
الأخضر حمينة: سينما ما بعد الاستعمار
صبحي حديدي
ليس لأنه، حتى الساعة على الأقلّ، السينمائي العربي والأفريقي الوحيد الذي فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الأشهر، في دورة 1975، وليس أيضاً لأنّ شريطه يومذاك انتزع الجائزة الأرفع أمام مخرجين كبار أمثال مايكل أنجلو أنتونيوني في «المسافر»، ودينو ريزي في «عطر امرأة»، وفرنر هرتزوغ في «لغز كاسبار هاوتزر»، ومارتن سكورسيزي في «أليس لم تعد تعيش هنا»، وكوستا غافراس في «»قسم خاص»، وسيرغي بوندارتشوك في «قاتلوا من أجل بلدهم»… بل أوّلاً وأساساً لأنّ الجزائري محمد الأخضر حمينة (1934ـ2025) كان سينمائياً كبيراً صاحب أسلوبية فريدة متميزة ورائدة من طراز اقترح مدرسة وطبع مرحلة وشقّ دروباً وعرة لسينما عالمثالثية مدهشة ومقاوِمة، وفيّة لتواريخ وطنية ما بعد كولونيالية، ومخلصة لفنون تؤاخي ببراعة بين أصالة المحليّ وإشراق الكونيّ. لهذا فإنّ شريطه «وقائع سنين الجمر» كان بمثابة صيحة سينمائية عارمة، أقرب إلى ردّ من المستعمَر على المستعمِر، أو إعادة البريد إلى الإمبراطورية كما في تعبير لاحق سوف يقترحه سلمان رشدي أيام انتمائه إلى ثقافات التابع.
ولقد شاءت عجائب المصادفات أن يرحل الأخضر حمينة حين كان مهرجان كان ينخرط هذا العام في تكريمه احتفاءً بمرور 50 سنة على فوز «وقائع سنين الجمر» بالسعفة الذهبية، واستعادة تلك البرهة الفريدة حين تسلم المخرج ابن الجزائر جائزته من يد جان مورو رئيسة لجنة التحكيم وابنة فرنسا… ذاتها التي اجتاحت الجزائر في سنة 1830، وضمتها في سنة 1848، ولم تغادرها إلا بعد ثورة شعبية كبرى سدد الجزائريون خلالها كلفة إنسانية باهظة بلغت مليون شهيد.
وكما هو معروف، أثار الشريط غضب فرنسيين استعماريين وعنصريين يواصلون اليقين بأنّ الجزائر فرنسية ما تزال، رغم أنه أعمق بكثير من تأويل سطحي يبدأ من إدانة الاستعمار الفرنسي فينتهي إلى كراهية مطلقة معممة لفرنسا. وفي هذا الصدد، قال الأخضر حمينة: «لم أرغب قطّ في صناعة فيلم ضدّ فرنسا، بل إظهار حصيلة بطولية لشعب أراد أن يكون حرّاً. سنوات الجمر تلك التي حاولت أن أكتب وقائعها بالصورة، يمكن أن تكون خاصة بالعديد من الشعوب في العالم. حدث فقط أنني جزائري وأعيش في هذا النصف الثاني من القرن العشرين، لذلك كان طبيعياً أن أروي تاريخ بلدي».
ليس قسط الحدّ الأدنى من اللباقة خافياً عن التصريح بالطبع، لأنّ الشريط إدانة جبارة للاستعمار الفرنسي، ولأنساق شتى متعاقبة من الممارسات التي سجلت سوابق همجية في المثال الجزائري على نحو خاصّ، ضمن النطاق الأعرض للمشروع الاستعماري الفرنسي في الشرق الأوسط وأفريقيا. لكنّ الأخضر حمينة صادقٌ في أنّ شريطه أبعد وأعمق، ويمكن المساجلة بأنه أنبل إنسانياً وأبهى شاعرياً من مجرّد الاكتفاء بسرد المظالم الكولونيالية واستدرار هذا أو ذاك من مشاعر الحمية الوطنية.
وإذا كانت الحكاية تقتفي مصائر أحمد، الفلاح الذي يأنف من الصحراء بسبب القحط والجوع، ويهاجر بحثاً عن أفق أفضل لعائلته؛ فإنّ تحوّل الرجل إلى قائد مقاتل ضدّ الاستعمار الفرنسي وسقوطه قتيلاً كما سقط أبوه من قبله ليس سوى سردية واحدة في ملحمة واسعة حاشدة غاصّة بالحكايات اسمها الجزائر بين 1939 و1954. كذلك فإنّ الأخضر حمينة تعمّد تجزئة السردية ذاتها إلى ستة فصول: «سنوات الرماد»، «سنوات الجمر»، «سنوات النار»، «سنة العربة»، «سنة المسؤول»، و»1 نوفمبر 1954»؛ ضمن مسعى بارع لنَسْج الأجزاء المتشظية في متّحد مركّب من الحوادث والرموز والشعائر والمجازر والسجالات والبيئات والموادّ الوثائقية، حيث المشهد الملحمي سيّدٌ وناظم في آن معاً.
شخصية أحمد، المركزية على نحو أو آخر إزاء جمهرة من شخوص السياسي المحلي والعميل والمثقف والمحارب والمرأة، تتقاطع تارة وتتكامل تارة أخرى مع الشخصية الأشد جاذبية في الفيلم: ميلود (يلعب الدور الأخضر حمينة نفسه) أهبل القرية، وشاعرها، والصوت الناطق بهواجسها، والحرّ في التعبير الصامت أو الجهر المسرحي، و… الحكيم الوطني في باطن هذه التنويعات كلها، الذي تتنبه السلطات الاستعمارية إلى خطورة دوره هذا تحديداً، فتعمد إلى تكليف تابع بقتله. ولا غرابة في أنّ الأخضر حمينة يلقي على عاتق ميلود أعباء أدائية خاصة، مثل الضخّ الشعري في كثير من المشاهد، والإسناد الشفاهي لمواقف ذات احتقان نفسي كثيف، ولا يعفيه أيضاً من واجب تلاوة آية قرآنية هنا أو هناك. ورغم شيوع هذه الشخصية النمطية في أعمال سينمائية عالمثالثية عديدة، حيث تنوب غالباً عن الجوقة في التراجيديا الإغريقية؛ فإنّ من غير المستبعد أنّ المخرج الجزائري استأنس في صياغتها بأسلوبية المخرج السوفييتي ـ الأوكراني ألكسندر دوفجنكو، صاحب التأثير الجلي على أسلوبية الأخضر حمينة.
ولأنّ المقام لا يسمح بالحدّ الأدنى من إنصاف أعمال أخرى لامعة مثل «ريح الأوراس» و»ديسمبر» و»غروب الظلال»، فقد توقفت هذه السطور عند «وقائع سنين الجمر»؛ لأنه أيضاً تحفة كبرى رائدة في سينما ما بعد الاستعمار، التي روت سرديات وطنية ونجحت في تمثّل وتمثيل أفكار والتر بنيامين، وفرانز فانون، وجيل دولوز، وغي ديبور، وإدوارد سعيد، ولوس إريغاري.
ولقد شاءت عجائب المصادفات أن يرحل الأخضر حمينة حين كان مهرجان كان ينخرط هذا العام في تكريمه احتفاءً بمرور 50 سنة على فوز «وقائع سنين الجمر» بالسعفة الذهبية، واستعادة تلك البرهة الفريدة حين تسلم المخرج ابن الجزائر جائزته من يد جان مورو رئيسة لجنة التحكيم وابنة فرنسا… ذاتها التي اجتاحت الجزائر في سنة 1830، وضمتها في سنة 1848، ولم تغادرها إلا بعد ثورة شعبية كبرى سدد الجزائريون خلالها كلفة إنسانية باهظة بلغت مليون شهيد.
وكما هو معروف، أثار الشريط غضب فرنسيين استعماريين وعنصريين يواصلون اليقين بأنّ الجزائر فرنسية ما تزال، رغم أنه أعمق بكثير من تأويل سطحي يبدأ من إدانة الاستعمار الفرنسي فينتهي إلى كراهية مطلقة معممة لفرنسا. وفي هذا الصدد، قال الأخضر حمينة: «لم أرغب قطّ في صناعة فيلم ضدّ فرنسا، بل إظهار حصيلة بطولية لشعب أراد أن يكون حرّاً. سنوات الجمر تلك التي حاولت أن أكتب وقائعها بالصورة، يمكن أن تكون خاصة بالعديد من الشعوب في العالم. حدث فقط أنني جزائري وأعيش في هذا النصف الثاني من القرن العشرين، لذلك كان طبيعياً أن أروي تاريخ بلدي».
ليس قسط الحدّ الأدنى من اللباقة خافياً عن التصريح بالطبع، لأنّ الشريط إدانة جبارة للاستعمار الفرنسي، ولأنساق شتى متعاقبة من الممارسات التي سجلت سوابق همجية في المثال الجزائري على نحو خاصّ، ضمن النطاق الأعرض للمشروع الاستعماري الفرنسي في الشرق الأوسط وأفريقيا. لكنّ الأخضر حمينة صادقٌ في أنّ شريطه أبعد وأعمق، ويمكن المساجلة بأنه أنبل إنسانياً وأبهى شاعرياً من مجرّد الاكتفاء بسرد المظالم الكولونيالية واستدرار هذا أو ذاك من مشاعر الحمية الوطنية.
وإذا كانت الحكاية تقتفي مصائر أحمد، الفلاح الذي يأنف من الصحراء بسبب القحط والجوع، ويهاجر بحثاً عن أفق أفضل لعائلته؛ فإنّ تحوّل الرجل إلى قائد مقاتل ضدّ الاستعمار الفرنسي وسقوطه قتيلاً كما سقط أبوه من قبله ليس سوى سردية واحدة في ملحمة واسعة حاشدة غاصّة بالحكايات اسمها الجزائر بين 1939 و1954. كذلك فإنّ الأخضر حمينة تعمّد تجزئة السردية ذاتها إلى ستة فصول: «سنوات الرماد»، «سنوات الجمر»، «سنوات النار»، «سنة العربة»، «سنة المسؤول»، و»1 نوفمبر 1954»؛ ضمن مسعى بارع لنَسْج الأجزاء المتشظية في متّحد مركّب من الحوادث والرموز والشعائر والمجازر والسجالات والبيئات والموادّ الوثائقية، حيث المشهد الملحمي سيّدٌ وناظم في آن معاً.
شخصية أحمد، المركزية على نحو أو آخر إزاء جمهرة من شخوص السياسي المحلي والعميل والمثقف والمحارب والمرأة، تتقاطع تارة وتتكامل تارة أخرى مع الشخصية الأشد جاذبية في الفيلم: ميلود (يلعب الدور الأخضر حمينة نفسه) أهبل القرية، وشاعرها، والصوت الناطق بهواجسها، والحرّ في التعبير الصامت أو الجهر المسرحي، و… الحكيم الوطني في باطن هذه التنويعات كلها، الذي تتنبه السلطات الاستعمارية إلى خطورة دوره هذا تحديداً، فتعمد إلى تكليف تابع بقتله. ولا غرابة في أنّ الأخضر حمينة يلقي على عاتق ميلود أعباء أدائية خاصة، مثل الضخّ الشعري في كثير من المشاهد، والإسناد الشفاهي لمواقف ذات احتقان نفسي كثيف، ولا يعفيه أيضاً من واجب تلاوة آية قرآنية هنا أو هناك. ورغم شيوع هذه الشخصية النمطية في أعمال سينمائية عالمثالثية عديدة، حيث تنوب غالباً عن الجوقة في التراجيديا الإغريقية؛ فإنّ من غير المستبعد أنّ المخرج الجزائري استأنس في صياغتها بأسلوبية المخرج السوفييتي ـ الأوكراني ألكسندر دوفجنكو، صاحب التأثير الجلي على أسلوبية الأخضر حمينة.
ولأنّ المقام لا يسمح بالحدّ الأدنى من إنصاف أعمال أخرى لامعة مثل «ريح الأوراس» و»ديسمبر» و»غروب الظلال»، فقد توقفت هذه السطور عند «وقائع سنين الجمر»؛ لأنه أيضاً تحفة كبرى رائدة في سينما ما بعد الاستعمار، التي روت سرديات وطنية ونجحت في تمثّل وتمثيل أفكار والتر بنيامين، وفرانز فانون، وجيل دولوز، وغي ديبور، وإدوارد سعيد، ولوس إريغاري.
Post Views: 4




