ثقافة وفنون

مسرحة الكلام في وداع الأحبة

مسرحة الكلام في وداع الأحبة

توفيق قريرة

نميل في الكلام اليومي العادي إلى المسرحة، وذلك بأن نضفي على نطقنا للكلام بعدا مسرحيا، حتّى لكأنّنا نلقي نصا على الركح، ونوظف لذلك الإلقاء النبرة والإيقاع والحركات والإيماءات، وغيرها من العناصر العلامية، التي تكون عونا لعملية التلفظ. وبالمسرحة يراد لنا أن نؤثّر في المستمع. ويمكن أن نرى المسرحة بشكل لافت في خطابات معينة مقصودة، وأبرزها الخطابات السياسية التي يحاول أصحابها أن يأسروا ألباب مخاطبيهم؛ وقد نجدها في سرد القصاصين الذين يغيرون الأصوات والنبرات، ويعبثون بالأفئدة إخافة وإبهاجا. ويمكن أن نجد هذه المسرحة في الخطابات المتشنجة، خطابات الخصومات وغيرها من الخطابات. هذا الضرب من الخطابات تكون فيه المسرحة مطلوبة لإنجاز ما تهدف الرسالة إليه، لكنّ الكلام اليومي مليء بالمسرحة.
الإخراج التلفظي، أو المشهد التلفظي، استعمالان لسانيان يدوران في فلك فكرة مشتركة تتمثّل في أنّ التلفظ، أي التحادث في سياق مخصوص لمدّة معلومة، هو فعل مسرحي بامتياز. أوّل أشكال الإخراج التلفظي ومسرحة الكلام، أنّ المتكلم وهو يخاطب غيره في سياق معلوم، يحاول أن يعطي لكلامه تشكيلا في الفضاء، بأن يتحدّث، ولكن بشكل حيويّ. نحن حين نتكلم مع أي شخص، نعطيه من خلال توقيع صوتنا مكانته التي هي عندنا بيننا وبين أنفسنا في ذلك الوقت من إنجاز الكلام. في عبارة عادية تقول الأمّ: (لا عليك يا حبيبي.. ستعود إلى أمك مظفّرا). هذا القول حين توقعه الأمّ التي تودّع ابنها الذاهب إلى الدراسة في مكان بعيد، لن تكون خالية من مسرحة. هذا القول حين يعاد تمثيله في المسرح لا يمكن أن يتقنه إلاّ من أحسن تقمّص دور الأمّ، لكنّ الأمّ وهي تقول لولدها الشابّ المغادر إلى الدراسة هذا الكلام لا تتقمّص، هي تحيا بالصوت وبالنبرة وبالإيقاع حالة وجدانية نادرة تشربها الكلام وتكسوها العبارة بالإيقاع النغميّ المناسب لها. الأمّ وهي تتكلم تمسرح الكلام لكنّها لا تتقمص دورا هي تؤدّيه بالسليقة، ولكن بشكل مسرحي رائع. جميلة عبارة التقمص ومناسبة جدا لأنّها مشتقة من لباس قميص ليس لك؛ بل هو قميص بات وأنت تلبسه – على مقاسك. هو لم يكن لك أوّل الأمر لكنّك حين وضعته ناسبك، وحين تشكل به جسدك لاءمه. كذلك الممثل وهو يضع على المسرح قميص الكلام يلبسه وكأنّه هو من نسج له أوّل مرّة؛ يقول العبارة وكأنّها خلقت لأوّل مرّة على لسان قائل لها في وضعيتها الأصلية. عبارة التقمص في مسرحة الأمّ وهي تقول ما تقوله لابنها، ليست مناسبة لأنّ الأمّ هي من نسج الكلام وهي من يلبسه على المقاس، وكأنّه حيك لها هي دون غيرها. فإذا أرادت ممثلة أن تمثل دورها تقمصت هذا الدور، وكأنّها أمّ، وكأنّها منتظرة من فلذة كبدها نجاحا بعد الغياب؛ لكنّها ليست أمّا وليست منتظرة في الواقع شيئا.

مسرحة الكلام عند النسج الأوّل ليس كمسرحته بعد ذلك بالمحاكاة، لكن من علّم الأمّ أن تقول ذلك القول بالطريقة المشكَّلة التي تهتزّ لها نفس سامعها المباشر، أو سامعها البعيد؟ نحن لا نتعلم الكلام معزولا عن حالاته ووضعياته، والكلام لم يكن البتّة معزولا عن الحالات النفسية والذهنية التي تنتجه، ولذلك تعلّمت الأمّ قبل أن تكون أمّا أن تقول عبارات تقال في مناسبات التوديع. هذه الحياة تجعلك بتجاربها المتعددة تعيش وضعيات مشابهة، وتقول لها كلاما مشابها لكنّك وأنت تعيد إنتاج الكلام في تلكم الوضعيات المشابهة تعيده بملامسك وببصماتك الخاصة، لأنّك أنت الفرد المميز في تلك اللحظة المميزة، تقول ذلك الكلام لذات مميزة في سياق لا تعلمه إلاّ أنت وهو. الكلام يعاد، والوضعيات تتكرر، ومشاهد السفر والهجرة والبعد يعاد، والأولاد المفارقون لأمهاتهم كثر، ومشاهد الوداع وأمل اللقاء كثيرة، لكنّها رغم تكررها تعيد تشكيل الأثر نفسه أو أكثر، وتدمع العين لمن كان شاعرا بوطأتها، فقط لأنّ الأمّ هي أمّ فريدة في تلك الوضعية، وأنّ كلامها هو فريد فيها، وأنّ أذن ابنها فريدة في سماعها، لذلك هي تعيد تشكيل الكلام المكرر بنبرتها، وبإيقاعها وبلحظتها وبوجدانها ساعتها، فهي إذن تمسرح الكلام، وكأنّه لا وجود لمن قال ذلك الكلام سابقا، ولمن سيقوله لاحقا، ولا وجود لابن مغادر غير ابنها وليس من فؤاد مكلوم غير فؤادها المكلوم.

إنّ مشاهد الوداع بالكلام هي مشاهد ممسرحة، كأجود ما تكون المسرحة، لأنّ الوداع لا يُقال بوصفه فعلاً مجردا («أودعك»)، بل يُركب على أنّه مشهد حركيّ فيه توتّر وحركة وانفعال. فالصوت فيه، والإيقاع والكلمات المختارة، تساهم جميعها في بناء مشهد يتعدى القول البسيط، إلى «عرض» كامل للذات والموقف والعالم. فلحظات الوداع عرفانيا، تتكثف فيها اللغة عبر المجاز والتجسيد والمسرحة، لأن العقل نفسه في تلك اللحظات يعيش حالة انتقال حساسة بين حضور وفقد، وبين قرب وغياب، فيحتاج إلى تشغيل أقصى إمكانياته التصويرية والمشهدية للتعامل مع الموقف. حين يقول مودّع عاديّ لمن يحبّ: (رحلت بروحي) أو (أخذت مهجتي) أو (سلبت روحي من جسدي)، فإنّ الاستعارة ههنا لا تكون زينة للكلام، لأنّ آخر ما يريده المودّع هو أن يزيّن كلامه. إنّه يمسرح حالته بالكلمات، لأنّ المسرحة أي تجسيد الموقف بالخيالات القريبة، مما يعيشه المودّع على أنّه ضرورة إدراكية وحاجة ذهنية ماسّة. فالفراق يُجسد وكأنه موت (سحب الروح من الجسد) وماذا يبقى لو أجسادنا سحبت منها أرواحنا؟ لكأنّ الوداع هدم لكيان الذات، وليس مجرد حركة خروج. هذا التجسيد ينبع من آليات تصنيفية في الذهن، تجعلنا نفهم التجارب العاطفية عبر تجارب جسدية أولية.

إنّ مسرحة مشهد الوداع عند التلفظ بعباراته يعني، أن لا ننقل المعلومة، بل يتحول قولنا إلى حدث حيّ. فالذهن يبني ما يشبه «المسرح الداخليّ»، حيث يقال الكلام وتكون فيه الكلمات والنظرات والحركات والنبرات، موظفة لإخراج المشهد بأقصى طاقة انفعالية ثمّ تنفجر العلامات الصوتية من خلال النبرة، أو من خلال الصمت أو بواسطة البكاء الخفيف أو الخفي أو رعشة الصوت وتصبح هذه العناصر أعوانا مسرحية لتفجير المشهد وبناء المأساة فيه. في لحظة الوداع، لا يعود القول «سلساً» بل ينكسر وينفرط أمشاجا، وكأن الجسد كله يتكلم لا اللسان وحده. وقد يتراجع الكلام بالتركيز على الحواس، بالنظر الطويل، واللمسة الأخيرة واستيعاب رائحة المكان، وإلقاء نظرة أخيرة على شجر الزيتون، وكأن الذهن يريد تخزينا أخيرا لأثر حسي قبل فقده. لحظة الوداع تفترض فقدان استقرار إدراكي، لذلك، يحاول الإدراك إعادة بناء استقرارٍ جديد عبر مشهد درامي: المسرحة هنا ليست ترفاً، بل آلية دفاعية لتقنين الفقد وتنظيم الألم. يمكننا أن نقول إنّ الذات في الوداع تؤدي مشهدا رمزيا أمام ذاتها أولا قبل الآخر، حتى تتمكن من استيعاب الفقد وفهمه وترقيمه في ذاكرتها، أي أن المشهدية التلفظية للوداع ليست موجهة فقط للمخاطب، بل بالأساس للمتكلم ذاته ليحمي نفسه من انهيار المعنى داخله.
في قول الأعشى: (ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟) أبعاد إدراكية مسرحية قبل أن تجد فيها تصويرا للفراق. لكنّها تصوير يدعو فيه القائل إلى أن يستعد للتوديع، والاستعداد له لا بد أن يكون في جوّ احتفالي، على المودّع أن يختبر أحوال نفسه ويزنها بمقدار ما يمكن أن يساعد على الصبر أو لا يساعد. ليس كل من ودّع وتكلم كان قادرا على أن يودّع. في الوداع بالكلام طقوس هي كالطقوس الجنائزية الأسطورية، تسلم الروح إلى بارئها، ثمّ يترك للكلام أن ينقل أرواحنا الحية المناجية إلى أرواحنا الراحلة. لكن المناجاة تكون بمسرحة أصواتنا المتعثرة، وحشرجة حلوقنا الناطقة، أو بصمتنا الذي يمكن أن تخنقه العبرة. إنّ الكلام وهو يمسرح في مشهد الوداع يصارع كي يقوم بوظيفيته الأصلية: النطق الذي يعني وقتها اختبارا لسؤال: هل أنا أحيا؟
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب