ثقافة وفنون

«عشتُ لأروي»: سيرة دافئة تجسّد الخيال ومتعة السرد

«عشتُ لأروي»: سيرة دافئة تجسّد الخيال ومتعة السرد

رامي أبو شهاب

ربما من أكثر الفنون الأدبية إثارة للجدل من ناحية الصيغة والتكوين فن السيرة الذاتية، كونها تتسم بتمايز على مستوى المعالجة التي يرتضيها الكاتب في التعامل مع تقديم مجريات الأحداث، وحساسية شخصيته، ورؤيته للعالم، التي غالباً ما تخضع لنموذج من الوعي في الاختيار، والحذف والتعديل، أو التحييد، وفي بعض الأحيان تتعرض لتأويلات سياقية تبعاً لأحداث أو شخصيات ذات طابع جدلي.. بيد أن السؤال الأهم، كيف ستنتهي صورة الكاتب في وعي قرائه؟
إن أهم قيمة في كتابة السيرة الرواية، تكمن في ما يصدر عنها من فلسفة تتضمنها معالجة الكاتب لذاته، والعالم، إذ تعكس في كثير من الأحيان ذاته المضمرة، على الرغم من عمليات التكييف، والتدخل في خلق إيهام ما تجاه الذات الكاتبة؛ ولهذا تبدو اللغة من هذه الناحية، الأداة التي يمارس الكاتب من خلالها هذه الآلية، غير أن اللغة في طبقاتها العميقة غالباً ما تخون أو تتمرد، حيث يمكن لها أن تمارس دوراً مناقضاً، فتكشف عما كان يسعى الكاتب إلى تحييده، أو أن تعمل على تعرية النفس، والكشف عن تناقضاتها، وما يعتريها من إسقاطات نفسية، يمكن رصدها بشيء من الوعي والتأمل.
من السير الأشهر كتاب «عشت لأروي» للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل، ومؤلف رائعة «مئة عام من العزلة» التي تعد ربما أشهر رواية بعد منتصف القرن العشرين، ولعلنا نلاحظ أن هذه الرواية، وغيرها من الروايات تدين إلى بعض عالم ماركيز الواقعي، بأحداثه وشخصياته، وبهذا تمسي السيرة نصاً تفسيرياً من ناحية مصادر الوعي بالنموذج التخييلي، أو بوصفه فعل انتقال من المرجعية الواقعية إلى فضاء تخييلي، غير أن هذا يأتي ضمن معالجة تخضع لاشتراطات التكوين السردي من ناحية الحبكة، وتكوين الشخصيات، وصهر ذلك في مزيج حكائي متعدد، وشديد التعقيد، ومن هنا يمكن تفهم أن سيرة الروائي قد تتغاير عن سيرة ما عداه، ففي معظم الأحيان نختبر مرجعيات كتاب السيرة من غير الروائيين، في نصهم السيري بوصفه نصاً أحادياً، غير أن الروائي يقيم عالمه بين نصوص متداخلة، حيث تنتقل الشخصيات والمرجعيات بين أكثر من نص.
لقد كشفت سيرة ماركيز عن مصادره، وإلهاماته، كما أنها صاغت رحلة وعيه التي بدأت مع لحظة تشكله الطفولي، فتمكنت حواسه من مراقبة العالم والمحيط، مع تبلور رغبة بالحكي، أو الروي، فلا جرم أن يختصر وجوده أو حياته في وظيفة واحدة هي أن يروي، ولكن يبقى السؤال الأكثر تجذراً لماذا اختار أن يروي! وما الذي يجعلنا قراء مهجوسين بالاستماع للقصة؟ ومع أن ثمة تأويلات كثيرة، ولكنني أرى أنها تختزل كلها في الوجود، أو بمعنى آخر أثر الوجود، وصيغة تمثله ضمن حركة تتابعية، في حين أن الفلسفة والفكر تنشغل بسؤال أعمق، ونعني لماذا؟

سرد الوجود

إن خلاصة كتابة ماركيز تتعلق بكل ما يجعلنا نكتب، ولعلي أقصد هنا مفهوم الموت، أو ذلك الموت الذي يختبره ماركيز بصورة شديدة الحساسية في روايته «مئة عام من العزلة» التي تتماثل مع ارتحالات عائلته، ونواتج الثأر والقتل، وتلك المدن أو البلدات المهمشة، وهنا يواجه ماركيز الموت بالروي، أو وجوده في المقام الأول، ولكنه معني بسرد أحداث من ماتوا، وقتلوا، ولهذا يمكن تفهم حساسية الكتابة عن الموت، فقد تردد كثيراً في الكتابة عن شخص قتل يتصل بعلاقة عاطفية مع عائلته، ولكنه تمكن أخيراً من اختزال وجود هذا الشخص برواية «سرد أحداث موت معلن»، وعلى هذا نخلص إلى أن الموت يبقى الدافع الأكبر، أو لعله من الدوافع التي تجعلنا نكتب، لأننا مشغولون بالأثر، فعلى الرغم من أن ماركيز كان صحافياً، ومهتما بكتابة التقارير والافتتاحيات الصحافية، غير أنه لم يكن اختزالياً توصيفياً، إنما على العكس من ذلك، فقد جعلته الصحافة أكثر قدرة على التأمل والتبصر، واكتساب موهبة تشكيل العالم في مروية تأخذ من الواقع منطقه، ولكنها تحتاج إلى قلق الرواية، حيث يكمن فيها ما نفكر فيه، أو نخاف منه، أو ما نحلم فيه.
لقد جعل ماركيز سيرته في مستويات أو أقانيم يمكن أن نختزلها في تشكل الوعي الطفولي تجاه العالم، وقيم المراقبة، وثمة الانشغالات بتشكل الكتابة، وهنالك النواة الصغرى ضمن قراءة تقاطع العائلة والمحيط، شخوصاً وأمكنة، ولا يمكن تجاهل منظور تأملاته في تاريخ بلده السياسي العنيف، وما رشح عن ذلك في تشكيل خطابه الذي استطاع أن يصهر كل ذلك في بوتقة واحدة، على الرغم من تعدد الروافد، وتداخلها ليخلص فقط إلى معنى السرد، أن يسرد العالم، وعليه فهو يسرد الوجود.
يمكن القول، إن الرواية قد تحجب حقيقة المؤلف، أو أنها تربك القارئ، بحيث تجعله معلقاً حول السؤال عن مرجعية التكوينات لعوالم المؤلف، غير أن السيرة، على الرغم من تفسيريتها ومبدأ الإشهار، تبقى مسكونة بوعي التخييل، من ناحية الرؤية أو الزاوية. لقد تمكن ماركيز أن يجعل من سيرته كياناً لا يبدو، لي على أقل تقدير، رهين الأنا المتضخمة التي نواجهها في بعض السير العربية على وجه التحديد، وبصورة أقل في السير الأخرى؛ من مبدأ أن الخصوصية العربية ذات الثقل الاجتماعي المحيط تبقى كامنة في تشكيل وعي الكتابة، مع التذكير بنفي المطلق عن ذلك، ولكن نصوص السيرة العربية يمكن القول، إنها تعرضت للترويض، ومن هنا يمكن تفهم أن خلق متعالية الذات، أو تضخم الأنا الساردة، قد جعل من بعض السير فاقدة للقيمة، من منطلق تمثل وعي الثبوتية فيها، أو بوصفها ميثاقاً بين الكاتب والقارئ جرياً على آراء بعض نقاد السيرة.
لا يمكن إنكار أن ماركيز قد اختط لسيرته نموذجاً قد يبدو للوهلة الأولى خطياً، ولكنه مع ذلك كان يكسر هذا كما في الافتتاحية، وفي بعض المواقع، حيث يقدم أو يؤخر بعض الأحداث، ولكننا في المجمل نستغرق في طفولته، ودراسته، وعمله الصحافي، وما يكمن أحياناً من بتر لتدفق الحياة نتيجة اختلالات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، ولكننا في المحصلة نشكل سياق وعي تفهم طبيعة هذا الروائي، الذي يتأسس وجوده على المراقبة، والانشغال بالسردية الكبرى للوجود لا بوصفها فكرة، إنما بوصفها الحياة التي ينبغي أن تُعاش بطريقة أو بأخرى، وعلى الرغم من أنه يختط مواقع بوح، وتمثلات شخصيات عائلية وأصدقاء، وكتاب، ومعلمين، وسياسيين، وعلاقات حب، وجنس، فكانت حياته أقرب إلى الصعلكة اقتراباً من تحقيق مفهوم الكاتب من وجهة نظره، ومع ذلك لم تشهد سيرته تنظيراً فكرياً متعالياً، أو تخصيص نماذج لنقد الأفكار، إنما كنا نتلمس ذلك في معالجة سردية، ويمكن تفهم هذا السياق من منطلق أن ماركيز يرى أن العالم ما هو إلا سردية متعددة الأبعاد، وبناء عليه خلت سيرته من تقديم خطاطات فوقية باردة.. إنما كانت سيرته دافئة، وإنسانية بلا تكلف، ولكن الأهم أنه جعلنا نستغرق في الحياة معه في بلد قد يبدو للبعض هامشياً وضئيلاً، ولكن رجلاً واحدا مثل ماركيز، جعله حاضراً في ذاكرة ملايين القراء من العالم. وإذا كان ماركيز غير مباشر في تمكين وعيه الأيديولوجي في سيرته، أو النهوض بتضخيم الأنا، أو الإطلال على القارئ بوصفه كائناً عبقرياً، أو الدون جوان، أو ما شاكل ذلك من تهويمات بعض كتاب السيرة، فإن قيمة كتابه، وتثمينه تتصل بفهمه للتكوين السردي، ووعيه بمعنى الكتابة بوصفها سيرورة مستمرة، ولكن هذا لم يحضر ضمن مستويات السيرة، إنما كان يحضر على هامش سعيه المحموم لتفهم أسرار الكتابة، وتقديم خلاصات، أو آراء تتعلق بكيفية الكتابة، ولاسيما الرواية، ومن قبلها القصة القصيرة، ولكن ببساطة، كان ذلك مجالاً أولياً لاختبار موهبته، وسعيه لأن يكون كاتباً، فالوعي بالاختيار كان دافعاً واضحاً لماركيز الذي تمثل معنى الخيال، والمتعة في السرد بدءاً من نص ألف وليلة الذي شكل زاداً أساسياً لقدح شرارة التخييل.

رؤية أخيرة

وضمن سياق السيرة نطل على صورة قاتمة لواقع دول عانت من النزاع الأيديولوجي والحروب الأهلية وسطوة الديكتاتوريات في دول أمريكا اللاتينية، ومنها كولومبيا، إذ لا يمكن لكاتب مثل ماركيز أن يعزل فضاءه الخاص عن الفضاء العام المتصل بوطنه، ولهذا يمكن تفهم بعض الاستغراقات السردية، التي سعى فيها إلى بيان الواقع الدموي الذي كان يحيط عالمه، ويتجاوز ذلك إلى أن يشكل رؤيته تجاه العالم، ولكن ماركيز في تتبع الأبعاد السياسية، وأحداثها لم يكن شديد النقد لطرف على حساب طرف آخر، على الرغم من نزعته الأيديولوجية، لقد كان يروي بوعي الراوي لا بوعي الذات، التي يتملكها موقف أو نقمة على مجموعة أو كيان ما، فتتضح الحيادية التي بدت مستغربة، كونها لا تستقيم مع ما يفترض أن تعكسه السيرة الذاتية، ولكن يمكن تفهم ذلك من خلال بعد الوعي الفكري لماركيز الذي يرى العالم من مسافة كافية، أو بمعنى مسافة يكمن وراءها المراقب المعني بالسرد أو الحكاية فقط، ولكنه مع ذلك يترك للسرد أو لفضاء التخييل فسحة في وعي الملتقي، حسب المفاهيم الإدراكية المعرفية في تكوين الصور، وتحديد المفاهيم، واتخاذ المواقف ضمن مفاهيم متطورة من التلقي، وعليه يمكن تفهم موقف ماركيز من رفضه لتحويل روايته الأشهر إلى فيلم؛ لأن من شأن ذلك أن يجهز على قيمة التلقي، وقدرة القراء على بناء تصوراته، ومتخيله الحر في الوعي أو العقل وما ينتج عن ذلك من عاطفة.
لقد مارس ماركيز هذه الرؤية أو الغاية في سيرته، فجعلها نصاً سردياً ينهض على مرجعية واقعية يكمن في وسطها شخص اسمه ماركيز، ولكنه لم يكن يعني كل شيء، إنما كان راوياً عن ذات اختبرت حيوات أشخاص لا يمكن تفهم دوافعهم للحب والخيانة والقتل.. سوى إنها جزء من ثقافة معقدة، ويمكن تفهم أن كتابة ماركيز كانت معنية بأثر التاريخ، والأسطورة، والمعتقدات، والخرافة، والهواجس.. ضمن جمل ثقافية متعددة تشي بهوية كولومبية معقدة، وشديدة الخصوصية، ويمكن تفهم إلحاح ماركيز على وصف الكثير من الشوارع، والمباني، وحتى بعض السلوكيات، والأشخاص، والأحداث، على أنها صيغ كولونيالية ذات أثر، ربما لأن هذا الأثر قد صاغ الكثير من الوجود، بما في ذلك وجود دولة أو أمة، كما ذات ماركيز المنتمية إلى ثقافة بلده، فلا جرم أن تحضر هويات لعوالمه المنكهة بثقافة محلية، غير أنها كونية الرؤية، بالتوازي مع رصد تداعيات الحداثة والتحولات التي يمكن أن تقود إلى تشققات عميقة في الذات الخام التي سعى ماركيز إلى بيانها، ولكنه كان معنياً أيضاً بتصوير تحولاته بصورة أو بأخرى.
كاتب أردني فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب