
الجيل الأدبي المغاربي الجديد واللغة الفرنسية

واسيني الأعرج
هل هناك جمالية جديدة حاول الجيل الفرانكفوني الجديد تأسيسها، بحيث تفرض نفسها بقوة خارج الحسابات السياسية والحسابات اللغوية. الأجيال السابقة أو الجيل المؤسس، خلق نماذجه وفرضها في ظل أوضاع كولونيالية شديدة القسوة. لم تكن الخيارات النضالية والوطنية هي المقياس، ولكن إبداع جمالية بمحلية تخييلية تنتمي لثقافة ولأرض ما، وقيم إنسانية واسعة. لا يمكن لأدب أن يكون إنسانياً ويحاصر نفسه داخل حدود سياسية وأيديولوجية.
المتأمل لهذا الجيل المغاربي الجديد سيلاحظ ظاهرتين: الأولى، الموجة الممتدة من الجزائر والمغرب، وتونس بشكل أقل، وتدحض فكرة المرحوم «مالك حداد» الذي عبر عن إحساس داخلي، وبعض النقاد أيضاً، بأن عمر هذا الأدب الفرانكفوني انتهى؛ فقد ارتبط بحقبة استعمارية لفظت أنفاسها الأخيرة في المغرب وتونس، بحيث انتهت ضغوطات الحماية الفرنسية، وانتهت في الجزائر بعد حرب تحررية ضروس استمرت سبع سنوات، خلفت وراءها الملايين من الضحايا. انتهى الاستعمار لكن الحضور اللغوي الفرنسي استمر في الوجود في البلدان المغاربية كلها من خلال العديد من القنوات، منها النظم التربوية التي ظلت علاقتها باللغة وطيدة وعميقة وتتجاوز الوضع الاعتباري للغة الأجنبية. أكثر من مجرد لغة أجنبية، هي جزء من النسيج اللغوي والمجتمعي المغاربي. في التعليم، الكثير من التخصصات العلمية لا تدرس اليوم إلا بها. هناك اللغة الإنجليزية التي تريد المؤسسات التربوية الوطنية فرضها، لكن حتى الآن ما تزال بلا جدوى حقيقية. يضاف إلى ذلك النظام الاقتصادي والبنكي الذي ربط كل تعاملاته باللغة الفرنسية وليس بالإنجليزية التي هي لغة التعاملات الدولة، إضافة إلى الدور النشط الذي تلعبه المراكز الثقافية والمعاهد ومنح التعاون التي تمنحها فرنسا للطلبة. القصد من وراء ذلك، هناك رعاية حقيقية لاستمرار اللغة الفرنسية في الحقل الثقافي والإبداعي المغاربي.
حضور اللغة الفرنسية بين الشباب كبير جداً، لهذا تشكل الوجهة الفرنسية شيئاً حيوياً لكثير من هؤلاء الشباب. القليل من يفكر في العالم الأنجلوسكسوني.
اللغة الفرنسية لم تمت في البلدان المغاربية، بل انتعشت أكثر. حتى التعريب الذي حقق مكاسب كبيرة للغة العربية في مجالات تربوية كثيرة، ظهرت حدوده وسلبياته في السنوات التي تلت تطبيق قوانين التعريب. ما كان التعريب أداة إقصائية، بالخصوص في المجالات الجامعية والإعلامية: فأساتذة كبار وجدوا أنفسهم بلا لغة، أما في المجال الإعلامي، بالخصوص الصحافي، فتم تعريب الجرائد الأساسية للدولة: الجمهورية والنصر كمثال، والجرائد التي كانت توزع بالآلاف وهي بالفرنسية. ويمكن فهم ذلك بسهولة؛ لأن توزيعها مرتبط بجيل متابع للصحافة ووفي، وأصبحت هذه الجرائد فقيرة في مقروئيتها وذبلت حتى ماتت أو كادت. وانعزلت النخبة الفرانكفونية التي حملت لواء الوطنية، وشعرت بالخيبة الكبرى. الكثير من الكتاب الذين عادوا إلى الجزائر سرعان ما حملوا حقائبهم من جديد بعد بدء صراعات الإخوة على السلطة. محمد ديب، وهو أحد مؤسسي الأدب الجزائري الفرانكفوني المغاربي، استقر في فرنسا حتى وفاته. كاتب ياسين، ظل يعيش غربة واعتزالاً، وذهب نحو الأدب الشعبي واللغة الدارجة وأنشأ مسرحاً على أساسها بوصفها اللغة الأم الحقيقية. أما مالك حداد فتوقف عن كتابة الرواية والشعر لأنه أصبح يرى في الفرنسية منفاه. وبقي البعض الآخر في البلاد يقاوم الشطط اللغوي والسجون أحياناً، كما الحال بشأن الشاعر والروائي المغربي عبد اللطيف اللعبي، الذي ظل مرتبطاً بتحولات المجتمع المغربي، وجعل من جريدة «أنفاس» وسيلة نضالية لجيل بكامله. وعن الطاهر بن جلون، فقد استقر به المقام في فرنسا، كان الوسيط الاستشراقي روائياً بين ثقافة شرقية وأخرى غربية. استجاب في كتاباته باللغة الفرنسية لما تربت عليه الذائقة الفرنسية العامة التي تنتظر من الآخر أن يعيد إنتاج «ألف ليلة وليلة».
يقول الباحث المغربي: حميد ركاطة: لقد تفطن الفرنسيون إلى أهمية صناعة أنتليجنسيا محلية تكتب بلغته وتفكر بها، بل تسود من خلال التمكن منها باعتبارها تابعاً أميناً له»، وليس الأمر بهذه البساطة، فأحمد سفريوي وإدريس الشرايبي وإدمون عمران المليح، توجهوا نحو التقليل من ضغط اللغة الفرنسية بالتوجه نحو الحياة بمنظور جديد، والثقافة الشعبية لتطعيم نصوصهم، ولم ذلك يكن كافياً لتفادي الاغتراب اللغوي. مثل أقرانها المغاربيين، لم تخرج الباحثة التونسية يسرى بلالي في تونس، تقول: «الفرانكفونية متوغلة أكثر داخل تونس بحكم الاستعمار الفرنسي. ولها سلبيات وإيجابيات، وثمة استعمار ثقافي داخل المدارس والجامعات».
عندما انفتح الفضاء اللغوي في الجزائر مثلاً، تم تأسيس الكثير من الجرائد باللغة الفرنسية، وكونت لها جمهوراً خاصاً، وعاد الجمهور «التائه» بعد التعريب، فلاحظنا وجود جرائد مثل الوطن ولوماتان وليبيرتي وغيرها، لملمت النخبة الفرانكفونية حولها. ظهر داخل هذا المناخ المستجد جيل من الكتاب الجدد باللغة الفرنسية، فرضوا أنفسهم بنصوص مميزة لا يحملون عقدة اللغة الفرنسية كما الآباء الذين كان يشعر الكثير منهم أنه منفي داخل اللغة الفرنسية. يكتبون لأنهم اختاروا الكتابة بهذه اللغة التي كانت تشكل جزءاً من بنيتهم التكوينية والثقافية، وانتقدوا التاريخ بجرأة وأصبحوا صوت ما بعد الكولونيال، بعد أن رأوا المجتمع المستقل بنظرة نقدية جديدة، وانتقدوا الواقع الاجتماعي بحدة وبلا تردد، ولو أن ذلك تسبب لكثير منهم المضايقات الأمنية، ووقفوا في أغلبهم بجانب الكثير من القضايا المطلبية والاجتماعية والثقافية، وعاشوا التحولات المجتمعية القاسية. فطرحت القضايا الجديدة وعلى رأسها الحرية والهوية المواطنة التي لم تكن تشكل موضوعات أساسية للجيل السابق. فرشد ميموني، انتقد السلطة بقوة في كتاباته والانتهازيات التي صاحبت الاستقلال، مثلاً أحدثت روايته هزة عنيفة في الأوساط الأدبية الوطنية والفرنسية. لأول مرة يُنتقد النظام بشكل حاد وبمكوناته وبنياته. حتى عندما عاد ميموني إلى التاريخ، كان ذلك من خلال رؤية مستقلة وغير مؤسساتية، كما فعل الطاهر وطار قبله في اللغة العربية، بروايته «اللاز» حينما ذكر فصلاً دموياً من تاريخ الثورة الذي عاشها الكثيرون، لكنه ظل مخفياً: تذبيح الشيوعيين الذين انتموا إلى الثورة. «النهر الذي حول مجراه» لميموني، بينت انتهازية الحكم أمام المصالح، وهي قريبة جداً في موضوعها «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» للطاهر وطار. الروايتان قريبتان من رواية بلزاك: «الكولونيل شابير» التي تعالج الموضوع نفسه حول شخص يعود من الحرب، الكل يظنه ميتاً، فيتقاسمون تركته، بما في ذلك زوجته التي تُسرق منه، قبل أن يعود ويجد نفسه أمام تنكر جماعي له، وهو الذي مات في موقعة، واتلو، من أجل فرنسا. الطاهر جاووت، الذي ارتبط بموضوعات الجيل السابق للتحرر، لكنه تناول ذلك في أفق نقدي كبير، روايته «الباحثون عن العظام» صرخة في وجه التاريخ الذي أحرق أجيالاً بكامله، لكن في «العسس» دخل بمبضعه في جسد السلطة وشرحه بقوة.
في تونس، كما الجزائر والمغرب، استمر الإنتاج الأدبي ولم يتوقف حتى حينما توقف صاحب ‹تمثال الملح» الذي تميز كثيراً. نصوص مثل «فانتازيا» لعبد الوهاب مدب، و»هذا البلد الذي يقتلني» و»المرتدة» لفوزية زواري، و»عين النهار» لهالة باجي، و»سيريناد إبراهيم سانطوس» ليمن مناعي، و»الزمن العاري» لعزة فيلالي، و»عندما تعود الطيور» لنورة بن سعد، و»جنة النساء» لعلي بشير، و»تونس الزرقاء» للكاتب نفسه، و»رجل الغروب» لصونيا شماخ وغيرهم، ونفس الجيل في المغرب مع عبد الحق سرحان، وفؤاد العروي، وليلى العلمي، وعبد الله طايع، وليلى سليماني وغيرهم. من قال إن الحضور الفرنسي قد توقف في الأدب المغاربي؟