ثقافة وفنون

ثنائيَّة السيِّد والعبد في مسلسل «ثورة الفلَّاحين»

ثنائيَّة السيِّد والعبد في مسلسل «ثورة الفلَّاحين»

سعاد العنزي

يتأخَّر كثيرٌ من البشر في المطالبة بحقوقهم وتغيير الظلم الواقع عليهم، لأنَّهم لم يتصوَّروا أنَّ بإمكانهم مقاومة الظلم والاستبداد، ولم يتجرؤوا يوماً على أن يفكِّروا بعقولهم، بل استسلموا، على مدى عقود، للدور المرسوم لهم، أو الذي وجدوا أنفسهم عليه. يقول إيمانويل كانط في مقالته «ما التنوير؟»: «التنوير هو انعتاق المرء من حالة العجز الذاتي. والعجز هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص، من دون توجيه الآخر.
إذن لم يكن سبب هذه الحالة، من عدم النضج الذاتي، هو نقص في ملكة الفهم، فهو بالأحرى، نقص في الشجاعة والإقدام، لاستخدامهما، من دون إرشاد الآخر. لذلك يكون شعار التنوير: تحلّ بالشجاعة لاستخدام عقلك بنفسك».

وكما أوضحَ كانط، إنَّ عجز البشر وكسلهم في ممارسة حقوقهم هو ما يقف عائقاً للتعرُّف على قدراتهم الحقيقيَّة على أن يكونوا بشراً كاملي الإرادة، ويحافظوا على كرامتهم، ويستعيدوا حقوقهم المستلبة التي لم يظنُّوا قطُّ أنَّها من حقوقهم. وهذا ما يعرضه المسلسل التاريخيُّ «ثورة الفلَّاحين» الصادر عام 2018 من تأليف كلوديا مارشيليان، وإخراج فيليب أسمر، وبطولة ورد الخال وباسم مغنية. تدور أحداث المسلسل في أواخر القرن التاسع عشر، حيث تعيش قرية لبنانيَّة تحت سيطرة عائلة «نسر» الاقطاعيَّة، التي يؤدِّي بطشها وقمعها إلى زرع بذور الثورة. يقول فرانز فانون موضِّحاً الفرق بين حياتَي المستعمِر والمستعمَر، وتفاصيل مدينته التي تعكس الفروق الحادَّة بين العالَمين: «إن مدينة المستعمِر مدينة صلبة مبنية بالحجر والحديد، مدينة أنوارها ساطعة، وشوارعها معبدة بالإسفلت، وصناديق القمامة فيها ما تنفك تبلع نفايات ما عرفها الآخرون، ولا رأوها يوماً، ولا حلموا بها. والمستعمِر لا تُرى قدماه عاريتين قط، اللهم إلا على شواطئ البحر، ولكن الآخرين لا يمكن أن يقتربوا منها اقتراباً كافياً. قدمان تحميهما أحذية متينة مع أن شوارع مدينتهما نظيفة، ملساء، لا ثقوب فيها ولا حصى».

في مثل هذه الظروف الإنسانيَّة، ينطلق المسلسل من ثنائيَّة السيد والعبد، أي الفلاح الذي أصبح عبداً مملوكاً لـِ(البيكويَّة)، ملَّاكِ الأراضي في النظام الاقطاعيِّ، الذين أصبحوا أسياداً بحكم المال، يسلِّط المسلسل الضوء على مرحلة تاريخيَّة مهمَّة إبَّان الخلافة العثمانيَّة على بلاد الشام ومصر، هذه الخلافة التي عانى فيها المواطن العربيُّ من ظلم مضاعف؛ ظلم الجنود الأتراك وظلم الإقطاعيِّين. صحيح أنَّ كثيراً من مسلسلات الدراما السوريَّة واللبنانيَّة والمصريَّة غطَّت هذه المرحلة منذ فترة، إلَّا أنَّ مسلسل «ثورة الفلَّاحين» عرض عدداً من القضايا المهمَّة بالتفاتة كبيرة على وعي السيِّد ووعي الفلَّاح، والدور الذي يلعبه أحدهما مع الآخر. إنَّ الفلاحَ يعلم مساوئ الظلم والطغيان، لكنَّه يعلم أيضاً أنَّه محاصر بأمرين: الأوَّل، هو الحاجة للعائد المادِّيِّ من عمله ضمن حلقة الإقطاع؛ والثاني، هو محاصرة السيِّد للمنطقة فلا يستطيع الفرار من سلطة البيك، وحتَّى إن هرب فهو سيواجه أسياداً آخرين، ليسوا أخفَّ وطأة من سيِّده. أمَّا السيِّد، فهو يسترسل في رؤيته الاستعماريَّة التي تؤكِّد له أنَّ الفلاحين غير قادرين على الاستغناء عنه، مستنداً بالطبع إلى جنوده وعتاده، لذا لم يكن قادراً على استيعاب قدرة الفلَّاحين على الثورة. حقيقة، ما يجعل موضوع المسلسل أكثر إثارة وتشويقاً توظيفُه البعدَ الإنسانيَّ، الذي يحيط علاقة الأسياد بالفلَّاحين. كما أنَّ موضوعات مثل الحبِّ، وصدمة الأمومة المفقودة، والجنون أعطت المسلسل جانباً من الإثارة والتشويق أيضاً.

لفت نظري في المسلسل، أنَّ شخصيَّة البيك في القرية تحوَّلت سلطتها إلى سلطة تشبه سلطة الحاكم العسكريِّ والاقتصاديِّ، الذي لديه سجونه، ومركزه الأمنيُّ الخاصُّ، وسيطرته على حركة المال، هذا ما قد يفسِّر لنا علاقة السلطة الوثيقة بالمال والاقتصاد منذ غابر الأزمنة. لم يكن هذا الأمر فحسب واقعَ البيكوات، بل واقع حتَّى شيوخ القبائل الذين شكَّلوا جنودهم الخاصِّين بمباركة السلطة العثمانيَّة. ما يعني أنَّ منظومة المراقبة والمعاقبة أخذت أشكالاً مختلفة في بدايات عصر النهضة. ولكن، ما عُرِض في المسلسل يبيِّن أنَّ معيار المراقبة والمعاقبة يتعلَّق بما يخدم مصلحة البيك فحسب، وما يقدِّم لهم (البيكويَّة) الضمان بأنَّ الفلَّاحين لن يتحدَّثوا عنهم بسوء، أو لن ينظِّموا أنفسهم، ويثوروا على سلطة البيك.

احتلَّت الصدمة توظيفاً مهمّاً في المسلسل من خلال شخصيَّة لميس ابنة سليم بيك، التي اغتصبها أبناء أحد أصدقائه وحملت منه، فحاول التستُّر على الفضيحة، من خلال إلقاء الحفيد حتَّى يموت، لكنَّ أوديب لم يمت، بل أخذه أحد الفلاحين وتركه عند صالحة التي ربَّته. عاشت لميس اضطراباتٍ حادَّةً حرفتها عن إنسانيَّتها، فحاولت الانتقام من الجميع؛ من أهلها، البيكوات، والفلاحين أنفسهم. وبعد أن يقوم ابنها بالدفاع عن أخته التي اقتيدت لبيت البيك للعمل رغماً عنها، ويُحجَز، ثمَّ يُقرَّر إعدامه، تظهر مربيَّته صالحة، وتخبرهم بأنَّه ابنهم، كي يلغوا قرار الإعدام. بعد ذلك، ينتهي العمل بانتصار الفلَّاحين بعد مواجهة حقيقيَّة مع البيكوات والأسياد. وهذه الخطوة لم تحدث إلَّا بالعنف، كما يقول فرانز فانون: «محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائماً لأن ذلك يبدل الكون تبديلاً تاماً، لذلك لا يمكن أن يكون ثمرة تفاهم ودي».
الجديدَ في هذا المسلسل توظيفُ كثير من الفنّــيَّات والتقنيات الجديدة والمفاهيم النقديَّة لما بعد الحداثيَّة كالصدمة، وبعض مفاهيم ما بعد الاستعمار، التي جعلت المسلسل يغاير المسلسلاتِ التاريخيَّةَ القديمةِ والتقليديَّة.

كاتبة كويتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب