مقالات

الصراع الأيديولوجي عشية انتخاب بابا روما الجديد

الصراع الأيديولوجي عشية انتخاب بابا روما الجديد

وسام سعادة

تشهد الكنيسة الكاثوليكية في اللحظة المسماة تقليديا «خلو الكرسي»، والتي تفصل اليوم ما بين وداع البابا فرانسيس وتجهّز مجمع الكرادلة لانتخاب الخلف مطلع الشهر المقبل، استنفاراً محتدماً لتيارات أيديولوجية، أكثر مما هي ثيولوجية، ولو تمازج البعدان.
بمعنى أنها تيارات تعكس – وإلى حد كبير – الخطوط العريضة للاستقطاب الأيديولوجي في عالم اليوم، داخل وخارج الكثلكة. فهذا الاستقطاب عابر للفضاءات الثقافية المختلفة، شمال العالم وجنوبه على حد سواء، وإن اختلفت الأوجه وعناصر الارتكاز.
فالتيار المحافظ داخل المؤسسة الكنسية هو جزء من الشبكة العالمية للقوى والأفكار المحافظة. لا يعني أنه ليس للمحافظة الكاثوليكية سياقها الخاص، وهذا يتصل بالدفاع عن نظرة مركزية هرمية للكنيسة، وللتقاليد الرومانية – اللاتينية فيها، لا سيما على مستوى الليثورجيا.
والتيار التقدمي الاصلاحي يمت بذي صلة لعموم التيارات التقدمية، المزاوِجة في كل مكان، وإن بمقادير مختلفة، بين شيء من الليبرالية، وبين شيء من الحساسية الاجتماعية والبيئية، على مستوى العالم. ولا يعني هذا أنه ليس للخط التقدمي ضمن الكثلكة سياقه الكنسي واللاهوتي الخاص.
فالنزعة التقدمية، «يسار الكنيسة»، تنطلق من التصور «السينودالي» للإصلاح فيها. يُنظر اليها على أنها تساوي مجموع المؤمنين، «شعب الله»، سواء كانوا إكليركيين أو علمانيين، ومن هذا المنطلق يطالب التقدميّون بضخ الديمقراطية إليها كمفهوم، ولها كمؤسسة جامعة، وإلى مجمل أروقتها وقنواتها. توسيع مساحة المشاركة، والاقتراب أكثر فأكثر من تصور أفقي للتنظيم الكنسي.
بالنسبة للخط المحافظ، الكنيسة هي قبل شيء آخر تقليد تتوارثه وتراكمه الأجيال، ولا يحضر المقدس إلا بواسطة هذا التراكم، ومعه، هذه الأبهة الملكية. فهي كيان روحي متجاوز للزمان والمكان. وبالتالي ينبغي التحفظ على كل من يريد أن يُعمِل في هذا التاريخ لحظة «قطيعة ثورية». بالتالي، ثمة ضرورة لأجل النأي بالتعاليم الراكزة والمتوارثة عمّا قد يراود جيلا من الأجيال من شبهات وشهوات وصيحات، إذ لا يحق لهذا الجيل أو ذاك مصادرة صنيع ما سبقه على مرّ الأجيال، ولا حق الأجيال التالية في أخذ التركة نفسها عمّن سبق. بالنسبة إلى الخط المحافظ، الكنيسة ليست مجموع المؤمنين فيها، ومفهوم «شعب الله» كان تحريكه أساساً للانشقاق البروتستانتي، فأنى له أن يتحكم بمرجعية روما نفسها الآن؟ الكنيسة عند المحافظين هي «مدينة الله على الأرض» وليست – فقط – «شعب الله»، أي مجتمع يسعى لتحقيق إرادة الله في العالم. هي مؤسسة إلهية مؤسّسة من قبل المسيح، مع سلطان تعليمي، هرمي، مركزي، موحى به، والبابوات والأساقفة يعتبرون خلفاء الرسل.
هناك، بطبيعة الحال، الأكثر قصوية ووثوقية، مثلما هناك الأكثر اعتدالا واحترازاً، سواء في هذا الفريق أو في ذاك. وهناك تيارات أخرى لا يسهل ربطها مباشرة بالاستقطاب الأيديولوجي العالمي. مثل الحركات الكاريزماتية. وهذه تفرد أهمية خاصة لتنشيط الدين الشعبي، لإعادة ضخ الحرارة الدينية، وهذا يتطلب التسويق لأفراد يصنفون بالكاريزماتيين، تنسب إليهم قدرات خاصة لشفاء المرضى وإحداث معجزات.

لم تكن لفرنسيس قدرات سلفيه اللاهوتية والفكرية، لكنه كان قادرا على الإدراك أكثر بأن واقع الكثلكة لم يعد قادرا على تهميش واقعة أن معظم معتنقيها من الجنوب العالمي، ولهم مصلحة فعلية في إثارة القضايا الاجتماعية

التناقض في منطق المحافظين وبين الكاريزماتيين يمكن التعبير عنه، مع شيء من المجازفة بأنه، وفي حين ينبري المحافظون للدفاع عما يعتبرونه «قانوناً طبيعياً»، على مستوى تصنيف الجنسين، وضبط العلاقة بينهما، والموقف الرافض من زواج المثليين والإجهاض والموت الرحيم، فإن «منطق» الكاريزماتيين يرى إلى أن عودة الروح للمسيحية مشروطة بتجديد «خرق المعتاد / الطبيعي»، خرق قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، من موقع حرارة الإيمان.
يبقى أن الكاريزماتية هي الحليف الموضوعي للمحافظين في وجه الخط المتهم في مصادره التنويرية- العقلانية داخل المسيحية. إنما، مسعى التيار المحافظ هو في الوقت نفسه لضبط غلواء هذه الجماعات.
وعلى الرغم من الكثير الذي يكتب حول ثنائية جنوب وشمال عالميين داخل الكثلكة، إلا أن كاثوليك جنوب العالم يشكلون التربة الخصبة اليوم لشيوع الكاريزماتية، وليس لازدهار لا السينودالية الكاثوليكية «اليسارية» ولا لانبعاث «لاهوت التحرير».
الفيليبين هي مركز الحماسة الكاريزماتية في العالم الكاثوليكي اليوم. والنزعة بدأت تغلب على كاثوليكيي أفريقيا. وحتى في البرازيل، رغم أن السمة العامة فيها هي لهجران الملايين للكثلكة في اتجاه الجماعات الانجيلية «البروتستانتية». ارتفعت نسبة الإنجيليين في البرازيل من خمسة بالمئة مطلع السبعينيات من القرن الماضي إلى الثلث اليوم، وقد ساهمت الهجرة من المناطق الريفية إلى المدن الكبرى في زيادة عدد الإنجيليين، حيث وجدوا في الكنائس المستجدة ملاذاً نفسياً واجتماعياً. يضاف اليها، انتشار الديانات الأفرو ـ برازيلية التي بدأت تتبلور في بحر القرن التاسع عشر، شأن الكاندومبلي، وهي تجمع بين المعتقدات الأرواحية الأفريقية التقليدية والعناصر المسيحية، والأكسوم، والأومباندا. ديانات تخليطية تميل إلى المماهاة بين الشخصية المريمية وبين إلهة الأنهار والمياه العذبة، وتعول في الكثير على الرقص والموسيقى في طقوسها. لا تكمن مشكلة هذه الديانات التخليطية في المنافسة الديموغرافية، كما في حال الجماعات الإنجيلية، لكن في صعوبة حصرها: هناك بضعة ملايين من المعتنقين لها، لكن هناك مساحة أوسع من المتأثرين فيها، وهي تضفي بتأثيرها على الكاثوليك أنفسهم، لا سيما من البشرة السوداء.
لا يجعل هذا من ثنائية «يسار ويمين» داخل عالم الكثلكة لاغية. لكنها ليست موجودة في كل مكان. في الفيليبين، هي غير موجودة، لصالح الجماعات الكاريزماتية، التي تعود للثوابت المحافظة في نهاية المطاف، ولو من بعد التفافة طويلة. في بولندا، هي ثنائية غير موجودة، لصالح غلبة المحافظين. المكان الذي تبرز فيه هذه الثنائية أكثر هي بين كاثوليك الولايات المتحدة أولا، بين كاثوليك أمريكا اللاتينية ثانياً. تسييس قضايا الحقوق، في أمريكا الشمالية، واختلاط قضايا الحقوق بالموقف من السياسات النيوليبرالية، في أمريكا الجنوبية، هو الذي يعطي، ولو بمنحيين مختلفين، مكانة لهذه الثنائية. وهذا غيض من فيض انزياح ثنائية يمين ويسار في اتجاه الجزء الغربي من الكرة الأرضية، في مقابل ضبابيتها في قارات العالم القديم أكثر فأكثر.
يشكل رحيل البابا فرنسيس مناسبة لظهور هذه التناقضات ضمن العالم الكاثوليكي بشكل أكثر جسارة ووضوحاً من ذي قبل. وفرنسيس أول بابا يأتي من الرهبنة اليسوعية، لم يأت في الأساس من يسار الكنيسة، بمفهوم عصر الحرب الباردة، أي تجارب لاهوت التحرير حين كانت تعج بها أمريكا اللاتينية. بالعكس. واجهها في حينه. لكنه في الوقت نفسه، تحول سريعاً من تبوئه السدة عام 2013 إلى رمز شاخص للكاثوليكية ذات النزعة التقدمية، ولو كان بشكل معتدل، ظل يتيح له إمساك العصا من وسطها، وتحاشي الدخول في أزمات حادة، مع من هم على يساره، وبالأخص مع من هم على يمينه. لم تكن لفرنسيس قدرات سلفيه اللاهوتية والفكرية، لكنه كان قادرا على الإدراك أكثر بأن واقع الكثلكة لم يعد قادرا على تهميش واقعة أن معظم معتنقيها من الجنوب العالمي، ولهم مصلحة فعلية في إثارة القضايا الاجتماعية والأيكولوجية. هذا مع أن كاثوليك الجنوب العالمي يُجتذبون أكثر بالحركات الكاريزماتية، وهذه تشبك مع القوى المحافظة في نهاية التحليل. بقي أن البابا الراحل استطاع تعيين معظم الكرادلة الناخبين لخلفه، ما زاد نسبة حضور الآتين من الجنوب العالمي بينهم، ورفع في الوقت نفسه من نسبة ذوي التوجهات «التقدمية». لكن الغلبة، هي على الأرجح، لمن بمستطاعه، أقله، لحظة انتخابه، أن يقنع المجمع، بأنه قادر على إمساك العصا من وسطها، هو أيضا.

كاتب وصحافي لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب