مقالات

لماذا انتسبت لحزب البعث ولم انتسب لغيره بقلم خالد ضياء الدين -الهدف السودانية –

خالد ضياء الدين -الهدف السودانية -

لماذا انتسبت لحزب البعث ولم انتسب لغيره
✍🏽خالد ضياء الدين -الهدف السودانية –
قرأت عن الماركسية وعايشت الحزب الشيوعي منذ أن وعيت، لاعتبارات أسرية فجزء من أقاربي كانوا قيادات في الحزب واعضاء في لجنته المركزية، وقد عايشت في طفولتي تداعيات انقلاب هاشم العطا وما تبعه من اعتقالات وإعدامات طالت بعض أقاربي وأصهارهم، لكنيْ لم أجد فيه مايشدني وقد كنت لا أشعر بدفء الفكر ولم يهز وجداني حديثهم وكنت أشعر بهم كمن يقرأ الإنجيل مترجمًا، مجرد تراتيل وألحان غريبة.
وأنا طفل صغير كنت أسمع كل يوم عبر المايكرفون من مسجد الخليفة أهلنا الأنصار يقرأون (راتب المهدي) فنسمعه في البيت بكل وضوح فبين منزلنا وجامع الخليفة (فركة كعب) وكنت أذهب لمشاهدة الفرق الأمدرمانية القديمة تتنافس في ساحة الخليفة ونفسيًا كان ميلي القلبي لفريق (قلب الأسد) ولم أفكر يومًا أن أكون حزب أمة بالرغم من تاريخ الأسرة المرتبط بمجاهدات جدي محمد عبد الرحيم في جيش الإمام المهدي وكتابته لتاريخ الثورة المهدية وقد تعلمت القراءة على كتبه التي كانت في مخزن خاص بالمنزل.
أخذت من المهدية إيمان عميق بالثورة ومقارعة الاستعمار، وأُعجبت بعقلية عثمان دقنة العسكرية، وكم تخيلت قامات قيادات جيوش المهدي وإقدامهم.
كنت ومازلت أردد مع المغني بتريد اللطام، وود حبوبة جمع الأنصار ، وماكان بنشنق ود أب كريق في السوق وغيرها من أغاني الحماسة المرتبطة بالثورة المهدية، فخرجت من كل ذلك الإرث المجيد بحب عميق لثورة المهدي ولبس العلى الله ولف العمامة على طريقة الانصار، غير إنيّ لم أشعر يومًا بارتباطها بحزب الأمة لذلك لم تراودني نفسي يومًا أن أكون حزب أمة.
أما الحقيقة التي يجب الاعتراف بها، أننيّ لم أعرف عن الحزب الاتحادي في طفولتي الكثير، وقد كان مرتبطًا عندي بمديح الختمية وبقراءات قديمة حول صراعات السياسة ومؤتمر الخريجيين واحداث ماقبل إعلان الاستقلال ورفع الازهري ورفاقه لعلم السودان في سارية القصر، ولا أقول عنه غير أنه كحزب لم يقتحم بيوت أم درمان القديمة ليكسب من شبابها وطلبتها، وكان يعتمد على التمدد وسط الأسر العريقة التي توارثت الولاء للطائفة وحزبها.
لقد ارتبط عندي الحزب الاتحادي وأنا صغير بالناس الطيبين وتجار السوق الأمدرمانيين الكرماء الذين يضعون صور السيد علي في صوالين منازلهم وجدران محالهم التجارية، لكنه كحزب كان أبعد من تفكيري لأننيّ كنت أبحث عن فكرة مكتوبة قابلة للنقاش والتأمل، حقيقة كانوا طيبين وأصحاب ذبائح يوزعونها على الفقراء لكن الأوطان لاتبنى بالطيبة فقط.
الإخوان المسلمون(الكيزان)
تابعت كل تلونهم السياسي وتغييرات جلدهم وعايشت مشاركتهم في أحداث 1976 وأنا طفل أعي أكثر من وعيي بأحداث 1971، وقد شهدت قوات تحالفهم مع حزب الامة والاتحاديين على (بكاسيهم)بمدافعها تمر بشارع العرضة شرقًا، وسمعت أصوات الرصاص المنهمر، وتمعنت في الوجوه المتربة القادمة من ليبيا عبر الصحراء الممتدة.. ومن ثم رأيت الجثث المتحللة في شارع الإذاعة و”كوامر” الشرطة في القسم الأوسط بأم درمان قبالة منزلنا محملة بالجثث المعطونة بالفنيك بعد جمعها من الشوارع في اليوم الرابع للمحاولة الانقلابية، بعدها وعينا أكثر فعرفت الترابي (عليه رحمة الله)من خلال مشاركته نظام مايو، ومصالحته بعد اشهر قليلة من فشل محاولتهم اسقاط نظام جعفر نميري بقوة السلاح، وكيف كانت عضوية حزبه تسيطر على الاتحادات الطلابية في الثانويات، وكيف كانت تدبج التقارير في الطلبة لصالح جهاز أمن نميري.
لم أشعر يومًا بأنهم يشبهوننا، ولاتفكيرهم وأسلوب تعاطيهم للسياسة يشبه تعاطي الأحزاب التي أعرفها، أيضًا لم أفكر في الانتساب للإخوان بكل مسمياتهم، بل كنت أجد بينيّ وبينهم حاجزًا نفسيًا لم أشعر به مع باقي الأحزاب وإن اختلفت معها.
ثم تعرفت على حزب البعث وأنا طالب في المتوسطة من خلال أخي الاكبر محمد وابن عمي محمود جمال “عليه الرحمة”، غير أن الذي اجتهد وحاول استقطابي للحزب وأنا في المرحلة الثانوية هو أخي أبوبكر الذي أرهقته أيما إرهاق، فبحكم انتسابهم توفرت لي أعداد من أدبيات الحزب على قلتها في ذلك الزمان، وقد شدتني كتابات القائد المؤسس الذي كنت أجده فيلسوفًا وأديبًا تنساب أفكاره بسلاسة وتذوب في الوجدان.
كان أبوبكر يطلب منيّ كتابة طلب انتساب وكنت على قناعة بأن علاقتي مع حزب البعث مثل علاقتي مع أبي لا تحتاج شهادة ميلاد لأثبت انتمائي له(هكذا كنت أقول)، وقد كنت في ذلك الوقت مولعًا بسارتر وأقرأ ليوسف السباعي ويأثرني تلستوي وغابريل غارسيا ماركيز وغيرهم، وهذا لا يعني انني لم اكن اقرأ مجلة سمر والموعد واخر ساعة، لكن وفي عز هذا التنقل المعرفي اقتحم فجأة هذا الميشيل عفلق عالمي ليغير تفكيري، فكنت أحفظ كتاباته لأنه كان يتناول السياسة من زاوية إبداعية لامست وجداني وعقلي.. كانت عندي عادة أن اثني الصفحة التي أجد فيها تعبيرًا جميلًا أو حديثًا مقنعًا لأعود إليها مرة أخرى، لكنيّ تركت هذه العادة من بعد قراءتي لكتب عفلق لأننيّ وجدت نفسي اثني أغلب صفحات الكتاب فاستعضت عنها بقلم أرسم به علامات أو أكتب به على هامش الصفحات.. (هذا الرجل عبقري لو كان في أوروبا لنصبت له التماثيل ودرست أفكاره في مراحل التعليم المختلفة ولاحتفت به كل أوروبا).
لقد وجدت في فكر البعث الموقف الصحيح من الدين الإسلامي فكانت مقولات القائد المؤسس قلادات في صدر من ينتسب لفكر الثورة العربية.
أيضًا عرفت من خلاله الإيمان بالجماهير والثقة فيها وأنها صاحبة المصلحة في التغيير وهي نفسها أداة التغيير، تعلمت كيف أسخر جهدي وملكاتي مهما كانت لخدمة الفقراء، وأن أقف في وجه الاستغلال البشع للرأسمالية المحلية الجشعة المرتبطة بالاستعمار.
عرفت في حزب البعث أن المحبة عنوان الرفقة، وأن التضحية لها طعم غير الذي تبدو عليه، وأن الرفيق هو السند الذي يضحي بروحه لأجلك، وأننا بحق أرواح متجانسة في جسد التنظيم الواحد.
وجدت في فكر البعث أنفاس التاريخ المجيد الذي يحتاج إلى إحياء، واقتنعت بأن الرسالة الخالدة شرف انتماء، وكنت كلما تمعنت في رؤية القائد المؤسس للرسالة الخالدة تبدو أمامي حدائق وبساتين وألوان مختلفة في الورود والرياحين، فتجلت عندي الرسالة الخالدة وعندما تخللت مسامي صارتني وصرتها مع تواضع قدرتي على تجسيدها كما يجب ان تكون، لكنه جهد المحب وقبول المحبوب، ووالله إنيّ أصدقكم القول، أن الرسالة الخالدة عندي عندما أذكرها كأنها فضاءات من الفردوس.
أحببت في حزب البعث تجربة العراق التي كانت ماثلة أمامي، وقصص ومواقف صدام حسين وقيادات البعث، تعرفت على الياس فرح وشبلي العيسمي وغيرهم من خلال كتاباتهم، وفي السودان كنت لصيقًا بنضالات الرفاق، عايشت أحداث دللت على إيمان وصمود وبسالة لم أشهدها ولم أسمع بها من قبل.
كنت أرى أجساد الرفاق المطلق سراحهم حديثًا وكيف تقطعت بسياط الجلاد في معتقلات “مايو” وهم يحكون عن قصص عجيبة وأحداث أريد بها كسر شوكتهم..كنت ألمح بساطة الوجوه وقوة ملامح الصمود فيها، إنه الإيمان بالفكر والعقيدة، وهنا لا استطيع ان اتجاوز محاكمة رفاق وكر الفتيحاب.
لقد قضيت عامان من عمري أبحث وأقرأ لحزب البعث وأعايش تجربته عن كثب، وقد كنت أشارك البعثيين تأمين الوثائق والبيانات، وأنفذ بعض التكليفات المرتبطة بالفعاليات، وعندما قررت الانتساب لحزب البعث كانت قناعاتي الفكرية قد اكتملت وتحولت من مجرد إعجاب إلى إيمان وقناعة بالعمل لأجل بعث هذه الأفكار وربطها بواقعنا القطري والقومي، آمنت بالبعث طريقًا للتحول وأننا كبعثيين قد اختارنا قدر أمتنا أن نكون بذور للوحدة والحرية والاشتراكية، فرحنا ننتشر في ربوع الوطن ندفن أنفسنا في تربته حتى جاء وقت ظهور طلعنا وطلائعنا فملانا الوطن (قمحًا ووعدًا وتمني).
انتسبت فوجدت من سبقوني قدوة حسنة ومناضلين أفنوا زهرة حياتهم في خدمة شعبهم دون مقابل.
وجدت البعثي حقًا أول من يضحي وآخر من يستفيد، ووجدت البعث حزب الفطرة السليمة التي أستطيع أن ألقى الله به، لا ملحدًا ولا سارقًا ولا باعثًا بالشر.. لامخادعًا ولا منافقًا، لا مناديًا بالفرقة ولا بائعًا للوطن.
سألقى الله إن شاء الله بعثي محب لدينه وإنسانه، قدوتي محمد الذي يقول البعث علينا أن نتمثل حياته،
سألقى الله إن شاء الله وقد قدمت للفقراء جهدي ولاقيت لأجلهم الاعتقال والتشريد والعنت.
لقد تعلمت من فكر البعث الذي عصمني في شبابي من الطيش، وقد تعلمت منه الرفقة الحسنة، ومنعني من الجري وراء ملذات الدنيا، فمن خلال إطلاعي آمنت بأن البعثي الذي يجب أن يناضل من أجل القيم لايمكن أن يكون بعثيًا حقيقيًا إلا إذا جنب نفسه الوقوع في شباك هوى النفس ورفقة السوء، وبرغم السنين التي مرت مازلت مؤمنًا بأن البعثي ماهو الا قديسًا ثائرًا وشيخًا ورعًا، وفي ذلك فليتنافس البعثيون، وصولًا لحالة البعثي التي قال القائد المؤسس أنه لم يبلغها بعد.
انتسبت لحزب البعث فزادت قناعتي بأنه الطريق الصحيح، كيف لا وأنا أشاهد صدام حسين يغادر الدنيا ولم يورث من بعده لامنزلًا ولا مبلغًا ماليًا وقد قالت بنته رغد أنه قال ليها(يارغد يابنتي حالكم حال العراقيين، ليس لكم مايميزكم عن غيركم).
تم اغتيال قيادات البعث ولم يعثر على مايدينهم بسرقة المال العام.. وحتى لا نذهب بعيدًا كما يظن البعض، أحيلكم لحال رفاقنا الذين شغلوا مناصب في الدولة ودونكم البروف صديق تاور، والوزير والوالي د. يوسف آدم الضي، وعضو لجنة إزالة التمكين وجدي صالح، وغيرهم من الذين غادروا الحكومة الانتقالية بعد انقلاب البرهان وحميدتي، وهم الآن من أفقر أبناء شعبنا، لم يسرقوا ولم يجنبوا المال العام لصالحهم، لم يشتروا الأراضي ليسجلوها بأسماء وهمية كما فعل الذين سبقوهم.
إنهم رفاق البعث الذين أدبهم هذا الفكر وصقلهم التنظيم فعفت ألسنتهم وأعماهم فكرهم العظيم من النظر إلى غير أهداف الشعب.
انتسبت لحزب البعث دون غيره لأنه حزب الذين حببهم الله لعمل الخير وحببهم للخير، وهو حزب الذين قضوا نحبهم من أجل الخير ومنهم من ينتظر، ولأنه الحزب الذي لم يخطئ في حق الشعب والأمة أي خطأ استراتيجي، وأنه الحزب الذي يملك القوة أن ينتقد نفسه ويقبل انتقاد الآخرين بصدر رحب وأنه متى ماوجد الحق يتجه إليه ،
انتسبت إليه ورددت قسم الولاء، وقررت الاستمرار على المشي على أثر من سبقوني في هذا الطريق، إما انتصرنا، أو سلمنا راية البعث للأجيال اللاحقة وأنها لثورة حتى تتحقق إرادة الأمة، وأنه لطريق محفوف بالأشواك نمضي فيه حفاة، لكنا حتمًا سنبلغ منتهاه لنردد جميعًا في كل أقطارنا:
أمة عربية واحدة
ذات رسالة خالدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب