ثقافة وفنون

«أغاني مهيار الدمشقي» توازنٌ كوني بين الحياة والموت

«أغاني مهيار الدمشقي» توازنٌ كوني بين الحياة والموت

نسرين بلوط

لعل الدربَ الطويل الذي قطعه أدونيس في استقطاب المكونات الشاعرية وتسخيرها في خدمة التطويع الذاتي للكتابة التعبيرية من جهة، التي تستمد مناخها من المدرسة العقلانية، التي تحد من جموح الخيال – كما طبق أيمانويل كانط نظرياته في «عقلنة» الميتافيزيقيا الماورائية – ومدرسة أرسطو التي تزخر بلب الصيرورة والكينونة وتبحث من خلالها في طبيعة مفاهيم المكان والزمان والوجود من جهةٍ أخرى، قد بلورَ نظريةَ التفاعل الانطباعي في كتاباته. هذا التنازعُ المتضاربُ في التوليفة الشاعرية لأدونيس، بين ناقضٍ ومنقوض، يولّد الإبداعَ المتجانس في التوارد التلقائي لأبيات شعره، ومسامات نثره، لتأتي تعابيره مشرعةً على شتى الاحتمالات، تحملُ أكثر من تأويل وتعليل. وقد بقي ديوانه الشعري «أغاني مهيار الدمشقي» شاهدَ إثباتٍ على ذلك المدى الإبداعي الزاخر بالتجانس التجويدي السريالي، والتحاور الرمزي في التقريب التآلفي بين الماضي والحاضر، والتكهن بالغيب. فالتجانسُ والتآلفُ في مسامات هذا الكون يرصدُه أدونيس في تعمقٍ تأملي ثابت، ليصلَ إلى مستوى انعكاسي بين مرآة الوجود وظلال نفسه.
في ديوان أدونيس لا يسبرُ النقدُ غمارَ غلته، بل يلعبُ هذا الدورَ التوصيف التوضيحي والإيحائي فيه، فالأحاسيس المكثفة والأفكار المنمقة فيه، تصنع منه فردوساً من الشعر الخلاب، لا تنحسرُ معالمه في تخبطه السلس بين المدرستين الواقعية والخيالية.

في قصيدة الأرض يقول أدونيس: «قالت الأرض في جذوري أبادُ / حنين، وكل نبضي سؤال / بيَ جوعٌ إلى الجمال، ومن صدريَ /كان الهوى، وكان الجمالُ /ماليَ اليوم أستفيقُ، فلا حقلي /نضيرٌ، ولا تلالي زواهِرْ /لا النواطير يسمرون مع النجم /ولا الضوء راتعٌ في المحاجرْ /أنا كنزٌ مخبأٌ، أين أبنائي /فكلي صوتٌ، وكلي حناجرْ/ربما أنهكتْهمُ ضربةٌ عمياءُ /فاستسلموا لها واستلانوا / ربما أُلبسوا ثياباً سَرَت فيها /أكف الأوثان، والأوثانُ / ربما.. ربما، كأن الحروف السود /صُمت في وقعها الآذانُ /فكأن لم أطلعْ على الأرض ميلاداً / ويُخلقْ من صدّرَ الإنسانُ».
هذا التكيف الجذري مع صلب الأرض يظهر تعلق الشاعر بالحياة، والوطن، فالرمزيةُ في كلمة الأرض تتعدى حدودَ ذاتيتها ليفرضَ فيها الشاعرُ خلْقه الذي يبدعه من مجاز، فالأرض هي نتاجُ عرق الفلاحين ومداسٌ لأقدام الأبطال، ومن رحمها تنبتُ الحياة. هي نظرية النتاج والتبدل كما تيقنَ هرقليطس الذي آمن بالتغيير الدائم في كل لمحةٍ زمنية للأشياء، هكذا يتغيرُ وجه الأرض فجأة في قصيدة أدونيس، يعييها التصدع القائم على التبدل والجحود والتشقق الإنساني، والترسباتِ الإنسانية الصاخبة.
تتطرقُ القصيدةُ أيضاً إلى التعثر القائمُ في الأرض في ايديولوجيات التصارع السياسي والاجتماعي والثقافي، الذي يدلل عليه أدونيس في إبراز واقعة تاريخية في الصراع الزمني على المكان والجذور، في انفعالاتٍ رقيقة غير واهنة تدق ناقوس التنبه للبنيان السحري للأرض الأم، التي قد تمثل الوطن والعالم بأسره والتي وُجدت في عملية اختزالٍ فينومنولوجي يحللُ الثوابتَ والظواهر.
في قصيدة «أغنيتان للموت»، يقولُ أدونيس: «كأنهُ الموتُ إذا مرّ بي/يخنُقُه الصمتُ/ كأنه ينامُ إن نمتُ/ يا يدَ الموتِ أطيلي حبلَ دربي/ خطفَ المجهولُ قلبي/ يا يدَ الموتِ أطيلي/ علني أكتشفُ كنهَ المستحيل/ وأرني العالمَ قربي».

وفي النقيض يقولُ في قصيدة «أوراق» من فصل «أغنيات للحب»: «قالوا مَشت فالحقلُ من ولهٍ/ مُتَلبكٌ.. والقمحُ يكتنزُ/ بُعثَ التنَاغُمُ عَبرَ خُطْوَتِهَا/ والهَيْدَبَى والوَخْدُ والرَجَزُ/ تُوْمِي، فيَلتَفتُ الصباحُ لها/ مِن لهفةٍ، ويُتغتغُ العَنَزُ/ ما الوشمُ، ما الخرزُ؟ / ما الأقدمون السمر؟ لم يلجوا/ لغزاً ولا اكتنهوا ولا رمزوا/ لفَتَاتُهَا تَخِزُ/ وجُفونها وترٌ وأغْنَيةٌ/ صَيفيةٌ وقميصُها كرزُ».
هذا التناقضُ المتقاربُ بين الموتِ والحياة، بين العدم والحياة، يمثلُ التوازنَ الكوني بين مكوناتِ الوجود، هو يضعُ في ميزانه الخوف من الموت رغم حتميته، والحياة المتجسدة في الحب منذ وُجد الإنسان. ولا يستطيعُ أدونيس أن يخترقَ هذا التمويهَ الشعوري فيلجأ للمدلول ليكون أوثق صلةٍ وأكثر تعبيراً من خلال صلته بالدالة، يقتبسُ من اللعب بالترميز والإشارات والمنبهات الحدسية المحسنات البديعية لقصيدتيه، مجيداً لعبةَ التنقل والقفز بين الكلمات، يحبكُ من الروابط النفسية تأثيرات خارجية وداخلية لشعره المتدفق جاذبية، في تركيبٍ شعوري صاخبٍ بالتلقائية، فهو يسأل أسئلة وجودية فلسفية، ويجترحُ توجسه من خلال السعي والتطلع للاستكشاف والاستطلاع، والمضي رأساً إلى الأشياء ذاتها دون المواربة المتعالية. بين الوجودِ والعدم مسافةٌ لا تقاسُ من خلال الشعور اللاهث المرهق الذي يعتري الشاعرَ وهو ينزلقُ إلى دغدغة الموت، ثم يتدرجُ عارجاً إلى باحة النور وأغنيات الحب المرهفة، والفرقُ الموجودُ هو الذي يصنعُ الشعرَ ويحركُ الشاعرَ منذ قديم الأزمان.

في «أغاني مهيار الدمشقي» سمفونياتٌ موسيقيةٌ تجنحُ للحرية، وتجمعُ بين الفلسفة والوصف والنقد، وكما أبدع رامبو في ديوانه الوحيد الذي تم جمعه بعنوان «الآثار الشعرية الكاملة»، والذي صُنفَ كأحد أهم شعراء العالم الغربي المعاصر والمجدد، استطاعَ أدونيس أن يجردَ الشعرَ العربي من الروتين والتكرار الطاغي عليه، ليضعه تحت مجهر علم النفس الطوبولوجي، بتعرجاته وهندسيته وتمدده والتواءاته، ويغامرُ به في ثورةٍ تجديديةٍ طاغية، كان لها الفضل في تثبيت دعائم الشعر العربي الحديث، بين الطابع الجوهري والطابع التجريدي، فصنعَ من الضوء قناديلَ حالمة تعبرُها الحياةُ والموتُ في بعثٍ متجددٍ لا ينتهي، ويتكررُ كأغنيةٍ على شفاه الدمشقي الساهمِ في الحيرة.

كاتبة لبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب