مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله الــسياسيّة والعسكريّة [3]

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله الــسياسيّة والعسكريّة [3]
حزب الجمهور أم حزب النُّخبة؟ (2)
لا يزال الحديثُ هنا عن إمكانيّة تصنيف نوع حزب الله في الأحزاب السياسيّة وتغيّر طبيعته ودَوره عبْر السنوات والعقود. الحزبُ الذي بدأ سرّياً ومُغلقاً، انفتحَ على المحيط اللّبناني وأصبح حزباً جماهيريّاً عريضاً، من أكبر الأحزاب العربيّة -ربّما في التاريخ المعاصر- (هو أكبر من الحزب الشيوعي السوداني في عزّه، أمّا حِزب البعث، فالمقارنة غير جائزة لأنّه حزب السلطة والعضوية شكليّة وتكون ضروريّة بهدف تسيير الأعمال أو الارتقاء في الوظائف والصفوف). كتبتُ مقالة عن حزب الله في مجلة «ميدل إيسترن ستاديز» في 1991 بعنوان: «أيديولوجية وممارسة حزب الله: أسلمة المبادئ اللّينينيّة التنظيميّة».
وكانت وجهة نظري أنّ الحزب (في مرحلته الأولى) قلّدَ التنظيم اللّينيني وهو ملائم جدّاً لحركة مقاومة وللحفاظ على السرّية المُطلَقة. لم يختلف تنظيم الحزب في الثمانينيّات وأوائل التسعينيّات عن التنظيمات الشيوعيّة من حيث تركيب الخلايا وتراتب الهيئات القياديّة، وإنْ بمسمّيات مختلفة (اللّجنة المركزية: هل هي «مجلس الشورى»؟ المكتب السياسي: هل هو «المجلس السياسي»؟). لا، هو كان أبرع في الحفاظ على السرّية من كلّ الأحزاب الشيوعيّة التي سبقت (أوراق فريد شهاب تكشف أنّ عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللّبناني كان يكتب تقارير للمخابرات اللّبنانيّة، كما كان وليد قدّورة في اللّجنة المركزيّة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين يكتب تقارير للمكتب الثاني- ولغيره أيضاً-).
ولا شكّ أنّ التنظيم الأوّلي خدم الحزب لأنّه استطاع أن يقوم بعمله المقاوم من دون اختراقات من الأعداء الكُثُر. وكان الحزب في عهد أمين الجميّل يواجه مخابرات أميركا وإسرائيل والسعوديّة (التي شاركت في تمويل تفجير بئر العبد) والمخابرات اللّبنانية التي في عهد سيمون قسّيس استمرّت في عملها المرادف لعمل الموساد في لبنان. فعالية الحزب في المرحلة الأولى تؤكّد صوابية الخيار الحزبي التنظيمي الأول.
عام 1992 وحلول الانتخابات النيابيّة كان مفصليّاً؛ لأنّه كان على الحزب أن يقرّر إذا ما كان سيلتزم بقوانين النظام السياسي وتقاليده، والذي كان ينبذه ويهجوه في نشرة «العهد» بصورة دوريّة، أم إنّه سيبقى تحت الأرض. كان الحزب يُطلق أبشع النعوت والصفات على نظام عدّه طائفيّاً (لكنّ نقْد الحزب لطائفيّة النظام كان من منظور طائفي مضادّ وليس من منظور عَلماني معارض للطائفيّات).
والقرار بالمشاركة الانتخابيّة كان شبيهاً بقرار حركة «حماس» عندما قرّرت خوض الانتخابات بناء على مترتّبات أوسلو. نستطيع اليوم أن نجري مُراجعة لصوابية القرار (لـ«حماس»)، لأنّ لا حركة «فتح» ولا الإدارة الأميركيّة قبِلتا بنتائج الانتخابات الفلسطينيّة وكانتا تعدّ بالاشتراك مع محمد دحلان و«فتح» انقلاباً ضدّ «حماس» في غزّة، فقط لأنّها فازت بالانتخابات، على عكس رغبة إدارة بوش وتوقّعها. هنا استبقت «حماس» الانقلاب ضدّها بانقلاب وقائي ضدّ «فتح» ورعاتها في تل أبيب وواشنطن (لم يكتب عن الانقلاب الفتحاوي الفاشل إلّا ديفيد روز في مجلّة «فانيتي فير» في نيسان 2008 بعنوان «صدمة غزة»).
في عام 1992، كان الحزب خارجاً من صراع داخل الطائفة الشيعيّة مع «أمل»، كما كان يواجه توجّساً وعداءً من النظام السوري ومن معظم حلفاء النظام السوري في لبنان. رفيق الحريري وإعلامه (كما اليمين الموالي للخليج في إعلامهم) لم يتوقّف عن التآمر ضدّ الحزب منذ البدايات. لولا وقوف إميل لحّود بوجه خدّام وغازي كنعان كانت الدولة اللّبنانيّة في التسعينيّات في أول عهد الهراوي مستعدّة للقضاء على حزب الله عسكريّاً (طبعاً كان مشكوكاً فيه أن تنجح الدولة في القضاء على الحزب الذي تمرّس في قتال إسرائيل وقوّات حلف الأطلسي منذ الثمانينيات).
ومرحلة الانتخابات تزامنت مع مرحلة زعامة حسن نصرالله الذي نجح أيّما نجاح في إخراج الحزب من قوقعته وجعله حزباً يلقى التأييد في كلّ العالم العربي. غيّرَ نصرالله الكثير من المواقف العقائديّة ومن الممارسات التي شابت مرحلة صبحي الطفيلي (الذي أصبح من فريق التغيير و«الثورة» في لبنان). نصرالله عدّلَ في التعبير عن عقيدة الحزب وقبِلَ بالكيانية اللّبنانيّة (وردّد مرّة شعار بشير الجميّل عن مساحة لبنان، سألتُه مرّة عن ذلك وذكّرته أنّ الشعار أُطلقَ لتبنّي النتائج المُتوخّاة من الاجتياح الإسرائيلي قبل حدوثه).
وفي الموقف من الصهيونيّة، أوضح الحزب في وثيقته السياسيّة الأخيرة في 2009 أنّ عداءه موجّه ضدّ الصهيونيّة وليس ضدّ اليهود واليهوديّة، وهذا الموقف جديد على حزب إسلامي. شعبية الحزب زادت ولكنّ حجم أعدائه زاد أيضاً، واغتيال الحريري سمّم علاقة الحزب مع بيئته اللّبنانيّة والعربيّة. حرب تمّوز أعادت له وهجه، ولكنْ ليس لمدة طويلة. الكثير من اللّبنانيّين (بتأثير من مطبخ أميركا وإسرائيل والخليج) لامَ الحزب على كلّ الاغتيالات في لبنان، ولامَه حتى على تفجير المرفأ (حتى الأميركيّين الذين يرصدون أيّ خطأ من الحزب كي يشنّوا حملة ضدّه امتنعوا عن اتّهام الحزب بتفجير المرفأ وديفيد هيل برّأه منه في كتابه الأخير).
خيارات الحزب صعبة: هل يستمرّ في محاولة التوفيق بين هيكليّة حزب الكادر وهيكلية أوسع للحزب الجماهيري؟ أم يعود إلى الجذور حزباً سرّياً مُغلقاً ينصرف عن مشاريع السياسة الداخلية والنفايات والطاقة؟
ليس من الواضح أنّ الحزب الذي يخوض، على الأرجح، مراجعة نقديّة ذاتيّة غير علنيّة، سيعيدُ النظر بسياساته نحو المشاركة في النظام اللّبناني. وكبُرَ عبء الحزب في داخل النظام اللّبناني لأنه تورّطَ، أو ارتضى أن يتورّط، عميقاً في حماية النظام اللّبناني ورعايته. لم يخطئ المحتجّون في 2019 عندما رأوا في دَور الحزب في الأزمة رعايةً مباشرة ودفاعاً قويّاً عن النظام اللّبناني الفاسد وعن النظام المصرفي الملحق به. أصبح الحزب عرّاب رئيس الجمهوريّة والحكومة في آن. كان الحزب داخليّاً يتذرّع أنّه ما في اليد حيلة وأنّ هذا هو لبنان وأنّه ملتزم أوّلًا وأخيراً بالتحالف مع حركة أمل. لكنّ الحزب بات حارساً للنظام الذي كان يذمّه وينفي عنه شرعيّته.
الحزب أصبح حزباً جماهيريّاً وأصبح، كما يقول بشير سعادة، حزباً لبنانيّاً (وفي الصفة مديح ونقد في آن). هو حزب لبناني بمعنى أنّ قراراته عن لبنان كانت نابعة منه هو، لا من إيران ولا من سوريا (ونتنياهو أكّد ذلك عندما أعلن أنّ إسرائيل اكتشفت أنّ نصرالله هو زعيم المحور برمّته لا تابعاً لإيران). الحزب كان يخضع للقرار السوري قبل اغتيال الحريري، ولكنّه تحرّرَ كليّاً من هذه السطوة بعد 2005 وأصبح في القرار اللّبناني (وفي بعض السوري وحتى الإيراني) هو صانع القرار في الصراع مع إسرائيل.
قبل 2005، لم تكن مواقف الحزب متطابقة تماماً مع مواقف النظام السوري. كان هو يعارض رفيق الحريري فيما كان الثلاثي السوري (خدام-كنعان-شهابي) الذي يحكم لبنان يتلقّى الرشاوى المنتظمة من رفيق الحريري. هو دعمَ لحّود فيما كان الحريري هو المُفضّل عند حكّام سوريا. ولم يفترق النظام السوري مع الحريري إلّا على قرار التمديد لإميل لحّود الذي عارضه الثلاثي المُمَوَّل بسخاء من الحريري. واللّبننة تعني أيضاً تناقص المبدئيّة لأنّ ممارسة السياسة في لبنان تتطلّب نبْذَ المبدئيّة.
تصبح مكرهاً على الجلوس إلى طاولة واحدة مع أمثال أمين الجميّل وسمير جعجع (سألتُ نصرالله مرّة عن الحالة النفسيّة في ذلك فأجابني ببيت المتنبّي: «من نكدِ الدنيا على الحرّ أن يرى عدوّاً له ما من صداقته بدُّ»).
فرض الانخراط السياسي تغييراً في طبيعة دوره الداخلي وأخرج إلى العلن فصلاً بين العمل المقاوم والعمل السياسي النيابي والبلدي. تعلّم الحزب المساومة والمقايضة والمفاوضات والتنازلات. وهي في صلب عمل السياسة ولكنّها تتناقض مع العمل العسكري أو حتى العقائدي الذي انطلق الحزب منه. عرّضَ الحزب نفسه للمساءلة فيما كان يقوم بأعمال عسكريّة غيّرت من تاريخ المنطقة (ومن دون محاسبة أو مراجعة).
حُكمُ أمين الجميّل حرّمَ المقاومة وطارد المقاومين وسلّمهم إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي. ينسى البعض أنّ حكم الجميّل باشر بتنفيذ بعض بنود اتّفاقيّة 17 أيّار قبل توقيعها (كيف ننسى أنّ غسان تويني كان «المنسّق العام» لاتفاقيّة 17 أيار، التي لا يزال إيلي سالم في كتابه الجديد «الفرص الضائعة» يدافع عنه -ولي عودة مفصّلة إليه-).
بدا الحزب فريداً في ذكوريّته في المجلس. كلّ الأحزاب ألِفت وجود النساء في الكتل النيابية إلّا الحزب. حركة «أمل» وزّرت نساء. سألتُ مرّة نصرالله عن سبب خلوّ قوائم الحزب من نساء. أجابني أنّ العمل النيابي يتطلّب تعاطياً مباشراً مع الناخبين، وأنّ ذلك أصعب على النساء. مع أنّ وجود النساء يوسّع نطاق خدمات الحزب وتلبيتهم لمطالب الناخبين والناخبات. نصرالله قال إنّ ذلك لا يمنع الناس أبداً من ممارسة العمل السياسي في أُطر الحزب المختلفة (مع أنّه لم يكن هناك وليس هناك على علمي من نساء في المجالس القيادية للحزب). تضاربت متطلّبات العمل العسكري مع الوجود السياسي للحزب. وتفاقم ذلك بعد دخول الحزب في الحكومات.
الحزب لم يعرقل الحريريّة. كان فريق لحّود أشدّ معارضة للخطط الاقتصاديّة للحريري من الحزب وحتى من سليم الحصّ في حينه. الحزب يذكّرُ أنّه تحفّظ على بيانات الحريري الوزاريّة ولكنّ تمثيله في الحكومات بعد 2005 حرمه من سمعة التعفّف، وكلّفه ثمن المشاركة من مصداقيّته ومشروعيّته كحركة مقاومة. التناقض لا يزال ظاهراً. الحزب اليوم يشارك عبر وزراء لم يخترهم هو في الحكم (فضلو خوري اختارهم له) فيما يصول وزراء القوّات على المنابر ويجاهرون بتعاطفهم مع الموقف الإسرائيلي.
خيارات الحزب صعبة: هل يستمرّ في محاولة التوفيق بين هيكليّة حزب الكادر وهيكلية أوسع للحزب الجماهيري؟ أم يعود إلى الجذور حزباً سرّياً مُغلقاً ينصرف عن مشاريع السياسة الداخلية والنفايات والطاقة؟ الخروقات التي أصابت الحزب تفترض انكفاء من قِبل الحزب عن العمل الجماهيري العلني مع أنّه لا دليل على ذلك بعد. على العكس، الحزب يتصرّف أنّ الأولويّة تقطيع المرحلة كي يعود كل شيء على ما كان، ويعود الحزب إلى نفوذه السابق.
لكن المرحلة تغيّرت. لا عودة إلى ما كان. الضابط الأميركي في اللّجنة العسكرية لا يقلّ نفوذاً وسلطة عن غازي كنعان في زمانه. لم يستطع الحزب تقديم أداء مميّز في الحكم، وهذا عكْس أدائه العسكري حتى في الحرب الأخيرة. بقي الحزب يمنع إسرائيل من التقدّم فيما كان مُثخناً بالجراح وفيما فقَد أبرز قادته. في السياسة، تحوّل إلى فريق حُكم طائفي يصارع الخصوم في الحكم وفي خارجه.
التنظيم اليوم يواجه أخطر معضلة منذ التأسيس. يخضع لاتّفاقيّة وقْف نار تراعاها الحكومة وبإشراف مباشر من أقرب حلفاء إسرائيل، كَحَكَم على التنفيذ. الرأي العام اللّبناني يبدو ميّالاً إلى النظام اللّبناني الجديد، فيما يخرق الإجماع الشيعي التراصّ خارج الطائفة. التحدّيات أمام الحزب هي الاختيار في صنف التطوّر الحزبي اللّاحق: هل يكون سرّياً مغلقاً لينينيّاً أم جماهيريّاً مفتوحاً؟ الخيار الثاني يعرّض الحزب لمزيد من الاختراقات ويعرقل عمليات إعادة البناء الجارية. الهَمّ الانتخابي والبلدي سيشجّع الحزب على الحفاظ على الصنفَين في البنية الحزبيّة. لكنّ المرحلة هذه لا تحتمل التقاط الأنفاس. والتقاط الأنفاس أمام الجماهير (والأعداء) ضارّ.
* كاتب عربي
{@asadabukhalil} حسابه على إكس