ثقافة وفنون

فيلم «لا أرض أخرى»: حكاية الجرح الفلسطيني في مرآة العالم

فيلم «لا أرض أخرى»: حكاية الجرح الفلسطيني في مرآة العالم

مروة صلاح متولي

كان خبراً ساراً أن يفوز فيلم «لا أرض أخرى» بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي عام 2025، بعد أن حاز من قبل عدة جوائز أخرى في مهرجانات سينمائية أوروبية وعالمية مهمة، ألقت هذه الجوائز، وعلى رأسها جائزة الأوسكار المزيد من الضوء على الفيلم، ودفعت الكثيرين إلى مشاهدته، وتجدد عرضه في بعض دور السينما حول العالم، والقنوات التلفزيونية في أوروبا ومنصات المشاهدة الدولية.
المعروف أن الفيلم إنتاج فلسطيني نرويجي مشترك، وأنه من صنع الفلسطينيين باسل عدرا وحمدان بلال، والإسرائيليين يوفال أبراهام وراشيل تسور، لكن مع البدء في المشاهدة قد يفاجأ البعض بحضور يوفال أبراهام داخل الفيلم، وبأن هذا الحضور ليس مؤقتاً، بل هو أساسي ومستمر حتى النهاية، وهكذا نكون أمام الثنائي باسل ويوفال، الفلسطيني والإسرائيلي. قد ينزعج المرء ويصيبه التوتر أو على الأقل يحتاج إلى بعض الوقت حتى يتفهم وجود شخص إسرائيلي في فيلم مهمته أن يضع في وجه العالم لمحات من المأساة الهائلة، مأساة فلسطين التي صنعتها أيادي الغدر والاستقواء والمخططات الشيطانية طويلة الأمد، ويغذيها التواطؤ المستمر مع الاحتلال الصهيوني.
أمام حضور يوفال أبراهام يتوقف المرء ويراقب بتحفظ، من الفيلم نعرف أنه صحافي إسرائيلي يشارك الفلسطيني باسل عدرا في تسجيل وتوثيق جرائم الاحتلال الإسرائيلي، يوثق باسل بالكاميرا، وبالقلم يكتب يوفال عما يراه ويعاينه بنفسه من جرائم ترتكب في حق أهل منطقة «مسافر يطا» في الضفة الغربية، ويحاول أن يوصل صوتهم إلى العالم.

باسل ويوفال.. الكاميرا والقلم

قد يبدو الأمر بالنسبة للبعض غريباً وغير منطقي، أو متناقضاً على أقل تقدير، ولا شك في أنه قد تراود بعض المشاهدين أفكار التجسس أو ما شابه. في مسافر يطا وبصحبة باسل يذهب يوفال إلى عائلة باسل وأهالي قريته، وينتمي باسل عدرا إلى عائلة من الناشطين، اعتقل والده عدة مرات، ونرى إحدى هذه المرات خلال الفيلم، يقدم يوفال نفسه إلى أحدهم بأنه صحافي من بئر سبع يريد تغطية الأحداث، فيظن الرجل الفلسطيني أنه من عرب 48، لكن يوفال يخبره باسمه ويقول له إنه يهودي. نمضي في متابعة أحداث الفيلم ونحن نتوقع صداماً أو تطوراً دراماتيكياً قد يقع عند اجتماع الإسرائيلي مع الفلسطينيين، يقدم الإسرائيلي نفسه إلى الفلسطينيين بحذر كصحافي يهودي متعاطف مع قضيتهم، ويريد أن يكتب عنها، يستمع إليه الفلسطينيون بحذر أيضاً ولا يرفضون أي وسيلة، أو أي محاولة لإيصال صوتهم ونقل صورتهم، لعل وعسى أن يتوقف ما يتعرضون له من ظلم وعدوان، حتى إن كان ذلك على يد من ينتمي إلى الظالمين والمعتدين. يدخل يوفال إلى بيوت الفلسطينيين ويقدمون إليه القهوة بالزنجبيل، ويجرون معه حديثاً يختلف بكل تأكيد عن أي حديث آخر طبيعي، فإن تحفظ اللسان وركزت الكلمات على ما يهم آنياً، وما يسعون لإيقافه بأي طريقة، نرى العيون تردد في صمت آلاف الكلمات، وتروي تاريخاً طويلاً من العداء، وتسرد فصولاً من مأساة لا تزال تستعر ويزداد جحيمها.
يقول أحدهم إلى يوفال: «إنتوا اليهود، إحنا بنعمر وإنتوا بتهدموا»، ويسأله آخر عن أهم شيء في نظره هل هناك قراء لما يكتبه؟ فيجيبه يوفال بأنهم ليسوا كثيرين، ورغم ذلك يوافق الفلسطيني أن ينضم يوفال إلى باسل في تسجيل وتوثيق مأساة مسافر يطا.
لا تخفى المتعة الجمالية للمكان التي يمدنا بها الفيلم، رغم المأساة والدمار والهدم، يأخذنا هذا العمل إلى قلب فلسطين، ويرينا جزءاً من أرضها الجميلة وطبيعتها الرائعة ذات الطابع المميز الفريد، يأخذنا إلى مسافر يطا وما تشكله من مجموعة قرى يسكنها شعبها القديم الذي هو أصل تلك الأرض، يعرفها جيداً ويتناغم مع هضابها وسهولها وكهوفها التاريخية الأثرية ويتشبث بجذوره فيها حتى النهاية. يرعى أهل مسافر يطا الأغنام في منطقتهم منذ قديم الزمان، ولا يزالون يحافظون على هذا التقليد، حتى باسل عدرا نرى مشهداً مسجلاً له في طفولته، يتحدث إلى الكاميرا ويقول إنه معتاد على أن يرعى الأغنام في كل يوم. في أحضان الطبيعة البكر تمتد تلك الأرض المدهشة كصفحة من سفر الزمان، تتعانق هضابها المهيبة مع السماء كأنها تحرس الزمن القديم، تتناثر الكهوف بين جنباتها شاهدة على قصص الأجداد وتاريخهم المحفور في الصخر كوشم أبدي لا يزول. تنساب المراعي الخضراء على سفوحها كبساط من حرير، ترعى فيها قطعان الأغنام في سكينة تصوغ من صمتها أنشودة سلام ووئام بين الإنسان والطبيعة، تلك الأرض بسكونها الجليل وجمالها الأخاذ ليست مجرد مكان يستبدل، إنها الأرض التي لا أرض سواها.
يصف باسل عدرا علاقته بالكاميرا ويحكي عن أول كاميرا اقتناها أبوه، وكيف غيرت حياته، وصار يستخدمها في توثيق كل ما يجري من حوله، باسل عدرا ذلك الشاب الفلسطيني ابن مسافر يطا المنتمي إلى المكان أصلاً وجذوراً ووجداناً، الحاصل على إجازة في الحقوق، لكنه لا يمارس المحاماة، أو أيا من المهن القانونية الأخرى، لأنه كما يروي ليوفال في حديث ثنائي بينهما، لا يمكنه العمل في إسرائيل إلا كعامل أو بنّاء، لهذا نرى باسل في الفيلم يعمل على توثيق مأساة بلدته، التي هي جزء من القضية الفلسطينية بشكل عام، ويعمل في محطة البنزين الصغيرة للغاية التي أنشأها والده جوار بيتهم. يخوض المتفرج مع باسل عدرا رحلة التوثيق ويراه يضرب بعنف شديد على أيدي جنود الاحتلال الصهيوني.
بالإضافة إلى الجانب التسجيلي في فيلم هو وثائقي بالأساس، يوجد جانب آخر يختلف عن المشاهد الحية، وما تلتقطه الكاميرا من أحداث لحظية، ذلك الجانب أو الخط الآخر يمثله بطلا الفيلم باسل ويوفال، وما يدور بينهما من أحاديث ثنائية هادئة. تأتي تلك الأحاديث الثنائية كفواصل أو كاستراحات مهمة بين الأحداث المضطرمة، هي وقفات تأملية تجري في سكون الليل عادة، يدور فيها حديث بين اثنين كان من المفترض أن يكونا أعداء بطبيعة الحال، لكنهما ونظراً لموقف يوفال أبراهام الأخلاقي والإنساني نراهما معاً كزميلين يتعاونان معاً من أجل هدف واحد وإنتاج عمل مشترك. لا تذهب تلك الأحاديث إلى لب المشكلة وأصل المأساة وهو احتلال فلسطين منذ بدايته، وإنما تبحث في إمكانية إقامة شيء من العدل تحت ظل الاحتلال القائم كأمر واقع، وتوفير بعض الحقوق للفلسطينيين، وإيقاف عمليات التهجير والاقتلاع من الجذور الدائبة والمستمرة منذ عقود، حيث لا يتوقف النهم الإسرائيلي لابتلاع الأراضي الفلسطينية والتهامها قطعة تلو الأخرى، وإن كانت منطقة هادئة وادعة مسالمة كمنطقة مسافر يطا، لها طبيعتها الخاصة وسكانها وأهلها القدامى التي تناغمت طبيعتهم مع طبيعة تلك الأرض، وانطبعت تفاصيلها في تكوين شخصياتهم ووجدانهم.

من الأخضر إلى النار

تلك المنطقة التي يسودها الهدوء والتأمل، وتمثل بيئة خصبة لرعي الأغنام، بما في ذلك من صفاء وسكينة وامتزاج بالطبيعة، تأبى قوة الاحتلال الصهيوني إلا أن تحولها إلى منطقة تدريبات عسكرية، وأن تحول مسافر يطا إلى النقيض تماماً لما هي عليه، فتصير بؤرة من بؤر الشر، وتصبح بيئة جهنمية للتمرن على القتل وسفك الدماء والإبادة الجماعية، واغتصاب الأرض بوحشية لا مثيل لها، ونفي مظاهر الحياة وتحويل ما يتبقى منها إلى جحيم.
يبرز الفيلم هذا التناقض الكبير بين ما هي عليه مسافر يطا كنموذج للأرض الفلسطينية، وما يريد جيش الاحتلال الإسرائيلي أن يحولها إليه، بين ما يصنعه الفلسطينيون على الأرض وطريقة تعاملهم معها، وما يصنعه الإسرائيليون على الأرض وطريقة تعاملهم معها، وهو بكل بساطة الفرق بين خير فلسطين وشر إسرائيل، بين حق فلسطين وباطل إسرائيل.
في حوار من الحوارات الثنائية بين بطلي الفيلم، يوجه يوفال سؤالاً إلى باسل حول الزواج، هل يفكر فيه ومتى يتزوج؟ يجيب باسل بأن الأمر على درجة كبيرة من التعقيد، وأن المشكلة تتجاوز الوضع الاقتصادي، إلى الشعور العام بالأمان والاستقرار. وفي حوار آخر يتمنى يوفال أن يحظى باسل بحقوق تتساوى مع حقوقه وامتيازاته كإسرائيلي، أن تتساوى السيارات ذات اللوحات الصفراء والخضراء في حرية الحركة والتنقل، يتمنى يوفال أن يتمكن باسل من الذهاب لزيارته في بئر سبع، كما يستطيع يوفال أن يذهب بحرية كاملة إلى مسافر يطا. يقول يوفال في الفيلم إنه رفض الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وإنه قام بتعلم اللغة العربية، وأن اللغة العربية غيرت حياته. وفق المعلومات المتاحة حول يوفال أبراهام فإنه ينحدر من أصول يمنية، أي أن أجداده ينتمون إلى يهود اليمن، ما يعني أنهم كانوا يعيشون في وطن ولم يكونوا في حاجة إلى وطن آخر.

نرى من خلال الفيلم كيف ينخر الاحتلال الصهيوني في جسد مسافر يطا بدأب قاتل وبإيقاع بطيء مميت، ينتقل من منطقة إلى أخرى ومن منزل إلى آخر، يهدم ويقتلع كل عائلة بالتدريج، ويعيش الجميع في انتظار دوره، يُهدم البيت وتحاول الأسرة الفلسطينية إعادة البناء ليلاً في السر والخفاء، يجلب الرجال مواد البناء في جنح الظلام ويغطونها، يبنون وهم على يقين من الهدم المقبل لا محالة على يد أعداء الحياة والإنسانية، يشاركهم يوفال في البناء ويظهر في الفيلم بأيدي مغطاة بمواد البناء ويبدو الأمر غريباً.
من اللجوء إلى القضاء والمحاكم الإسرائيلية، إلى المظاهرات السلمية والاحتجاجات والنداءات عبر الصحافة والإعلام الدولي، والصدامات المباشرة مع الجيش الصهيوني، لم يترك أهالي مسافر يطا وسيلة للدفاع عن أرضهم، وفيلم «لا أرض أخرى» مثال على ذلك. يصور الفيلم عملية هدم المنازل واقتلاع الأسر بشيوخها ونسائها وأطفالها، وتركهم في العراء ليشاهدوا بأعينهم هدم بيوتهم وتدمير حياتهم ومحو ذكرياتهم. تقول سيدة فلسطينية إن من يذهب إلى منطقة بديلة ويوافق على التهجير يفقد حقه في أرض مسافر يطا إلى الأبد، لذا يكون القرار بالبقاء على أرض مسافر يطا، والتشبث بالجذور والرجوع إلى الأصل القديم، فيتخذون من كهوف مسافر يطا التاريخية بيوتاً يسكنونها كما سكنها أجدادهم القدامى من قبل في قديم الزمان، تدخل الكاميرا إلى الكهوف لنرى ويرى العالم بشراً يعيشون داخل كهوف في القرن الحادي والعشرين، لنرى ويرى العالم ما يدفعه الفلسطيني من ثمن في سبيل الحفاظ على الأرض والحق المقدس، لنرى ويرى العالم الحقيقة والواقع، وينظر كل منا إلى نفسه في مرآة الضمير والإنسانية ومسار حضارة البشر. نرى هارون الذي أطلق عليه الجنود الصهاينة الرصاص بوحشية عندما تصدى لهم بجسده الأعزل، فأصابوه بشلل تام في كامل الجسد، نراه رغم إصابته البالغة ينام على الأرض داخل كهف لا يوفر له أدنى شروط الرعاية الطبية، ونستمع إلى كلمات أمه، أم هارون، المشحونة بألم يفوق كل احتمال، يرحل هارون إلى عالم الشهداء في جنة الرحمن، وتبقى الأم وأهالي مسافر يطا يواجهون لعنة الاحتلال الإسرائيلي. قد يقول المشاهد عند نهاية الفيلم، كم هي قديمة وكبيرة ومعقدة مأساة فلسطين، فكل تفصيلة صغيرة من تفاصيل هذه المأساة هي في حد ذاتها مأساة كبرى.

كاتبة‭ ‬مصرية‭ ‬

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب