ثقافة وفنون

في فخّ التشاؤل

في فخّ التشاؤل

ناتالي الخوري غريب

أتذكرون ريّان؟ ذلك الوجه الجميل لطفل أسمر يلهو في إحدى قرى المغرب، ووقع في البئر، انتظرنا جميعا لحظة إنقاذه بعد تكثيف الجهود، لكنّه مثل حظّ الإنسانيّة المتعثّرة وقد سقطت في البئر، هذا ما يمثّله ريّان وعلينا أن نعترف بأن العالم كلّه صار بئرا ونحن عالقون فيه. وجه ريّان هو الوجه القابع في كلّ إنسان منّا، نحن الذي تعثّرنا وسقطنا في البئر وننتظر من يساعدنا على الخروج منه. قلوب العالم كلّها سقطت مع ريّان في البئر، ولم تخرج إلا البارحة، بعد إنقاذ طفل آخر سقط في البئر أيضا، لكنّ حظّه انتشله، فكان لنا فخّ التشاؤل
لا بدّ من ضوء في الأفق، غدا أجمل، النور لا يأتي إلا بعد العتمة، عبارات تعلّمناها من تراثنا الشعبي الاجتماعي، نردّدها لأنفسنا نوعا من السعي رغم خيبة المسعى، سبيلا إلى حياة هنيّة. نلجأ إلى اللغة المراوغة لتقبّل هزائمنا، لتجاوزها. نبحث عن خبر مفرح يحررنا من حفرة نعي وقوعنا فيها، في فيلم، في رواية، في نشرة أخبار محلية أو عالمية، لكن الواقع يخبّر عن نفسه، حروب وأزمات وأوبئة ثورات تعقد عليها الآمال وما زلنا ننتظر ثمارها. في نظرة سريعة إلى الروايات التي كتبت بين الستينيات والثمانينيات، والتي تظهر بشكل عام البنية الفكرية التي حكمت النظم الاجتماعية والحياتية والنفسية للناس في البلاد العربية، ووعي علاقتهم بأنفسهم وبالآخر، نجد التشاؤل سمة ملازمة للكاتب العربي وشخصياته ضمنا.

نبدأ مع إميل حبيبي رائد هذا المصطلح، بعنوان روايته المتشائل، عن شخصية سعيد أبي النحس المتشائل، على الرغم من النزعة الساخرة في معالجة موضوعه، إلا أنّه أظهر البنية العميقة للفكر المتشائل، من خلال عرب 48 ونكسة 67.. يحاول سعيد غير السعيد، كما يعكس اسمه عبر المفارقة والتهكّم أن يظهر صراعا يعيشه بين الخضوع والمقاومة، التباس قراءة الذات، الخضوع للآخر، الذي يمثل صورة المحتل، مغتصب الأرض، والثائر الضمني الذي ينتظر فرصة وقد يظهر بصورة الانتهازي، فيسأل نفسه تكرارا: «أمتشائم أنا أم متفائل؟ أقوم في الصباح من نومي، فأحمد الله على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروه في يومي، أحمده على أنّ الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا؟ أمتشائم أم متفائل. هذا ما يجعل التشاؤل صورة لصراعات الإنسان الأخلاقية والنفسية والاجتماعية، في الترجّح بين مواجهة الحقيقة القاسية وتقبلها، والأمل في مقاومتها ووعي هذه التحولات في كل مرحلة من حياته. لكنّها حالة من الالتباس في قراءة الواقع وتاليا الانفصال عنه، خاصة ما ورد على لسان أمّه المتشائلة، حين جاءها خبر موت ابنها وقد أعادوه بلا رأس وأحشاء: «مليح صار هكذا وما صار غير شكل». أيّ غير شكل أسوأ؟
وعي الآخر في رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري، ضمن الخط المتشائل للإنسان العربي، لا يعرف سببا للتفاؤل أو للتشاؤم، مصراً على العيش كيفما اتفق. فجاء تجميد المشاعر لعدم عيش الصراع، وعدم جعلها أولوية، والاهتمام بفورة الجسد والانغماس فيه، والغرق في الظلم والفقر. تكفي عبارة رفاق المزابل، تصوّر الأولاد الذين يبحثون عن كسرة خبر في المزابل، على قسوتها رققها الكاتب بالرفاق، ومقتل أخيه على يد أبيه جعله الكاتب، رأفة. هو التشاؤل الذي يجعل الإنسان يلتبس في قراءة الحدث، أيّ حدث، فيقارب الحياة موتا والموت حياة. وعي الآخر في «موسم الهجرة إلى الشمال»، جاء في اتجاهين، العربي والغربي: شخصية مصطفى سعيد، بين الجنوب والشمال، السودان وبريطانيا، لا فرح ولا حزن، انعدام الشعور بالذات. يظهر التشاؤل هنا في الهروب الدائم من أمر ما، ربما هو الهروب من المواجهة مع الذات، والانتماء الضائع. في «عرس بغل» للطاهر وطّار، بدا التشاؤل كطرفي قوس مشدود عند البطل الشيخ كيان، بين الماخور في أيام الأٍسبوع، والمقبرة والتفرغ لتأملات الصوفية في نهاية الأسبوع، لكنه أظهره بقالب معكوس، فجعل التفاؤل في المقبرة، حيث العزلة ضرورة ليستمر في الحياة.

معظم روايات هذه المرحلة اتسمّت بالانهزامية، وارتبطت بالفحش وانتشار المواخير، وأنظمتها وقوانينها وروّادها. وكأنّ التعبير عن هذا الانهزام السياسي والاجتماعي استبدله أبطاله المتشائلون بالانتصار في المواخير على النساء. أمّا في الرواية العربية المعاصرة، ومن دون التوقف عند رواية بعينها، فنجد أنّ الانهزام ترجم إلى أصولية دينية وتاليا سجّلت الانتصارات في مقابل الهزيمة تفنّنا في القتل والدمار. صورة الآخر، هو الأخ العدو، فرّقتهم السياسة ليصبح الإخوة أعداء، يكفي أن نتوقّف عند رواية «بيت حدد» لفادي عزّام، هذه الرواية المجبولة بسردية القهر والصراع والظلم، لنجد صورة الآخر في ابن البلد عينه الذي صار عدوّا لأخيه. موقع الإنسان العربي من كل ما يجري؟ الغد؟ لا أحد يضمن بقاءه. المجهول يعيش معنا. الحدث ننتظره من دون أن نعرف من أين سيأتي. من أيّ طريق، سيأتي. ما يجري أمام العالم، كلّ العالم في غزة وسوريا، يجعلنا نتساءل بوتيرة ملحّة: هل نحن موتى أم أحياء؟ هل من عدالة حقا؟ إلى متى سنكرر مع والدة بطل أميل حبيبي بعد كلّ مأساة، منيح ما صار أسوأ.
نهرب من الواقع وأزماته المتلاحقة، إلى عالم الروايات، فتعيدنا خيالات كتّابها إلى ما كنا قد هربنا منه، إعادة تدوير الحدث، هو الوقوع في فخّ التشاؤل، التمسّك بالأمل مصيدة النهايات، والتمسّك بالاستسلام مصيدة البدايات. بعضهم يسقطون في البئر وتكتب لهم النجاة، وبعضهم يسقطون ولا نجاة.

أكاديميّة لبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب