مقالات

خاطرة دبلوماسية : الذكاء الأفغاني بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

خاطرة دبلوماسية : الذكاء الأفغاني
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
حدثني زميل دبلوماسي وكان (career diplomat)، أي دبلوماسي متدرج ممتهن، وله خبرة جيدة في العمل الدبلوماسي، وكنا نتبادل الخبرات والتجارب، وأنا كانت خبرتي العملية أقل من خبرتي النظرية، بينما كانت هو خبرته العملية أكثر من خبراته النظرية. وإذا كنت عزيزي القارئ تظن أن الدبلوماسية هي حكر على القوى العظمى، فأنت مخطئ، فالدبلوماسية مهنة الأذكياء، والمثقفين والمستعدين تعليمياً لهذه المهنة التي أعتبرها من أصعب المهن في العالم. فالدول العظمى ربما في حالة معينة، لا تحترم الدبلوماسية وتخترق قواعدها، وأبرز دليل على ذلك هو قرار الولايات المتحدة الحرب على العراق بدون موافقة مجلس الأمن (الأمم المتحدة).
حدثني زميلي :
أنه كان في أعوام السبعينات قائماً بأعمال السفارة العراقية في مملكة أفغانستان. وكانت الحرب مستعرة لأقصى درجاتها في فيثنام، والولايات المتحدة متورطة حتى أذنيها في المستنقع الفيثنامي، الذي كان الحدث الأشد أهتماماً في السياسة الدولية. وأفغانستان كانت توالي السياسة الأمريكية عامة بهدوء بدون صخب. ولأفغانستان حدود مع الاتحاد السوفيتي وهناك علاقة تقليدية مهمة بين أفغانستان والاتحاد السوفيتي يجب أن تراعيها وتحترمها، ولكن الأهم هو حدودها مع الصين الشعبية التي كانت تحرص على إعلان موقفها الصريح الداعم لفيثنام سياسيا وعسكرياً. وعلى السياسي الأفغاني أن يكون ماهراً جداً لقيادة هذا الزورق الصغير المتعب وسط هذه الأمواج والأعاصير الجبارة ..!
فوجئ الوسط الدبلوماسي الأجنبي في كابل (عاصمة أفغانستان) بزيارة وزير خارجية يوغسلافيا إلى كابل، وصدور بيان مشترك (communique) (وهو ليس ضرورة حتمية لزيارة وزير خارجية، ويمكن الاكتفاء ببيان صحفي لزيارة بمستوى وزير خارجية) وتضمن البيان المشترك ” تأييداً للشعب الفيثنامي وإدانة للحرب العدوانية الأمريكية على الشعب الفيثنامي “. الدهشة عقدت ألسن الدبلوماسيين، فما لذي غير الموقف الأفغاني، ومن المؤكد أن الجانب اليوغسلافي لم يكن ليصر على إدراج هذه الفقرة في البيان المشترك الغير مهم إصداره أصلاً كما نوهنا… فهي والحالة هذه تعبر على الأرجح عن رغبة أفغانية، ولكن أين السر في تغير الموقف ..؟
يقول زميلي الدبلوماسي العراقي، أن سفارتنا (سفارة الجمهورية العراقية / كابل) كانت تتمتع بعلاقات تقليدية ممتازة جداً مع السلطات الأفغانية، وزميلنا شخصياً والسيدة عقيلته يتمتعون بصداقة عائلية متينة مع أسرة الملك وبناته وأولاده، ومع وزير الخارجية الأفغاني المتزوج من إحدى بنات الملك. لذلك توجه كل الدبلوماسيين إلى زميلنا العراقي ليحل لهم سر هذه الأحجية ..!
يقول زميلنا العراقي، أنه كان وزوجته يتصلون بشكل طبيعي بالقصر ويلتقون في أمسيات عائلية، لذلك أسرع وطلب موعداً عائلياً مع وزير الخارجية، وفي اللقاء .. كان وزير الخارجية (الذكي دون شك) يبتسم وبادر صديقنا حين استقباله بباب القصر بقوله: هذه المرة أعلم ما وراءك …! ولما جلسنا توجهت له بالطبع بهذا السؤال المثير للحيرة … أبتسم وزير الخارجية وأسمع زميلنا ما لم يكن يتوقعه : ” أنظر يا صديقي، رئيس وزراء الصين شوان لاي قادم بعد شهرين بزيارة رسمية إلى أفغانستان بدعوة من الحكومة الأفغانية، وستدوم الزيارة 4 أيام (تعتبر زيارة طويلة)، ومن المؤكد أنه سيطلب وبقوة إدارج فقرة في البيان المشترك، وسوف يكون من الصعب جداً مقاومة رغبتهم هذه، وإذا وافقنا وصدر البين المشترك ويتضمن موقفنا الجديد، فسوف يفسره الجميع على أنه رضوخ أفغانستان للسياسة الصينية. ومن أجل أن نتفادى ذلك قمنا بتوجيه الدعوة لوزير الخارجية اليوغسلافي (لاحظ اختيار يوغسلافيا) ونحن من طلب إدراج فقرة ” إدانة العدوان الأمريكي على الفيثنام ” في البيان المشترك وسط دهشة الجانب اليوغسلافي، الذي كان سيكتفي ببيان صحفي، ولا يصر على إدانة الولايات المتحدة.
يستطرد وزير الخارجية الأفغاني ” أننا بهذه المبادرة تجبنا الظهور بمظهر الرضوخ للطلب الصيني، حين تحل زيارة رئيس وزراء الصين بعد شهرين، وأن تغير الموقف هو بإرادتنا “.
الرجاء من القراء تخيل الحكمة والذكاء، في أخيار المواقف، وفي العمل السياسي ….. أتوقع أن ينطلق خيال القراء وسوف يقومون بأمثلة ومقارنات …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب