ثقافة وفنون

متاهات متداخلة ومواقف حسية أو روحانية وصراعات مال ونفوذ: «استئجار الأشباح» رواية جديدة من سليم بركات

متاهات متداخلة ومواقف حسية أو روحانية وصراعات مال ونفوذ: «استئجار الأشباح» رواية جديدة من سليم بركات

باريس ـ : «استئجار الأشباح» هو عنوان الرواية الـ31 من الشاعر والروائي السوري سليم بركات، تصدر قريباً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ــ عمّان وبيروت؛ وتقع في 640 صفحة، وتكفّل المؤلف برسم اللوحتَين المستخدمتَين على الغلافين الأمامي والخلفي.

والقارئ على موعد، هذه المرّة، مع تجلِّيات فكرية يندر العثور على نظائر لها في الرواية العربية اليوم، مقترنة بشروحٍ تتعلق بسلوك الإنسان وبالمعارف الثقافية وبفهم الأدب والفن؛ فضلاً عن تأملات غنية في معنى كتابة السيرة الذاتية، ضمن سردية تتداخل فيها الألاعيب، والتحايل بالكلمات على ألسنة الأشخاص في تبادل أدوار بين المأساة والمهزلة.
رجل ثري مالك مزرعة كبيرة (بركات لا يصرح باسم المكان أو البلد الذي تجري فيه الوقائع، لكنه مكان معاصر)، يستأجر كُتَّاباً ليكتبوا له سيرته الشخصية، وهؤلاء الذين يمتهنون هذا العمل بأجور مدفوعة لهم، يُصطلح على تسميتهم بـ «الكُتَّاب الأشباح». هذا الثري اسمه هايلون تورْنا يملك باخرتَيْ شحن لنقل البضائع في بحار الشمال (بحارٌ يُبقيها بركات مجهولة التسمية أيضاً)، هوايته صناعة مجسَّمات صغيرة من الخشب الثمين على أشكال وهيئات السفن، في مَشْغله الخاص. ولديه شغف كبير بزراعة الورد في مشاتله الواسعة بإشراف عدد كبير من العاملات الماهرات، يبيعه للمَتاجر ليس بقصد الربح: إنه فخور باحتواء المشاتل على أنواع مختلفة جداًّ من الورود حتى الغريب الأسود الذي يُسمى «ورد الشيطان».
وهو يستأجر أربعة كُتاب روائيين لكتابة سيرته دفعة واحدة، وحجته في ذلك أنه يرغب في سيرة ذاتية بأربعة أساليب؛ كما يستأجر رساماً ليوثق بالرسم جلسات تدوين سيرته على امتداد شهر من آخر الصيف. وقائع السيرة التي يرويها للكُتاب في جلسات ليلية هي شذرات لا معقولة أو ساحرة أو مفبركة أو مقتبسة أو مشوهة متناقضة، والشخصيات من حوله أسوة بالأحداث وتشابكات السرد تقود جوهرياً إلى متاهات متداخلة، ومواقف حسية أو روحانية، وصراعات مال ونفوذ وتجارة واستئثار، ورغبة دفينة في قتل الكتّاب الأشباح.

هنا فقرات من الرواية الجديدة، خصَّ المؤلفُ بها «القدس العربي الأسبوعي»:

1)  إنه الصيف الأول من العام الأول في الألفية الثالثة، المنتسبة قياساً إلى عُمر إلهٍ بشريٍّ قُتل ولم يُقتل. وُلِدَ ولادتين. سُمِّيت أمه، والمرأة التي شهدت بعثه بعد الموت، باسمٍ واحد. وقد سارت الحيرةُ بين المريدين بعد اختفائه: أهو الإلهُ ذاتُه تجسَّدَ، أم هو ابنُه؟ كل حيرة تتوخى الخلوصَ إلى نهايةٍ تستوثق بها الخروجَ من حيرتها. الألفية الثالثة كادت أن تكون خروجاً من حيرة الوجود إلى يقين الفناء الأخير، انتقالاً من محدودية الأشكال، والماهيات، إلى مُطلقٍ سديمٍ لا تتنازل الحقائقُ فيه عن كمالها الصارم وضوحاً.
يانتيل، شاركت كغيرها من البشر المُقدمين على دخول الألفية الثالثة بأقدامٍ في الأحذية أو حفاةً، في ترديد بعض ما تناهى إليها من مزاعم الفلَكيين، ليلة العبور إلى زمنٍ بلا برازخ، متراصٍّ كالرخام في مطابخ الملوك: جمعت في القبو الفسيح، الفاره، الذي تسكنه من دار عمها هايلون، تسع نساء يتبادلن، على نفثٍ قويٍّ، متواصل من دخان الحشيشة، تخمينَ الأعراض الفيزيائية المحتملة، التي ستقلب الزمنَ رأساً على عقب فيختلَّ نظامُه الحسابيُّ. سيظهر الماضي بوقائعه إلى جوار الحاضر، في سياقٍ مرئيٍّ واحد. أجدادُ الأجداد وأحفادُ أحفادهم سيسيرون على طَوَاريْ الوقتِ الرصيف لا يلتفت بعضهم إلى بعض؛ كلٌّ يتجاهل الآخر. سيظهر العمرانُ من هندسة الماضي للعمران كظلالٍ إلى جوار الأبنية والعمارات بهندستها الراهنة. ستقترب كواكبُ صغارٌ جداًّ من كوكب الأرض، في غمضة عينٍ، كأنها كانت مختبئة في كهوف العمق السماوي من محيط الأرض، فانكشفَ عنها الحجابُ، لتجري سائرةً في مداراتٍ إهليلجية كدوران الإلكترونات حول نواة الذَّرة، من غير أن يختلَّ توازنُ الأرض. لكن ستكون الأبعادُ ملتبسةً تتغير قياساتُها كلَّ ثانيةٍ من الوقت. كلُّ عمقٍ سيغدو ضحلاً، وكلُّ ضحالة ستغدو عمقاً كلَّ ثانية من الوقت. ستكون ذاكرةُ الإنسان ذاكرةَ كلِّ شيءٍ وكلِّ حيٍّ آخر: ذاكرة المعدن، وذاكرة الصخر، وذاكرة الحيوان، وذاكرة النبات، في دورةٍ من التعاقب كلَّ ثانيةٍ. ستكون الثانيةُ الزمنيةُ سياقاً بلا خصائص: الزمنُ وما يكونُه، والزمنُ وما لا يكونه، هما جوهرٌ أوحدُ في القادم من الألفية الثالثة.
ضحكت يانتيل طويلاً تلك الليلة في الانتقال إلى الألفية الثالثة، مقداراً من القهقهات أكثر مما عرفه صوتُها من النطق والضحك في سنين عمرها الأربع والثلاثين. اهتزت كلُّ جارحةٍ فيها قهقهةً من دغدغات الحشيشة على بواطن عروقها استنشاقاً للدخان، كصديقاتها تلوَّيْن على الأرض المفروشة الخشب ببُسُطٍ من النَّسج التقاليد تحتفظ بحقوق صُنعها بقايا قبائل شمالية، لم تبارح ملَّةٌ منها مواضعها الأقرب إلى بحر الجليد رعاةً لغزلان الرَّنَّة، ونزح الكثير منها إلى المدن.
ارتدت يانتيل روحَ كاهنة. ارتدت صديقاتُها أرواحَ كاهنات في ليلة العبور من ألفيَّة إلى أخرى. أطلقنَ النبوءاتِ تُزاحم الواحدةُ الأخرى بألغامٍ من الهزل تتفجر ضحكاً، وبقصفٍ من مدافع المزاح الصاخب، وبتراشقٍ من طلقات الخيال في اقتحامه دفاعات الأساطير المعلومة والمجهولة استحضرْنَها يؤيِّدن بها مزاعمهن عن نهايات غامضةٍ، وانقلاباتٍ عاصفة في قوانين الفيزياء، على بُعد أشبارٍ من الوقت سمعْنَ صريرَ عتلاته في فتح البوابة لظهورٍ مذهل من النشوء لا يشبه الكونَ المعهود، المعلومَ بعضُ خصائصه.
لكنْ، حين انسحقت الدقيقةُ الأخيرة بين أسنان النُّقْلة من الألفية الثانية إلى الألفية الثالثة، مضغَ كلُّ إنسانٍ طحينَ تلك الدقيقة على طعمٍ واحدٍ، تَفِهٍ، لا مذاقَ له إلاَّ ما عرفته الألسنةُ من ازدرادها رماداً، أو رملاً، أو أرُزاًّ بنكهة التوابل الهندية.
لم تكن الحياة، في الدقيقة الأولى من مطلع الألفية الثالثة، سوى بخارٍ من قِدْر الألفية الثانية طَهَا فيها الإنسانُ خيباته كلَّها بزيتٍ نباتيٍّ، أو من دون زيت.

2)  منذ القرن الخامس عشر عرفت أروقةُ التاريخ تلاعُباً بالتاريخ أشبهَ بخداعٍ مُعْلَنٍ، مشروعٍ، هو أن يتولَّى كَتَبَةٌ تدوينَ السِّيَر لآخرين نيابة عنهم، بأجر تُحسب في تقديره براعةُ التأليف رونقاً من اللغة، واختياراً حِذْقاً للوقائع في حياة صاحب السيرة، وتصرُّفاً بالماجرِيات في حياته بإضافاتٍ مدروسة إليها لا تُسْتَمسَك، وتخليصاً مما هو ثقيلٌ في الماجريات، باعتماد تبريرٍ مُقْنعٍ للأخطاء كأنها صدرت عن ظروفٍ خاطئةٍ، حرَّفت مقاصدَ الخير في أعمال صاحب السيرة.
قرَّبتِ الملوكُ كَتَبةً لتدوين سيَرهم. أمراء، ونبلاء، وحكَّام، وأثرياء أجازوا سِيَرَهم حبراً على الأوراق يخطُّها الحُذَّاق في منح اللغة حقَّ إنشاء المَفاخر بأجرٍ مُجْزٍ.
لقد أُدْرج مصطلحٌ جديد، منذ القرن الخامس عشر، بين مصطلحات الإنسان في التأكيد على سلطة العقل قادراً أن يضمَّ كلَّ مظهرٍ، من الأفعال في الحياة، إلى خزْنة أملاكه، بتحديده موصوفاً تدلُّ عليه الكلمات: «الكُتَّاب الأشباح». تلك كانت الإضافة إلى الذخائر العلمية للمعجم. وبات المصطلحُ كناية عن مهنة تجذَّرت في تقاليد الكتابة، ولها عُرْفٌ يُعتدُّ به كَمَلَكةٍ من مَلَكات التأليف.
«الكاتب الشبحُ» (Ghostwriter) اختصاصُه، كإخوته وأخواته الكَتبةِ الآخرين، وضعُ الكلمات في سياقٍ يُنشِئُها نصاًّ يُقرأ. لكنه اختلف عنهم أنه يُستأجَر باتفاقٍ وعقدٍ.
التوريةُ الأدبية، الظاهرة في معنى المصطلح، أسبغت عليه جماليةً لم يكن ليحظى بها إن ظلَّ حبيسَ معنى المهنة: أيْ الكاتب الأجير. أُبعد المصطلحُ عمَّا قد يُعدُّ انتقاصاً من الكاتب في مهنته الجديدة ـ مهنةِ تدوين السِّيَرِ بأجرٍ.
لكنْ، ما الإقناعُ في المصطلح حصل به الكاتبُ الأجير على لقب «الكاتب الشبح»؟ كيف يكون الكاتب شبحاً؟ لِمَ لم يستقرَّ المصطلح على تعريفاتٍ آُخرَ مثل: «الكاتب المُهمل الذِّكر» أو «الكاتب المجهول»، أو «الكاتب الخفي»، أو «الكاتب المقنَّع»، أو «الكاتب المستتر»؟ جزَمَ البعضُ بعد إثبات المصطلح مُجازاً من أعرافِ المعاني المُسْتحْدثةِ، أنَّ صفة الشبح أكثر الخيارات إحقاقاً لعدْلِ المهنة، التي اتُّهمت باللاأخلاقية، وبالمخادعة، وبالتزوير، وبالتزييف، قبل التسليم بها كعمل في مجال كتابة السِّير، والمقالات، بأسماء من يستأجرون الكُّتَّابَ الأشباح.
مضى الزمنُ بالمصطلح إلى مُصنَّفات العالم، ومدارج الأزمان، أليفاً في معناه، مقبولاً كاختصاصٍ: شخصٌ مَّا، حَسَنُ الكتابة، راضٍ بتنحِّيه عن عمل له على نحوٍ قانوني. راضٍ باستحالته إلى نكرةٍ لا يُنسب إليه النصُّ الذي يُنْشئه سيرةً، أو مقالة، أو خطاباً. إنه يسلِّم كلماته إلى اسمٍ آخر ينتحلها من غير أن يُسْتنكَر انتحالُه لها، لأن المنتحِل بنى المُلكيةَ على عقْدٍ مُعْلَن، أو مستتر، مع «الكاتب الشبح» تنازل له بموجبه عن عمله، وبات مُلْكاً للمنتحِل لا يطاوله التشكيكُ، كما لا يطاول التشكيكُ نَسَبَ خُطبٍ إلى رؤوساء، أو زعماء، خرجوا بها إلى جماهيرهم، كتبها لهم مَن لم يُصرِّح بأسمائهم في كتابتها.
بات عادياًّ من عاديَّاتِ امتلاك الكتابة حقوقَ أنواعها، أن تصير مهنة «الكاتب الشبح» ضرورةً أخلاقية لإعانة من لا يستطيعون تدوينَ أمورٍ ينبغي أن لا يفقدها التاريخ، أو تبقى غُفْلاً من التوثيق. «الكُتاب الأشباح» هم حقوقٌ استحصلها التاريخُ لمن لديهم ما يصرِّحون به للتاريخ من مكنونٍ ثريٍّ، خطيرٍ، نافعٍ، جليلٍ، لكنْ ينقصهم الاقتدارُ على تدوينها بأنفسهم.
سارعَ أثرياءُ، تباهياً بالمكانة، وبالقَدْر، وبالنفوذ، إلى اعتقال البرهة السانحة في مهنة «الأشباح» بأجرٍ يجيز لهم استئجارَ الخلود نفْسه في سيرةٍ تُحفظ، وتورَّث، وتُسْتعرض على رفوف المكتبات، أو تُهدى مذهَّبةَ الحروف، فَخْمةَ الورق، مجلدةً بنفيس الجلود.

3) «رسمتُ مرّةً عائلةً ثرية، أرادت أن يحوي الرسمُ كلَّ زخارف منزلهم الفاره، وطُرُزَ ثيابهم، ومقتنياتهم الأثرية»، ردَّ ميراكو. استطردَ: «فعلتُ ذلك في لوحة ضمَّت حشداً من الأشياء، كما فعلَ هيرونيموس بوش في عمله الإلهي». همهمَ مستطيباً: «أعترف أنني ممتنٌّ لطلب العائلة الثرية مني حشدَ التفاصيل في اللوحة. لقد استوحيتُ من الرسام بوش عالَمَ الملذَّات بتفاصيل جذَّابة، فاتنة، ساحرة. خلقتُ عالماً من مقتنيات الأثرياء». تنهَّدَ في رضىً: «أعجبتِ اللوحةُ كلَّ من رآها. وصفني نقَّادٌ حصيفون بأنني بستانيُّ التفاصيل».
«من أية ثقافة في الرسم أنت، يا ميراكو؟»، سأله روكاس. أردفَ: «أرسمتَ عائلةً أم رسمتَ أثاثاً، ومقتنيات أثرية؟».
«اسمعْ، يا روكاس. أنتَ لم ترَ اللوحة»، عقَّبَ ميراكو بنبرٍ فيه استهانة بفهم روكاس. «هناك ثقافة تتوسل إطالة الأعناق كجِمالٍ في بعض القبائل. يطوِّق الأهل أعناقَ البنات بحلقات من المعدن مُنضَّدةً واحدة فوق الأخرى، منذ صغرهن. ويُضِفون حلقاتٍ جديدةٍ في المراحل اللاحقة إلى الحلقات السابقة فتطولُ الأعناق. لا يمكن، يا روكاس، إزالة الحلقات بعد ذلك على الإطلاق. إنْ أُزيلت عن أيِّ عنقٍ لم يحتمل العنقُ ثقلَ الرأس. سينكسر لنحافته». أشارَ بيده اليسرى صوبَ روكاس إشارةً تدلُّ أنه لم ينته بعد من مخاطبته. أضاف: «هناك ثقافة تتوسَّل تصغير أقدام الإناث، لغاية جمالية، بإلباس أقدامهن قوالبَ من الخشب منذ صغرهن».
قاطعه روكاس مكرِّراً سؤاله:
ـ من أية ثقافة في الرسم أنت؟
«من ثقافة تجنيد الألوان للحروب»، ردَّ ميراكو.
«طبعُك هادئ، يا ميراكو»، عقَّبَت إيكولا. «أتريد التعويضَ عن فقْدِك جسارةَ الغضب فيك بزَجِّ الألوان في حروبٍ؟».
رفعَ ميراكو راحة يده اليمنى مواجهاً إيكولا يحثُّها أن تسمعه جيداً:
ـ إدارةُ الغضب كإدارة الحروب، يا إيكولا، تلزمُها براعةُ الهدوء.
تدخَّلَ هايلون:
ـ اضيفوا إلى سيرتي ما قاله ميراكو.
اندفعَ ميراكو أكثر في استطراده عن الثقافة، وقد حرَّضته رغبةُ هايلون في إدراج كلماته سطوراً من سيرته:
ـ كلُّ تفصيلٍ من علاقات المجتمع إن ثَبتَ شائعاً بينهم، مضبوطاً في صياغة مفهومه، يصيرُ ثقافةً معتَمَدة.
«مثل ماذا؟»، سأله روكاس.
حدَّقَ ميراكو إلى الورقة الخشنة مبسوطةً على اللوح المنتصب أمامه، فوق المسند ذي القوائم. أشار برأس القلم الرصاص في يده اليمنى إلى البياض حرثتْه خطوطٌ غير مكتملةٍ لهيئات الجالسين. أجاب:
ـ حروبٌ اقتصاديةٌ صارت، في الزمن، ثقافاتٍ دينية.
كررَ روكاس سؤاله:
ـ مثل ماذا؟
«اعتمدَ شعبٌ تربيةَ الخنازير في تجارتها المزدهرة. هبَّ مُشرِّعو مَصَالحِ شعبٍ آخر، مُعادٍ، إلى الترويج أن الخنازير حيواناتٌ مسكونةً بارواح شيطانية، مُذ لا تستثني من طعامها أكلَ لحوم البشر. أدخلَ التشريعُ الدَّعاوةُ ضدَ الخنزير الخوفَ إلى نفوس مستهلكي لحمه، فقاطعوا التجارةَ به. أصابَ الكسادُ شعبَ المعتمدين على تربيته في مزارعهم. صارت المقاطعةُ، مع الزمن، تشريعاً دينياًّ في حظْرِ لحمه طعاماً»، قال ميراكو. أدار عينيه على الوجوه يتحقَّق من فهمهم عرْضَه البسيط لتاريخٍ من ثقافة المحظورات. استطردَ: «سمعتُ بأقوام لا تأكل لحومَ الأرانب، لأنها تحيضُ كإناث الإنسان».
«مَن يربح من تعميمِ حظْرٍ كهذا على بعض الحيوانات؟»، سأله روكاس.
أجابه ميراكو من فوره:
ـ مَزارعُ الدجاج.

4) هزت يانتيل رأسها موافِقةً على صيغة السؤال:
ـ أحسنتِ. ها سألتني عن رأيي في الشعر، لا عن إعجابي به.
تصنَّعت آهولالين حُرقةَ ندمٍ:
ـ ربما كان عليَّ أن أسألك: أتستسيغين الشعر؟
ابتسمت يانتيل: همست:
ـ أنتِ شاعرة إذاً.
«هذا كتابي الثاني»، عقَّبت آهولالين.
تحسَّست يانتيل الكتاب المتواضع طباعةً:
ـ تعجبني الكتب مجلَّدةً، كثيرة الأوراق.
«تعجبك مجلدات علم النفس» قالت آهولالين معقِّبةً. أضافت: «إنها كتبٌ أشعارٌ أيضاً، بكثير من الثرثرة». ابتسمت: «كتابي الصغير هذا خمسةُ مجلداتٍ مختزلة من أحاسيس كلِّ شيء».
نقرت يانتيل بأنامل يدها اليمنى على ظهر الأريكة حيث تجلس آهولالين. سألتها:
ـ أفي الكتاب أحاسيسُ هذه الأريكة أيضاً؟
هزَّت آهولالين رأسها مؤكِّدةً:
ـ في كتابي بعضُ غضب هذه الأريكة من جلوس أجسادٍ عليها، وبعضُ رضاها عن أجسادٍ جلست عليها، وبعضُ استيائها من أجسادٍ جلست عليها، وغيرتُها من الأرائك الأُخريات، ومن الكراسي، ومن المناضد.
قاطعتها يانتيل مبديةً استغراباً في صوتها من مبالغاتِ آهولالين:
ـ إلى كَمْ من السطور اختزلتِ أحاسيسَ هذه الأريكة في كتابك الصغير؟
«إلى سطر هو وصفُ جلوسك عليها، وما جرى من بوح الأريكة لجسدك بأحاسيسها»، أجابت آهولالين.
رفعت يانتيل حاجبيها مستغربة:
ـ أفي كتابك سطرٌ عني؟
«بل سطورٌ كُثرٌ»، أجابت آهولالين.
فتحت يانتيل فمها باندهاشٍ. تأملت وجه آهولالين لحظاتٍ قبل أن تعقِّب:
ـ أكتبتِ هذه الأشعار بعد تعرُّفك عليَّ؟
ربتت آهولالين بيدها اليسرى على غلاف الكتاب. ردَّت:
ـ بل قبل ذلك.
انتقلت يانتيل جالسة على مَسْند الأريكة العالي عن جنبها الأيسر. عقَّبت مهأهئةً في استظرافٍ تشوبه سخريةٌ لطيفة:
ـ أشعار!!
«نعم. أشعار»، قالت آهولالين. أضافت: «أفْضَلُ الأشعار ما يكون عن أشخاص لم نلتقِ بهم بعدُ، وعن مُدُنٍ لم نزُرْها بعدُ، وعن وقائع لم تحْدُث بعدُ، وعن أحاسيس لا تخصُّنا بل تخصُّ ما نجهلُه».
هزت يانتيل رأسها إشارةً إلى مبالغات آهولالين. تمتمت:
ـ أشعار.
«نعم»، كررت آهولالين الكلمة تقليداً لصوت يانتيل. استدارت بكامل جسدها في جلستها إلى جارتها القاعدة على مَسْند الأريكة. تمتمت بصوتٍ مائيٍّ: «إنها علمُ نفْس الكلمات الفضولية، الهائجة، المنذهلةِ، المستاءة، المجروحة، المذعورة، المتوترة، الحانقة، العاصيةِ، المتمردةِ، المستنكِرة، المُلحدة، المشدودة».
«أَمَا من رضىً، أو استرخاءٍ في كلمات الأشعار؟»، سألتها يانتيل، فأجابت آهولالين مستطردةً:
ـ نسيتُ الكلماتِ الزئيرَ في علم نفْس الشعر؛ والكلماتِ الرَّكْلَ، والكلمات الصراخ، والكلماتِ الإهانة، والكلمات العضَّ، والكلمات الأراجيح، والكلماتِ الحُفَرَ، والكلماتِ الاستحمامَ، والكلماتِ السلاحف، والكلمات الطَّرْقَ بأعقاب الأقدام على أبواب المعاني.
زفرت يانتيل زفرة طويلة، تفرِّغُ رئتيها مما استنشقته من هواء الكلمات الراكضة تلحقُ الواحدةُ بالأخرى في حنجرة آهولالين.
ضحكت آهولالين:
ـ ظننتُكِ ماهرةَ السباحةِ، لا تغرقين في شبر من ماء الكلمات.
نهضت يانتيل عن مَسند الأريكة. مدت يدها اليمنى إلى يد آهولالين:
ـ تعالي نسْبح.
«أين؟»، سألتها آهولالين مستوضحةً.
غمزتها يانتيل:
ـ في بِركة عمي هايلون.
نهضت آهولالين عن الأريكة. أشارت بيدها اليسرى إلى ثوبها الطويل، الأخضر، برسومٍ من أزاهيرَ صُفْرٍ عليه، بلا كُمَّين:
ـ أيصْلُح هذا الثوب للسباحة؟
مدَّت يانتيل يدها اليسرى تلمس ثوبَ آهولالين عند الخصر. أجابت:
ـ كلُّ ثوبٍ يَصلُح للسباحة ما دام يلبسُه جسدٌ.
أمسكت آهولالين بيد يانتيل اللامسةِ الثوبَ عند خصرها. عقَّبت:
ـ هذا حديثٌ عن السباحة في الشِّعر، وليس في بِرْكة، يا يانتيل.
مغَّطت يانتيل بإصبعين قُماشةَ ثوب آهولالين. سألتها:
ـ أليستِ البِرَكُ، والمسابحُ، قصائدَ كلماتُها أجسادٌ؟

5)  نسائمُ مسَّت بأذيالها المنعشة أكتاف الفتاتين، وشَعرَهما القصير، وخياليهما المنشغلين بارتجالٍ للموقف حين تبلغان البركة لا ثيابَ للسباحة معهما. كان خيالُ يانتيل منصرفاً إلى إباحةِ العُريِ في السباحة، وكان خيالُ آهولالين منصرفاً إلى صور جسدها بالثوب نفخهُ الماءُ إن ألقت بنفسها في البركة لابسةً ثوبَها، مذ لا ترتدي ثياباً داخلية تحته.
أمسكت آهولالين بيد يانتيل اليسرى، بعد خطوات على أرض المزرعة العراء صوب دار هايلون، وهي تنظر شرقاً إلى مشاتل الورد متوهجةً سطوراً من ملاحم اللون لا حروبَ فيها. صارحتْها:
ـ لا أرتدي ثياباً داخلية.
هأْهأَت يانتيل. عقَّبت، وهي تشير إلى بنطالها الجنز الضيق، بثقبين صناعيين فوق ركبتيها:
ـ ما من ثياب داخلية عليَّ أيضاً.
أوقفتْها آهولالين عن مشيها متسائلة:
ـ أسنسبح في البركة، مرتديتين ثياباً؟
جذبتْها يانتيل ماضية في مشيها:
ـ سنرتدي الماءَ، يا فتاة.

6) وقفَ الجمعُ الصغير عن جانبي هايلون، المرسل بصرَه إلى الأفق الشمالي، ساكناً، متهيئاً كمضيفٍ دليل. أشارَ بيده اليسرى إلى الغابة. تكلم بلا التفات إلى أحد:
ـ اسْتمِعوا.
«نستمع إلى ماذا؟»، سأله بوركا.
«إلى أنين الغابة»، أجابه هايلون.
أدارَ بوركا وجهه إلى بعض رفاقه مبتسماً من التورية، تساءل:
ـ ما الذي يؤلم هذه الغابة، يا سيد هايلون؟
«يؤلمها أنها عاشت ألفي عام»، ردَّ هايلون.
غمغم بوركا مبدياً استغراباً:
ـ ما خوفُ الطبيعة من إطالة عمرها؟
«هي كالإنسان يصيبُها ملَلٌ، وتَعْروها الكآبة، ويزعجها أن تُراجع أطباءَ نفسانيين لتشخيص حالها»، قال هايلون ملتفتاً صوبَ يانتيل.
ضحك ديسو معقِّباً بسؤال:
ـ مَنِ الأطباءُ النفسانيون تُراجعهم الطبيعةُ؟
«الحرائق»، ردَّ هايلون بنبرٍ بارد لا يناسب ما بدا طرافةً من المزاح عن الطبيعة والأطباء النفسانيين.

7) آباءُ ثلاثة من الكُتاب (ديسو. بوركا. روكاس)، وأمُّ إيكولا، امتهنوا كتابةَ السِّير لسياسيين، ولبعض ممثلي السينما المتقاعدين، ولبعض الأثرياء. آباء الرجال الثلاثة اختفوا في مراحل من مسيرهم المهنيِّ. قلَّةٌ أعاروا اختفاءَهم اهتماماً. نسبَتِ الشائعاتُ ذلكَ الاختفاء إلى انصرافهم عن تدوين السِّيَرِ إلى مِهَنٍ أُخريات، وإلى اكتفائهم بما استحصلوا من أموال، فمضوا مستمتعين برحلاتٍ في الأرض ترفيهاً عن أرواحهم، واستكشافاً لخطوط الطول والعرض من مباهج الجغرافيا في أصقاعٍ بعيدة. بعضُ الثرثرات غير العفيفة نسبت اختفاءهم إلى هروبهم من مستأجريهم لكتابة السِّير تقاضوا عنها أموالاً ولم ينجزوها.
أمُّ إيكولا، التي سبقت ابنتَها إلى مهنة «الكاتبةِ الشبح»، لم تختفِ كآباء الثلاثة الرجالِ ـ رفاقِها في المصادفة ضيوفاً على مزرعة هايلون. ظهرت غريقة على شاطئ بحيرة نارتيروسَ الخضراء المياه المعدنية، التي يرتاد الأثرياءُ شواطئها استجماماً.
شيءٌ مَّا من خفيِّ التقدير والتخمين قد يكون مريحاً للمتأمل في احتراف الأربعة الكُتاب ما اتخذه آباؤهم حرفةً للعيش. آباءٌ لم يكونوا روائيين، أو قصَّاصين، لكنهم اجتهدوا في تدريب النثرِ البهلوانِ مشياً على حَبْلِ البلاغة في مقالاتٍ عن بعض التاريخ المحظور تدوينُه، وعن نزوح الآلهة من أساطيرِ شعوبٍ إلى أساطيرِ شعوبٍ أُخَر، وعن تبايناتٍ في لفظِ الحروف على الألسنة بحسب المناخ على جهات العالم، وعن التشاؤم من الأمل، والتفاؤل بالشؤم، وعن استثمار الجنونِ عقيدةً في عِلْمِ رأس المال، وعن الفِصامِ النفسانيِّ ازدهارأً في المجتمعات، وعن ركود المخيَّلة، وبلاغة الارتجال العصبي. كانوا، في التصنيف الدقيق للمواهب، نقَّاداً. أمَّا أولادهم فانحازوا إلى الغنائم الأدبية في الجنس المعروف باسم: الرواية.
كتبَ الأربعةُ رواياتٍ قبل الإعلان عن خدماتهم كُتَّاباً رهنَ طالبي توثيق سِيَرهم بأسلوبٍ أدبيٍّ، بلاغي، تلبس بهِ كلُّ سيرةٍ إثارةً من الكلمات قبل اختيار الوقائع المثيرة. وربما إِنِ استقصى المتحرُّون بواطنَ هؤلاء الأربعة لتوصَّلوا إلى أنهم، في مكمنٍ من عقولهم الباطنية، ينبشون عن أسرار اختفاء آبائهم، وفي موت أمْ إيكولا غريقةً.

«القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب