تقييم إسرائيل للإسلاميين في سورية ما بعد الأسد

تقييم إسرائيل للإسلاميين في سورية ما بعد الأسد
مع خروج إيران، فقدت طهران أهم قاعدة أمامية لها على حدود إسرائيل، وانقطع بذلك “الهلال الشيعي” الذي طالما سعت لتكريسه…
مع انهيار نظام بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، دخلت سورية مرحلة جديدة مليئة بالتحديات الأمنية والفرص الإستراتيجية التي قد تؤثر بشكل كبير على وضعها الجديد في الإقليم، ولم يعد وجود إيران وحزب الله في سورية أمرًا قائمًا، مما فتح المجال لظهور جماعات جهادية سنية متعددة في مناطق شاسعة، ما يضع إسرائيل في مواجهة خيارات معقدة وصعبة. وبينما تتطلع إسرائيل إلى الأمن الداخلي واستقرار حدودها، فإن الفراغ السياسي والعسكري في سورية يُعد ساحة مفتوحة لصراع مستمر بين القوى الإقليمية والمحلية، ما يعكس مخاطر وتحديات جديدة على الرؤية الأمنية لتل أبيب.
في البداية، كانت إسرائيل ترى أن الثورة السورية مسألة داخلية، ولم تعتقد أن المسار السياسي الثوري كان سيؤثر بشكل كبير على مصالحها. ولكن مع تغير الوضع إلى حرب واسعة امتدت فعليًا 13 عامًا، واقتراب المعارك من الحدود الإسرائيلية وتزايد التدخلات الخارجية، أعادت إسرائيل تقييم موقفها، لا سيما بعد أن وصلت الجماعات السنية المسلحة إلى القنيطرة ودرعا.
في عام 2013، اعترف وزير الأمن آنذاك، إيهود باراك، بتنفيذ ضربات جوية إسرائيلية في سورية، في مناطق القنيطرة وريف دمشق الغربي تحديدًا ضد نقل الأسلحة بين المليشيات الموالية لنظام الأسد حينها، مؤكدًا عزم إسرائيل على منع وصول أنظمة الأسلحة المتطورة إلى حزب الله أو عدم تعاظم قوة إيران في سورية عبر تمرير دعم لفصائل سنية معتدلة.
في أيلول/ سبتمبر 2013، أشار وزير الأمن، موشيه يعلون، إلى “الخطوط الحمراء” التي وضعتها إسرائيل، بما في ذلك نقل الأسلحة الكيميائية إلى حزب الله، والتهديدات لأمن إسرائيل، وتوطّن الجماعات الراديكالية بالقرب من الحدود الشمالية. ولهذا فقد رأت في دعم الجماعات الإسلامية المعتدلة في جنوب غربي سورية فرصة جيدة للوقوف امام المد الإيراني والمليشيات الشيعية في المنطقة الجنوبية من سورية.
ملف أمن الشمال
بين عامي 2013 و2018، شهد جنوبي سورية تداخلًا معقدًا بين أطراف متعددة شملت الميليشيات الموالية لإيران، الجيش السوري وأجهزته الأمنية، جماعات المعارضة المسلحة ، إضافة إلى سلاح الطائفة الدرزية. كانت هذه الأطراف تتباين في توجهاتها الأيديولوجية وارتباطاتها العرقية ومصادر تمويلها، كما أن ولاءاتها كانت تتغير تبعًا لمتغيرات محلية وميدانية. بعض القرى والمليشيات غيّرت انتماءاتها لأسباب براغماتية، وبرزت في تلك الفترة مجموعات متطرفة مثل “جبهة النصرة”، التي كانت على صلة محدودة بإسرائيل رغم علاقتها بتنظيم القاعدة، إلى أن تم تحييدها عن المنطقة في عام 2016. لكن تل أبيب وجدت فرصًا للتعاون مع بعض جماعات المعارضة التي اتسمت بالاعتدال والبراغماتية مثل فصائل ألوية الفرقان وأحرار الريف الغربي وألوية السبطين وغيرهم من الفصائل المسلحة التي كانت تستثمر في القنيطرة والقرب من الحدود الغربية الجنوبية لسورية؛ لا سيما مع تأسيس “الجبهة الجنوبية” عام 2014، والتي امتدت من حدود الأردن حتى الجولان، شارك نحو 20 ألف مقاتل في أكثر من خمسين فصيلًا. لكن ضعف التنسيق بين هذه الجماعات جعل التعامل معها صعبًا. وبالرغم من التعاون مع “جبهة النصرة” في بعض المناطق، أعلنت فصائل من الجبهة الجنوبية في 2015 قطع علاقتها معها، في محاولة لنيل دعم دولي أكبر.
كما ظهرت في جنوبي سورية محاولات لإنشاء منطقة آمنة مستقلة بدعم إقليمي ودولي، لتكون نموذجًا آمنًا يُحتذى به في باقي البلاد. اقترحت المبادرة إنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق 25 كم على الحدود مع إسرائيل ولبنان، مدعومة بمنطقة حظر جوي. وبرزت في هذا السياق مبادرة “أبناء الجولان” من سوريين دروز مطالبين بالحماية لا سيما من بلدة “حضر” المحاذية لحدود الجولان السوري المحتل .
التحولات الإقليمية بعد سقوط النظام السوري
قبل سقوط الأسد، كان النظام السوري يُعتبر الحليف الإستراتيجي لإيران في المنطقة، وكان دورها يتجاوز الحدود السورية إلى لبنان والعراق، حيث دعم حزب الله والميليشيات الشيعية. لكن مع سقوط النظام، فقدت إيران أحد ركائز نفوذها في سورية، ما أدى إلى تغييرات جذرية في المشهد الإقليمي. هذا التغير في المعادلة يجعل إسرائيل ترى في فقدان النظام السوري فرصة لتعزيز استقرارها وأمنها، ولكن في الوقت ذاته يثير القلق بسبب الفوضى والفراغ الذي خلفه انهيار النظام.
ورغم أن الجماعات الجهادية السنية في سورية لم تكن في البداية تشكل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل، فإن الأحداث التي تلت سقوط النظام أدت إلى تفاقم المخاطر؛ لا سيما بعد وصول الإدارة العسكرية الجديدة في سورية وأصلها “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة وأصبحت تتمركز في مناطق متعددة في سورية، حيث تتواجد في شمالي البلاد وجنوبها، الأمر الذي يُشكل تهديدًا لإسرائيل أيضًا في ظل رفض إسرائيل الاستمرار بعمل اتفاقيات فض الاشتباك 1974 بحكم سقوط نظام الأسد، وعدم وجود آلية عمل واضحة مع الإدارة الجديدة في دمشق. هذا التخبط في الجبهة الشمالية دفع إسرائيل إلى التوغل في سورية وتنفيذ عمليات برية وجوية طاولت قطع عسكرية ومنشآت أمنية عسكرية وأخرى مدنية، كوسيلة للضغط على الإدارة الجديدة في دمشق وحلفائها لجرّهم إلى مفاوضات وتنفي اتفاقيات ضمانات بعدم تهديد أمن الشمال.
إسرائيل تعتبر هذه الجماعات تهديدًا غير مباشر في هذه المرحلة، ولكنها تدرك تمامًا أن وجود هذه الجماعات يمكن أن يؤدي إلى تصعيد أمني على الحدود السورية – الإسرائيلية. رغم عدم وجود تحركات كبيرة من هذه الجماعات ضد إسرائيل حتى الآن، فإن تهديداتهم قد تنمو في حال فشلت القوى المعتدلة في سورية في تثبيت الاستقرار، خصوصًا أن الفوضى التي أعقبت سقوط النظام قد تتيح لهذه الجماعات توسيع نشاطاتها، سواء في الداخل السوري أو في مناطق متاخمة للحدود الإسرائيلية، بعد ظهور جماعات محلية شكلت نفسها كخط مقاومة أمام التوغل الإسرائيلي.
إستراتيجية إسرائيل في مواجهة هذه التهديدات
وضعت تل أبيب، التي تعتبر أي تحرك يمس استقرار حدودها تهديدًا مباشرًا، خطة متعددة الأبعاد للتعامل مع الوضع المتغير في سورية. إذ يتعين على إسرائيل اتخاذ قرارات إستراتيجية بناءً على ما تراه أفضل لحماية مصالحها الأمنية، مع الحفاظ على توازن دقيق بين العمل العسكري والدبلوماسي؛ بدْا من التعامل مع الفراغ الأمني في الجنوب السوري الذي كان تحت سيطرة نظام الأسد، والذي يُعتبر الآن نقطة إستراتيجية قد تشهد تواجدًا أكبر للجماعات الجهادية السنية، لا سيما بعد أن انضمت قوات الجنوب (أحمد العودة) إلى وزارة الدفاع السورية. هذا الفراغ الأمني يشكل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل، والتي قد تحاول استغلال هذا الفراغ لدعم جماعات سنية معتدلة أو غير معادية لها، مثل الفصائل المعتدلة التي تركز على مواجهة إيران والميليشيات الشيعية. بهذا، قد تكون إسرائيل خسرت التحالف مع القوى السنية المعتدلة التي حاولت في وقت مضى تقديم الدعم لهذه الفصائل متمثلاً بالدعم الاستخباراتي، والمساعدة في التدريب، بالإضافة إلى تقديم ضربات جوية انتقائية لقواعد النظام التي كانت تهددها.
بالإضافة إلى ذلك، عملت تل أبيب على الاستفادة من الانقسام السني – الشيعي الذي يهيمن على الكثير من النزاعات في المنطقة، والذي تعمق بعد التدخل الإيراني في دعم الأسد. من خلال تشجيع الانقسامات الطائفية ودعم الفصائل السنية التي ترفض الهيمنة الإيرانية، يمكن لإسرائيل إعاقة جهود إعادة بناء “الهلال الشيعي” الذي طالما حاولت إيران ترسيخه في المنطقة. تجلى هذا سابقًا في تقديم الدعم لفصائل القنيطرة في معارك مثلث الموت وتمرير الدعم للفصائل السنية المعتدلة امام المد الشيعي عبر تكثيف ضرباتها الجوية لمنع وصول أسلحة إلى هذه المليشيات. لكن لا بد لنا ان نذكر أن هذا الدعم محدود للغاية ومقنّن بحيث إن إسرائيل كانت تمنع وصول أسلحة متطورة إلى فصائل المعارضة ، لا سيما أسلحة مضادة للطيران، وهذه الاستراتيجيات تهدف إلى الحد من تمركز الجماعات التي قد تشكل تهديدًا للأمن الإسرائيلي، سنية كانت او شيعية، بالإضافة إلى إحباط أي محاولات لانتقال الأسلحة المتطورة عبر الحدود؛ كما الحال في توجيه ضربات إلى الحدود الأردنية السورية لمنع وصول أي إمداد مشبوه. لهذا، فإن تل أبيب تعمل على رفع مستوى التنسيق الاستخباراتي والمراقبة وتعزيز عملياتها الاستخباراتية في العمق السوري، من خلال استخدام أقمار اصطناعية، طائرات مسيرة، وفرق خاصة للمراقبة المستمرة لتموقع الجماعات الإسلامية (المعتدلة والجهادية)، وبالفعل فقد نفذت عدة ضربات على مواقع عسكرية فيها عناصر من الجيش السوري الجديد الذي تشرف على تدريبه وزارة الدفاع السورية، لا سيما في مناطق الكسوة وريف دمشق الغربي، وتدمر، وريف حمص ودرعا.
إعادة التقييم
اليوم، وبعد انهيار الأجهزة الأمنية للأسد وانسحاب إيران، فقد أزيل التهديد الإستراتيجي الأبرز الذي واجهته تل أبيب منذ العام 2011، وبات الجنوب السوري في موقع أكثر قابلية لإعادة الترتيب الأمني والسياسي وفق معايير جديدة. واقعيًا، لم تعد الأراضي السورية منصة لإطلاق الطائرات المسيّرة أو تهريب الصواريخ الدقيقة، كما لم تعد معبرًا نشطًا للمخدرات نحو الأردن والخليج. فالشبكات التي كانت تدير تجارة الكبتاغون والحشيش والسلاح والتي كان جزءا كبيرا منها تحت إشراف فرق عسكرية تابعة للأسد وبدعم من حزب الله (الفرقة الرابعة العسكرية)، تفككت مع انهيار السلطة المركزية وخروج الفاعلين الإقليميين الداعمين لها. بذلك، تكون إسرائيل قد تخلّصت من أحد أخطر التهديدات غير التقليدية التي طالما أربكت محيطها الإقليمي، خاصةً مع تصاعد القلق الأردني والخليجي من تدفق المخدرات من الجنوب السوري.
ومع خروج إيران، فقدت طهران أهم قاعدة أمامية لها على حدود إسرائيل، وانقطع بذلك “الهلال الشيعي” الذي طالما سعت لتكريسه. لم تعد هناك قواعد طائرات مسيّرة إيرانية في تدمر أو صواريخ أرض – أرض في ريف دمشق الشمالي والغربي وفي القصير في ريف حمص ، أو غرف عمليات مشتركة في درعا. كما أن حزب الله انسحب من الجولان السوري والقلمون، منهياً بذلك مشروع “الجبهة الشمالية الثانية”. بهذا، تراجعت قدرة إيران على استخدام الأراضي السورية كساحة ردع أو تهديد مباشر لتل أبيب، ما يمنح إسرائيل حرية مناورة أكبر إقليميًا، ويدفعها لتكريس ترتيبات أمنية طويلة الأمد على حدودها الشمالي بالتنسيق مع القوى الفاعلة الجديدة.
هذا التحول في التهديدات، من “التموضع الإيراني المليشياوي” إلى “الفوضى ما بعد الأسد”، انعكس أيضًا على العقيدة الأمنية الإسرائيلية، التي باتت تتجه من سياسة “الردع الوقائي” إلى سياسة “التمكين غير المباشر”، عبر أدوات سياسية واقتصادية وإنسانية وتقديم أو عرض مساعدات على المناطق الجنوبية، تهدف إلى تشكيل واقع ميداني يحمي المصالح الإسرائيلية من دون تفجير الجبهات. وهنا تبرز أهمية ما تسميه إسرائيل بـ”الإشراف الهادئ”، أي مراقبة دقيقة لما يجري في سورية، والتدخل فقط عندما تلوح بوادر تهديد إستراتيجي جديد؛ وتقديم دعم لوجستي وإعلامي لأي محاولة من شأنها تقويض استقرار سورية وتوحيدها، كما في حالة ادعاء دعم الدروز في السويداء والمطالبة بفرض حماية دولية عليهم.
رغم أن سقوط نظام الأسد أزال وجود إيران المباشر في سورية، إلا أن إسرائيل تواجه تحديات كبيرة في التعامل مع الفوضى السياسية والأمنية التي خلفها سقوط نظام الأسد. سيكون من الصعب على إسرائيل، بنظرها وبحسب تصريحات مسؤوليها، أن تتجاهل الوجود المتنامي للجماعات السنية الجهادية التي قد تهدد الاستقرار في المستقبل، خصوصًا وأن “فوضى السلاح” وعدم جدية حصره بيد جهة واحدة في سورية ستكون مقلقة لإسرائيل، وقد تؤدي بنظرها إلى تشكيل بيئة خصبة لهذه الجماعات لتنفيذ عمليات تهدد مصالح تل أبيب في داخل سورية، وربما حتى عبر الحدود إلى إسرائيل.