيما وأن نسبة ساكنة هذه الدول محدودة وليست بالكبيرة مثل دول سابقة انضمت كبولونيا.
ويبقى كل تأخر في عملية التوسيع يعني جعل دول البلقان تسقط تحت النفوذ الاقتصادي الصيني وربما الهيمنة العسكرية الروسية، لاسيما وأن نسبة من ساكنة المنطقة متعاطفة مع موسكو. في الوقت ذاته، تأتي هذه التطورات الجيوسياسية الكبيرة لتضعف من أطروحة اليمين القومي المتطرف الذي كان ضد مزيد من وحدة الاتحاد الأوروبي، والآن أصبح تدريجيا يتبنى وإن كان باحتشام، مزيدا من الوحدة الأوروبية خاصة على المستوى العسكري.
استمالة المغرب العربي
ويعد الشق الثاني في استراتيجية الاتحاد الأوروبي هو الرهان على جعل دول القرب الجغرافي ومنها كل دول البحر الأبيض المتوسط وأساسا المغرب العربي-الأمازيغي ثم أفريقيا الغربية والساحل تدور في فلك الاتحاد. ومنذ أكثر من عقدين، تحذر دراسات داخلية للاتحاد الأوروبي ثم مراكز التفكير الاستراتيجي من النفوذ الاقتصادي الصيني المتصاعد في هذه المناطق، إلى مستوى تحولت معه بكين إلى الشريك الاقتصادي الأول لعدد من الدول وأزاحت دول مثل فرنسا. ولهذا، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأكثر وعيا بهذا الخطر وقام بزيارات لعدد من الدول الأفريقية خلال السنوات الأخيرة. ولم يتردد في اتهام الصين وروسيا ثم تركيا بتقويض نفوذ أوروبا وعلى رأسها نفوذ باريس في القارة السمراء.
ويمتلك الاتحاد الأوروبي برنامجا طموحا في هذا الشأن، ولكنه لم يقم بتفعيله بالقدر الكافي حتى الآن بسبب الحرب الأوكرانية-الروسية التي استنزفت الوقت السياسي والدبلوماسي والقدرات الاقتصادية والحربية للاتحاد. في هذا الصدد، كان الاتحاد الأوروبي قد أعلن خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2023 عن مخطط ضخم وتاريخي باستثمار 300 مليار يورو يحمل اسم «البوابة العالمية»، ويتضمن تأهيل البنيات التحتية لعدد من الدول خلال السنوات المقبلة التي سيجري خلالها تنفيذه.
وأجمعت وسائل الإعلام الأوروبية ومختلف مركز التفكير الاستراتيجي أن الهدف الرئيسي من «البوابة العالمية» هو منافسة المشروع الاستراتيجي «طريق الحرير الصيني». وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد أكدت وقتها أن «مقترحات دول أخرى لتمويل البنيات التحتية لدول ثالثة ليست مشاريع شفافة، وغير مستديمة ولا تشرك معها الساكنة المحلية لتعميم الاستفادة». وجاء في تقارير وقتها أن الأوروبيين يحثون على الطابع الجيوسياسي لمشروع البوابة العالمية لمواجهة الخطة الصينية في ربط الدول بالاقتصاد الصيني بل وشراء مرافق استراتيجية في بعض الدول وخاصة أفريقيا مثل المطارات والموانئ والمناجم لاسيما التي توفر المعادن النادرة الضرورية لصناعات المستقبل مثل السيارات الكهربائية. وبدأ الاتحاد الأوروبي يزيل الغبار الآن عن مشروع «البوابة العالمية» لتعزيز نفوذه في الحدود الجنوبية.
ولن تكون عملية الاتحاد الأوروبي سهلة، إذ فشلت مشاريع التعاون السابقة مثل الاتحاد المتوسطي، ولم يمول الكثير من المشاريع بسبب الشروط الكثيرة التي كان يضعها. ويضاف إلى هذا أن دول الضفة الجنوبية للمتوسط مثل المغرب والجزائر وكذلك دول الساحل الأفريقي تريد تنويع شركائها الاقتصاديين والدبلوماسيين ومن بينهم الصين التي تعتبر أكبر قوة تجارية في العالم وتركيا التي تعزز نفوذها ثم روسيا التي تساعد دول المنطقة عسكريا.
وهكذا، تدفع التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي بسبب سياسة واشنطن مع قدوم ترامب وكذلك الصين وروسيا إلى هزة جيوسياسية يحاول من خلالها البقاء ضمن نادي الكبار حتى لا يصبح قوة إقليمية مستقبلا