
إيف سان لوران في مراكش: أيقونة الموضة وتأثير الجمال المغربي

مروة صلاح متولي
لم يكن إيف سان لوران 1936 – 2008 مجرد مصمم أزياء من مشاهير المصممين الفرنسيين، بل كان فناناً عبقرياً بحق، وأيقونة خالدة من أيقونات الموضة والجمال والرقي في العالم. خلال مسيرة طويلة حافلة بدأت بعمله منذ مطلع شبابه كمصمم صغير في دار أزياء ديور، وانتهت بأن ترك دار إيف سان لوران كصرح عملاق بتصميماتها للملابس والعطور وقطع الموضة المختلفة، ذلك الإرث الفني والجمالي والمؤسسة الخالدة، التي لا تزال حية وآخذة في التطور والازدهار، حتى بعد مرور سنوات على رحيله، لكن خلال تلك المسيرة الحافلة كانت هناك محطة فاصلة في حياة المصمم العبقري، تلك المحطة كانت مراكش، المدينة المغربية العريقة، المدينة الحمراء، مدينة البهجة، بجمالها الآسر وألوان الحياة المتألقة بين جنباتها، وشمسها الساطعة التي تحيطها بأشعة من ذهب، وعبق التاريخ الذي يحيط بكل شيء، ويخبر الجميع بأن هذه المدينة ضاربة بجذورها في أعماق الزمان والمكان.
ذهب إيف سان لوران إلى مراكش في زيارة بغرض السياحة، كان مفترضاً أن تكون زيارة عادية لمدينة تعد من أهم وأشهر الوجهات السياحية في العالم، يؤمها الفنانون والمشاهير والأثرياء من مختلف الدول والبلدان، لكن لحظة التقاء إيف سان لوران بمدينة مراكش، لم تكن لحظة عادية عابرة تشبه أي لقاء آخر جمعه بأي مدينة أخرى، كانت لحظة اللقاء بين إيف سان لوران ومراكش محملة بشحنة جمالية ذات أثر عاطفي هائل، انطبع في وجدان إيف سان لوران واستقر بين حنايا نفسه ولم يفارقه حتى النهاية، بل إنه رفض أن تكون هناك نهاية لعلاقته بمراكش، أو أن يفصله الموت ويفرق بينه وبين مدينته الأثيرة، التي كانت ملاذه الروحي ومستودع إلهامه، ومركز الجمال الذي يأنس إليه وجوده وتطمئن روحه في جواره وبالقرب منه، فأوصى بأن يستقر رماده في أرض مراكش، وكان له ما أراد.
ألهمت مدينة مراكش المغربية المصمم الفرنسي الخالد ومنحته الكثير أثناء حياته، وخلال ممارسته لعمله الإبداعي، ثم احتضنت ذكراه وتاريخه بعد موته، إذ تحول إلى معلم من معالمها السياحية ومزاراتها الأساسية في أي رحلة، بيته وحديقة ماجوريل ومقبرته، أو نصبه التذكاري، ومتحفه الذي يضم نماذج لبعض أعماله ويؤرخ لعلاقته بمدينته الأثيرة مراكش، ويضم صوراً وتصميمات وقطعاً أيقونية، ومعروضات مختلفة توثق تلك العلاقة العميقة والصلة الأبدية التي ربطت بينه وبين المدينة الحمراء.
في مراكش بدا إيف سان لوران كما لو أنه يكتشف الحياة من جديد ويتعرف على الأشياء للمرة الأولى، كأنه اكتشف الألوان وتحرر من اللون الأسود، وصار أكثر جرأة وقدرة على الاقتراب من الأحمر والأخضر والبرتقالي والأزرق والأصفر، وكأنه اكتشف الشمس التي أضاءت أعماله وأفكاره الفنية بروح مشرقة متوهجة. كما اكتشف أصالة وثراء الملابس التقليدية المغربية، بجمالها القديم المعتق منذ قرون بعيدة، وتفاصيل الإبداع المكثف في كل قطعة من تلك الملابس التي تمثل الثقافة المغربية الخالصة، فأخذ يستهلم من أناقة القفطان والجلابة والسلهام، ومن الحلي والأكسسوارات الأمازيغية الرائعة والفريدة، وذهب إيف سان لوران وراء كل ما يضيف إلى تصاميمه لمسة ساحرة، تجمع بين أصالة الأزياء المغربية التقليدية وحداثة إبداعه الخاص وانعكاسات ذلك الفن المغربي في نفسه.
ولع لا يخبو ودهشة دائمة
ألقى إيف سان لوران بنفسه في أحضان مراكش، وأطلق لدهشته العنان، وهو يتأمل في تفاصيل تلك المدينة التاريخية العريقة، التي تراكم فيها الجمال عبر السنين، وترك روحه تمتزج بكل ما في المدينة من فنون تتجسد في رياضها ومساجدها ومنازلها وزليجها، وكل أشكال المعمار والبنيان والتصميمات الهندسية، بالإضافة إلى الساحات والشوارع والطرقات، والأسواق والروائح العطرية والإيقاعات، وكل ما يرسم لوحة مراكش البديعة المتفردة شديدة التميز. انطلق إيف سان لوران يسير في أسواق مراكش ويدور في ساحاتها، كما نرى في العديد من الصور التذكارية التي التقطت له هناك، كان أمراً طبيعياً لفنان على درجة عالية من الحساسية، مثل إيف سان لوران أن يجد في المغرب كنزاً فنياً ومعيناً لا ينضب من الإلهام، فمثله يستطيع أن يدرك ويقدر قيمة ذلك الجمال المتفرد والأصالة التي يندر توفرها في الفنون والثقافات، لذا تشبث بالمغرب وبمدينة مراكش تحديداً، لا كملاذ إبداعي فحسب، وإنما كملاذ روحي أيضاً، أراد أن يكون مستقره الأبدي، ومستودع ذكرياته، والمكان الذي يتعين أن يذهب إليه كل من يريد أن يقف أمام قبره أو نصبه التذكاري، وأن يتعرف على جزء كبير من تاريخه وبيته وحديقته وإبداعه ومتحفه.
زار المصمم الفرنسي الراحل إيف سان لوران مراكش لأول مرة في الستينيات من القرن الماضي، وعلى الفور وقع في غرامها وافتتن بها، فاشترى المنزل الفاخر وحديقة ماجوريل الساحرة، وبعد وفاته أقيم المتحف الذي أصبح مزاراً سياحياً وثقافياً وفنياً مهماً، إلى جانب المنزل والحديقة، وكل منها بطبيعة الحال توفر متعة جمالية كبرى للزائرين. كانت مراكش بالنسبة لإيف سان لوران مدينة الدهشة الأولى، وشعلة الشغف التي لا تخبو ولا تنطفئ، ومتعة اكتشاف الجمال بشكل مستمر، دون تكرار أو اعتياد أو ملل. كما لو أن مراكش فتحت له أبواب الحواس كلها دفعة واحدة، وأحاطته بألوانها وأضوائها وروائحها وأصواتها وأسرار روحها.
في هدوء أرجائها وبين حدائقها الغنّاء وألوانها الجريئة، وجد إيف سان لوران في مدينة مراكش باليتة لونية كان يفتقد إليها، ومرجعاً فنياً يطمئن إليه، بينما هو يجرب ويعيد تركيب عالمه الفني على طريقته في كل مرة. من الزخارف المغربية إلى الطربوش إلى القب والأحزمة العريضة وغير ذلك من التفاصيل، تعددت ملامح وتجليات التأثيرات المغربية على تصاميم دار إيف سان لوران في الأزياء والحقائب، والإكسسوارات والعطور كعطر قفطان وعطر أطلس جاردن وغيرهما.
استلهم المصمم الفرنسي الراحل العديد من العناصر من الملابس التقليدية المغربية المعروفة بتنوعها وفرادتها وأصالتها، التي تعود إلى أزمنة قديمة، وكذلك ديمومتها وحضورها المستمر في حياة الشعب المغربي كتراث حي تعيشه الأجيال تلو الأجيال، وقابلية تلك الأزياء لأن تلائم كل العصور بأناقتها وحسن تصميمها وجمالها الذي لا يبلى ولا يندحر أمام الجديد، بل إنه يتفوق على كل جديد. في مجموعات إيف سان لوران الراقية نجد تأثيرات القفطان المغربي في بعض أعماله، وهو بالطبع لم يقم بالتقليد أو بالاستنساخ، وإنما استلهم مما أوحى له القفطان وأنامل ومخيلة المصمم المغربي القديم، والقفطان كغيره من الملابس المغربية التقليدية جاء نتاج الثقافة المغربية بشكل عام والذوق المغربي والمخيلة ومعايير الجمال لدى العقلية المغربية، والكثير من الأمور التي حددت ملامح الأزياء التقليدية المغربية، بتنوعها الجغرافي داخل المناطق المغربية المختلفة، وكذلك الفترات التاريخية والحقب الزمنية والعصور التي مرّ بها المغرب. كما نجد تأثر إيف سان لوران بالجلابة المغربية ببساطتها الراقية وخطوطها المنسابة الدقيقة للغاية، وكذلك القب الذي يوضع على الرأس والموجود كذلك في السلهام، والقب علامة مغربية بارزة استخدمها سان لوران في بعض قطعه الساحرة، وكان لبعض الأنماط الزخرفية المغربية انعكاساً على أعماله بشكل غير مباشر، كما استوحى الكثير من أنواع التطريز المغربي المعروف بتنوعه وإتقانه، وجماله المعقد الفريد الذي يستعصي على غير أصحابه والعارفين به.
كاتبة مصرية