الهجمة المرتدّة في حروب الوعي والمعنى

الهجمة المرتدّة في حروب الوعي والمعنى
إنّ هذه المعركة التي نخوضها اليوم، لا تدور حول الصّورة في أبعادها الملتقطة، ولا في الخطاب ببلاغته المشحونة بآثار الدّم المراق، بل تتمحور حول المعنى الذي يُراد له أن يُمحى من جذوره، وأن يُعاد تشكيله وفق هندسة الغالب…
ألهمني تقرير للصّديق والزّميل نضال كناعنة، عنوان هذا المقال، الذي لم يكن يومًا بعيدًا عمّا أكتب، وإنّما جاء في صلب ما يُشغلني، إذ لم تعد فلسطين مجرّد جرح جغرافيّ نازف، وإنّما باتت الحرب فيها وعليها، حربًا أكيدة وواضحة على المعنى بكلّ ما تحمل الكلمة من أبعاد اجتماعيّة وثقافيّة ووجوديّة، في مواجهة مفتوحة مع دلالات التّشويش والتّسليع، تشويش الشّهادات البصريّة، وتسليع الصّورة الإنسانيّة، ما ينقلنا بالضّرورة أو الاحتمال من امتهان التّأمّل إلى حال الفعل.
ففي حروب الصّورة والمعنى، لا يكفي الحقّ إظهار ما تراه العين، بل علينا أن نحرّر ما تقوله الصّورة من كافّة معانيها المحشورة في بلاغة الخطابات وشعاراتها الرّنانة، لا لكي نُدقّق في تفاصيلها المتشابهة أو المتصارعة، ولكن لنُعيد تشكيل وعي العالم بما يجري في الظّلام وفي العلن.
إذ لم تعد المعركة مجرّد معركة تُخاض في الميدان، وإنّما هي أداة حرب على الوعي بالأساس، كما أنّها تُشكّل فضاء مُحقّقا للانحياز، تُختبر فيه القدرة على انتزاع السّرد إمّا لصالح الضّحية كفاعل واعٍ لما يُريد، وإمّا لجهة أن تسقط في قبضة المُستعمِر وما يريد.
بِنية الانتصار والهزيمة بهذا المعنى، لم تعد بنية عَسكريّة تُنتجها الجيوش، ولكنّها باتت بنية تَتشكّل في العقول وتفاعلها المدرك لما يدور فيها ومن حولها، وبِما يستقرّ من صلابة وهشاشة، ومن توظيف وتجاوز، ومن مُقدّس ومدنّس، وربّما من تفاصيل يُمكنها أن تعكس الحقيقة في صراعها الأزليّ بين المطلق والنّسبيّ، كما بين الموضوعيِّ والذّاتيّ.
لذا، علينا الإدراك أنّ المستهدف الحقيقيّ، فضلًا عن الإنسان ووجوده، هي الحقيقة ذاتها، وحضورها في الصورة بوصفها نصًّا سياسيًّا وإنسانيًّا بامتياز؛ والصّورة هنا يراد لها أنْ تغيب بالكامل لا بالتّفاصيل المشوّهة، كما نلحظ من تحذير مكتب رئيس وزراء الابادة، للجهات الفاعلة في إنزال المساعدات، ” ممنوع تصوير غزّة من السماء”.
نحن إذًا، أمام سرديّة لا تستخدم التّجويع كورقة تفاوضيّة وحسب، وإنما كأداة محو للمعنى والسّياق، معنى الجيش الذي يقتل شعبًا بأكمله بذريعة محاربة “الإرهاب” على مرأى ومسمع العالم بأجمعه، وسياق المنظومة الدوليّة العاجزة أو “المتواطئة” في حضرة تجريد الشّعب الواقع تحت الاحتلال من حقّه في الحياة، ومن صوته، وصورته، وخبزه، ومائه، ومن تاريخه، فهل هناك ما هو أكثر فظاعة من أن يُمحى شعبٌ بأكمله مرّتين، مرّة بالجوع، ومرّة بالصّمت والخذلان؟
الهجمة المرتدة…
إنّ ما يطلبه المستعمِر في هذه المواجهة ضدّ الحضارة البشريّة لا يتوقّف عند منع رؤية غزّة من السّماء، بل يسعى إلى حجب وجهها عن الذّاكرة البصريّة؛ ليس لأنّ صورة التوحّش بشعة أو حقيرة فحسب، بل لأنّ الصّورة لم تَعد مجرّد وسيلة لنقل الخبر، وإنّما غدت توثيقًا للحدث/الجريمة، تلك التي باتت جريمة مزدوجة: إبادة جسديّة، وإبادة بصريّة؛ جريمة تجتهد لتُصيب الوعي في مقتل، وتُفرّغ المعنى من سياقه، لتُترك السّاحة خالية لإعادة إنتاج الضّحيّة في سرديّات الإعلام التقليديّ، وظلاله الحديثة على “السّوشيال ميديا”.
إعادة الإنتاج هذه، وهي المستمدّة من نصوص الأسطورة التّوراتيّة وتجلّياتها العسكريّة، تدفعنا لضرورة العمل بأثر رجعيّ على الهويّة الجمعيّة وتعبيراتها المستهدفة، ليس باعتبارها مجرّد تعريف للذّات وحسب، بل بوصفها معنىً ونسيجًا يمكنهما المُساهمة الفاعلة في تحديد دورها وتفسير وظيفتها في سياق تشكيل الرّؤى والتّطلعات الجماعيّة المحمولة على الإرث الحضاريّ، حيث الخلاص لا يمكن له أن يكمن في الفرديّة، بل في تمظهره الواضح في منسوجة الجماعيّ وآليّات تضافره مع مخيال الهويّة ونداء استعاراتها ومعانيها وأشكال تطوّرها على نحو يمنحها القدرة اللازمة على المواجهة والاستمرار.
هذه الهجمة المرتدّة، بحاجة ماسّة لتشخيص مزدوج، للواقع وشروطه ومآلاته من جهة، وللطّاقة الكامنة في الجماعة ومقدّراتها من جهة أخرى؛ تشخيص هدفه الأساس، أن يكرّس ما يُمكن تعريفه بـ”مفهوم التّجاوز”، تجاوز عوامل الاستلاب، وكوابح الانقسام؛ تجاوز التّناقض والتّنافر، السّجالات العقيمة بين المسلمات والاجتهادات، بين المقدّس والمدنس، بين ما يُعدّ شرعيًّا وما يخالفه؛ تجاوزًا يفتح المجال واسعًا لمناخ التّوافقية لا الاستقطاب، لنعيد معًا ترتيب أدوات المواجهة في حروب الوعي والمعنى.
إنّ هذه المعركة التي نخوضها اليوم، لا تدور حول الصّورة في أبعادها الملتقطة، ولا في الخطاب ببلاغته المشحونة بآثار الدّم المراق، بل تتمحور حول المعنى الذي يُراد له أن يُمحى من جذوره، وأن يُعاد تشكيله وفق هندسة الغالب لما تبقّى للمغلوب؛ من هنا، لا يمكن للهجمة المرتدّة أن تقوم بفعل التّغيير ما لم تتحوّل إلـي رافعة لمشروع تحرّريّ يبدأ من الوعي ولا ينتهي بإعادة صياغة الذّات وماهيّة الحقّ، بوصفهما جوهرين لا يُختزلان في صورة، ولا يُختطفان في خطاب؛ فالمعركة لم تعد معركة استعمار يريد ازاحتنا، وإنّما هي معركة حول تعريفنا في الوعي والمعنى، هل نُرى بوصفنا فائضًا عن الحاجة، أم كينونة جديرة بالحياة؟