ثقافة وفنون

معجزات الكسل الإبداعي

معجزات الكسل الإبداعي

شهد الراوي

كان أحد معارفنا مشهوراً بصفة الكسل، حتى أصبح مضرب الأمثال في العائلة لكسله الإبداعي المفرط. وما دفعني لوصفه بـ «الإبداعي» قدرته اللافتة على اختلاق قصة جديدة كل مرة لتجنب القيام بالعمل ذاته!
كانت حججه المتواترة مسبوكة جيداً، لا يمكن لأحد مهما بلغ ذكاؤه دحضها. وبصراحة، لا أعرف حتى الآن كيف نجح في حياته المهنية على هذا النحو؟ فهو يؤجل كل شيء تقريباً، مستغرقاً في تأملاته، ساهماً في اللاشيء. وعندما يسألونه بم تفكر، يجيب بإيماءة تثير في النفس النعاس والرغبة في الاستلقاء؛ إذ إن طريقته في إنجاز الأمور تخضع لشيفرة سرية يستجيب لها هو فقط، فكلما ألحت عليه قضية مستعجلة، يتحرك في الدقيقة الأخيرة وينجو!
والغريب في الأمر أنه حقق إنجازات تستوجب عمراً إضافياً لإنجازها في تأن لذيذ وبطء متبجح.
وعن كسله المزمن، كتبَ الروائي أنطونيو سكارميتا، في مقدمة روايته الرائعة «ساعي بريد نيرودا» أنهُ تأخر في كتابة روايته الذائعة الصيت أربعة عشر عاماً، فيما أنجز مجايله يوسا خمس روايات حققت نجاحاً ساحقاً. كان يعد سكارميتا على أصابعه إنجازات أصدقائه تحت أغطية فراشه الدافئ، مثلما فعلَ ديكارت مع مؤلفاته. وربما من حيث لا يعلم، جعلَ سكارميتا بطله «ماريو» يعاني من نفس صفة الكسل هذه؛ في ميله الواضح للزكام المتكلف، والتمارض الذي لا ينتهي.
للكسل أنماط متنوعة، يؤدي بعضها إلى إفساد مستقبل وجسد من يسلكها، لكننا نستطيع أن نحملها أيضاً محمولات أخرى من تاريخ بعض الكسالى الذين استطاعوا أن يتركوا بصمتهم في التاريخ، وخاصة على المستوى الإبداعي. ففي كثير من الأحيان، يأخذ نمط الحياة المختلف عن المتعارف عليه شكلاً من أشكال الكسل، لكنه في طبيعته المتمهلة واللامبالية، يتناسب عكسياً مع جودة الإنتاج؛ إذ ينتج نمطاً غيرياً في سرعة الوصول إلى أفضل نموذج. فقد تعود الفيلسوف الألماني أدموند هوسرل، على ترك أي بحث يشرع فيه لطلبته، فيمنحهم مهمة إنجازه مع ملاحظاته الأخيرة، ذلك لأنه يتمتع ببراعة الشطب الذي يفضي إلى سحر التكثيف.
هذا النوع الفريد مما نسميه الكسل أيضاً هو حالة استثنائية تخص بعض العباقرة. فهم أثناء لحظات الإنتاج التي تبدو موجزة، يبدون تركيزاً خارقاً. ومثلما كانَ سكارميتا يتكاسل في الكتابة؛ كتب رواية غيرت شكل الأدب اللاتيني إلى الأبد. وبوذا في جلوسه متأملاً فاضَ بالمعجزات، «إذ إن مفهوم المعجزة دائماً ينطوي على جهد غير منظور»؛ كانَ قريبنا يوحي إلى أهله وأقاربه بأنهم لو تركوه نائماً دونَ إزعاج لحقق لهم العجائب؛ تيمناً بواحدة من كرامات جده الشيخ رجب الرفاعي، الذي تم توثيق حياته في كتاب «بلوغ الإرب في ترجمة الشيخ رجب وذريتهُ أهل الحسب». ويوثق هذا الكتاب أغلب كرامات ومعجزات الشيخ رجب الراوي الرفاعي، الذي لم يزل مرقده في محافظة الأنبار -قضاء راوة تحديداً-مزاراً لجميع أهالي تلك المنطقة، يتبركون بزيارته وينذرون النذور، ويسألونه الشفاعة. وقد تستنتج من هذا الكتاب حقيقة أن أغلب كراماته ومعجزاته لا تستدعي أي مجهود بدني، بل على العكس، فإن أغلب الكرامات كانت تجري وهو مستلقٍ، معتكفاً كان أم نائماً، ينسرب الحلم منهُ إلى الواقع، فتنبجس عيون الماء من حوله أثناء قيلولته، ليبدأ الناس بالتهليل والتكبير حتى يستيقظ محروماً من لحظات النوم اللذيذة. والأمر لا ينطبق على جدي السيد رجب الرفاعي فقط، بل على أغلب ممارسات الديانات الشنتوية والهرمسية والغنوصية وغيرها التي لا تخلو من نزعة صوفية واضحة.
لطالما شغلني هذا السؤال: ما هي الوشيجة السرية التي تربط بين الاسترخاء وإنتاج الروائع العجيبة؟ ربما لأن الجسد في حالة الاسترخاء يحول كل مزاياه الفذة إلى العقل، ليشرع الأخير بالعمل المضاعف، ولا سيما أن أغلب الأمثلة التي ذكرتها لا تشير بالضرورة إلى الكسل، لكنها لثغة مجتمعية تدربت طويلاً على فكرة أن الكسل رديف الخمول الجسدي، وهذا قطعاً ليس صحيحاً.
في النهاية، أصبح قريبنا الموشوم بالكسل من الشخصيات التي طورت أهم التطبيقات في العالم الافتراضي؛ فتسليته الوحيدة المشروطة بالاسترخاء الجسدي استطاعت أن تجلب لهُ ثروة كبيرة دون أن يجازف بتحريك رأسه على أقل تقدير. فمرحباً بنا ونحن ندخل حقبة جديدة من الغزاة الكسالى، الذين ساهموا في تغيير شكل حياتنا وهم يجلسون خلف أجهزة الحاسوب المجيدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب