فلسطينيّو الداخل بين القمع والتمزّق… والفشل

فلسطينيّو الداخل بين القمع والتمزّق… والفشل
يرزح من بقوا في أرضهم عام 1948، وأصبحوا «مواطنين درجة ثانية»، تحت نظام عنصري، ومشاريع أسرلة، وتهميش اقتصادي، وفجوة عميقة في الخدمات. وفقاً لتقارير جمعية حقوق المواطن ومنظمات دولية، فإنّ فلسطينيي الداخل يعانون من تمييز في كل مناحي الحياة: أكثر من 50% من العائلات تحت خط الفقر، مقارنة بحوالي 15% من العائلات اليهودية. في التعليم، تُصرف حوالي 35% أقل من الميزانيات للطالب العربي مقارنة بالطالب اليهودي، ما يكرّس فجوة بنيوية من المدرسة وحتى سوق العمل.
حوالي 1.9 مليون فلسطيني يعيشون اليوم في حالة من «الوجود المشتّت». يتعاملون مع واقع مرير من التمييز العنصري، والهويات الممزقة، والقوانين العنصرية، وسياسات «المواطنة المتدرّجة»، تُقيّد حرّياتهم، ويُمنعون من التوسّع العمراني، ويُستهدفون في محاولات لتفكيك هويتهم الثقافية والسياسية. تُهدم المنازل بشكل دوري في النقب تحت ذريعة البناء غير المرخّص، رغم أن الدولة نفسها ترفض إقرار المخططات الهيكلية للقرى العربية. كما تُمنع عشرات القرى غير المعترف بها، في القرن الحادي والعشرين، من الوصول إلى الكهرباء والمياه.
أمّا في مجال الحرّيات السياسية، فالملاحقة لا تقلّ قسوة، أمنياً وقانونياً. يُعتقل النشطاء السياسيون والإعلاميون إدارياً أو تحت بند «التحريض» على وسائل التواصل، كما حدث خلال «هبّة الكرامة» في أيار 2021، حين اعتُقل أكثر من ألفي شاب، كثير منهم بدون لوائح اتهام، فقط لتخويف المجتمع وردعه. وتُستخدم ضدّهم أدوات مثل قانون «مكافحة الإرهاب» بشكل تعسفي، رغم أن «التهمة» في أحيان كثيرة لا تتعدّى كتابة منشور أو المشاركة في تظاهرة.
وقد تكرّر هذا النمط القمعي بشكل أوضح خلال الحرب على غزة؛ فمع تصاعد العدوان أطلقت أجهزة الأمن الإسرائيلية حملة قمع استباقية شملت مختلف جوانب حياتهم: من الاعتقالات التعسفية إلى التضييق على حرية التعبير؛ مروراً بالتمييز المؤسسي في التعليم والعمل؛ الاعتقالات التعسفية والملاحقة القانونية؛ التضييق على الجامعات والمجتمع الأكاديمي؛ التحريض الإعلامي والملاحقة الرقمية.
شملت الحملة مداهمات واعتقالات واسعة، حيث فُتح أكثر من 200 تحقيق بسبب منشورات على «فايسبوك» و«إنستغرام» فقط، وفُصل عدد من المعلمين والطلاب الجامعيين لمجرد تعبيرهم عن تعاطفهم مع الضحايا في غزة. كما أصدر وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، تعليماته للشرطة باستخدام «يد حديدية» ضد «أي مظاهر تأييد للإرهاب»، وهو توصيف فضفاض استُخدم لتجريم كل تعبير إنساني عن الغضب أو الحزن. حتى رفع الكوفية أو العلم الفلسطيني أصبح سبباً كافياً للاعتقال أو الفصل من العمل.
لكن، ورغم كل ذلك، وإذا أردنا أن نكون صريحين، علينا أن نعترف بأن فلسطينيي الداخل أصبحوا في حالة من التمزّق والضياع السياسي. ليس بسبب نقص في الوعي، بل نتيجة الأداء السياسي الباهت، والتواطؤ الممنهج لبعض الأحزاب والقوى التي اختارت نهج المهادنة والانخراط الشكلي، حفاظاً على مكاسب جزئية داخل المنظومة، حتى لو كان الثمن تآكل الثقة الجماعية وتراجع المشروع الوطني.
سعت الأحزاب، مثل «الجبهة الديمقراطية»، «الحركة الإسلامية»، و«التجمع الوطني»، مراراً وتكراراً، إلى توحيد الصف الفلسطيني، لكن هذه الجهود غالباً ما تصطدم بالانقسامات العميقة داخل هذه الأحزاب، والتي تراوِح بين الخلافات السياسية والمذهبية إلى تباين المواقف تجاه النضال الوطني، ما يصعّب التوصّل إلى رؤية مشتركة. ومع تلك التحدّيات، نجد أن الأحزاب السياسية تكتفي بالكلام العام والتصريحات التي تخلو من أي مضمون حقيقي.
ما نشهده الآن هو مشهد سياسي يتسم بالركود، أحزاب تضعف وتختفي، بينما يظلّ فلسطينيو الداخل في حالة انتظار طويلة لأفق سياسي يمكن أن يقودهم نحو تغيير حقيقي. لقد أصبحت القضايا المصيرية، مثل الأرض، التهويد، المواطنة، والتهميش الاقتصادي، تذوب في طيات صراعات داخلية على المناصب والشرعية السياسية، ما يزيد من التباعد بين القيادة والجماهير، ويدفع العديد من الشباب إلى السؤال عن مدى جدوى استمرارهم في المواجهة.
تبيّن استطلاعات الرأي التي أجرتها «الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان» أن 65% من الفلسطينيين في أراضي الـ48 لا يثقون في قدرة الأحزاب العربية على تحقيق مصالحهم. وبدلاً من العمل على حل القضايا الكبرى مثل الأرض والتهجير، فإنّ الأحزاب المحلية تركّز بشكل أكبر على قضايا الانتخابات المحلية والقرى والمدن.
البرود الذي نعيشه اليوم في المشهد، يرقى إلى حالة من «اللامبالاة الجماعية» التي يعبّر عنها كثر داخل أراضي الـ48. والسبب الرئيسي لهذا الفشل، في رأيي، هو غياب استراتيجية حقيقية متكاملة تُعنى بالتحدّيات، بعيداً عن الانقسامات الحزبية. والأمر لا يقتصر على السياسة فقط، بل يتعدّاه إلى واقع اجتماعي اقتصادي مُرهق، حيث تعيش غالبية المناطق في ظروف من التمييز الممنهج تطاول كل جوانب حياتهم: التعليم، الصحة، التوظيف، الإسكان… كما أن الحياة اليومية أصبحت متشابكة مع تحدّيات الأمن والاقتصاد.
على الرغم من أن جميع الفلسطينيين في الداخل يعيشون في قلب معركة مستمرة مع الاحتلال، فإنّ الأجندات الحزبية الداخلية كانت ولا تزال تقف عائقاً أمام التحرّك الفعلي نحو المصالح العامّة. هذا الوضع أدّى إلى حالة من الفتور بين الشعب والقيادة السياسية، وصار الفلسطيني يشعر بأن هذه الهيئات، التي كانت من المفترض أن تكون أداة للنضال، أصبحت عبئاً عليه. فمثلاً، تأسّست «اللجنة العليا لمتابعة شؤون الفلسطينيين» لتكون هيئة تمثّل نبض الشارع الفلسطيني وتوجّهاته السياسية، إلا أنها أصبحت اليوم تجسيداً للفشل الإداري واللامبالاة السياسية.
كان من المفترض أن تكون هذه الهيئة هي المنبر الذي يعبّر عن مواقف الفلسطينيين في الداخل، وأن تطرح حلولاً ملموسة لقضاياهم المصيرية، لكنها في الواقع، مع مرور الزمن، تحوّلت إلى جهاز بيروقراطي عاطل، لا يسهم في تقديم حلول فعلية.
أخيراً، ثمة عامل آخر، هو الرفاه الاجتماعي، ويمكن القول إنه كان لهذا العامل دور مزدوج في التأثير على مواقف أبناء الداخل: من جهة، قد يدرك البعض أن تحسين مستوى المعيشة، وإن كان مهماً، يجب ألا يأتي على حساب المصير السياسي للشعب. ومن جهة أخرى، أدّى التوسّع في سياسة الرفاه الاجتماعي إلى خلق حالة من التعايش القسري مع النظام الإسرائيلي، حيث تزداد الحاجة إلى تلبية احتياجات الحياة اليومية على حساب الاهتمام بالقضية الكبرى، فتجد البعض يتساءل عن أهمية النضال السياسي بينما يمكنه الحصول على «راحة» نسبية في ظل رفاه اقتصادي محدّد. إلا أن هذه «الراحة» غالباً ما تكون هشة وتعود بالنهاية إلى مزيد من القمع الممنهج الذي يمارسه الاحتلال.
في فلسطين، لم تُقسّم الجغرافيا وحسب، بل صار كل جزء منها كأنه عالم منفصل، بألمه، بحصاره، بقوانينه، وبأولوياته القسرية، فالاحتلال مشروع لا يكتفي بالاستيلاء على الأرض، بل يحرص على تفكيك الوعي الجمعي للشعب الواحد. لم يُقسَّم الفلسطيني مرة واحدة. بل جرى تفتيته على مراحل، حتى صار وطنه شظايا ممزّقة، وصوته صدى يتردّد في خمسة سجون: غزة، الضفة، القدس، الداخل والشتات. تقسيمٌ لم يكن فقط جغرافياً، بل تفكيكاً متعمّداً لوحدته، لذاكرة نكبته، ولأحلامه الجماعية التي كانت يوماً توجّه البوصلة نحو فلسطين كاملة. أُجبر على أن ينظر إلى أخيه من وراء الأسلاك، من خلف جدار، أو من خلف نشرة أخبار.
صار كل جزء يعيش «نكبته الخاصة»، وكل فئة تلاحق أولويات فرضها الاحتلال، لا تلك التي جمعها الحلم الوطني المشترك. لكن في النهاية، فإنّ القضية الفلسطينية لا يمكن أن تستمر في هذا المسار المتقاطع بين الانقسام الاجتماعي والتراخي السياسي. الحلّ لا يكمن في استمرار الاستسلام لهذا الواقع، بل في إعادة بناء تحالفات حقيقية بين الفلسطينيين. لتكن قضيتنا الوطنية في صلب الأولوية مرة أخرى، وننبذ كل محاولة لتجزئتها أو تحريفها في أروقة السياسة البيروقراطية.
* كاتبة من فلسطين