
القصيدة كائن متحوّل: انسياب المعنى في «الأرض تكبر أولاً»

منذر اللالا
يضعنا ديوان «الأرض تكبر أولاً» للأردني محمد مثقال الخضور أمام تجربة شعرية تتجاوز البلاغة التقليدية، لتنسج قصيدة تتكوّن من حركة اللغة، ومن ارتجاج المعنى لا استقراره، لا يكتب الخضور قصيدته من موقع القول الصريح، بل من مناطق التوتر، من المساحات البيضاء، من الهوامش التي غالبا ما تُهمَل، وهذه المناطق هي بالضبط ما يمنح القصيدة معناها الآسر، أو بالأحرى ما يسمح للمعنى أن ينساب، أن يتكثّف ويتفلّت، وأن يُلمَح ولا يُمسَك.
منذ العنوان «الأرض تكبر أولاً»، يُعلن الديوان استراتيجيته في بناء المعنى: لا شيء يُقال دفعة واحدة، بل كل شيء ينمو تدريجيا، ضمن الزمن الشعري والخيال، ليصبح في النهاية حدثا لغويا أكثر منه خبرا موضوعيا، فـ»الأرض» لا تُفهم هنا بوصفها جغرافيا فقط، بل بوصفها مجازا للهوية، للمنفى، للأم، للحرب، وللشاعر نفسه، أما «تكبر»، فليست مجرد فعل نمو، بل هي حركة وجودية داخل النص، المعنى ليس شيئا يُقال ثم يُطوى، بل عملية مستمرة من الانفتاح والتوالد.
يقول في قصيدة «ببطْء النور في تأجيل عتمتنا»: تعبت لأنني أبطأت من تعبي/ هما سيان حين الحزن ينهشني/ ببطء الوحش حين يكون شبعانا، في هذه الأبيات، لا يُقدَّم الحزن كحالة عابرة، بل ككائن حيّ له إيقاعه الخاص في التهام الذات. الوحش ليس غاضبا ولا جائعا، بل شبعان، ومع ذلك يستمر في النهش، كأنه تعبير عن ألمٍ داخلي ليس له مبرر خارجي، التعب لا يأتي من الفعل، بل من بطء الفعل، من التورط فيه، من المراوحة بين الرغبة في تجاوزه والعجز عن الحركة. وهكذا، لا يُبنى المعنى على حكاية، بل على الصورة، على الاستعارة التي تتجاوز التوصيف لتصبح تجربة شعورية، الحزن لا يُروى، بل يُستشعر، كأن اللغة تحاول ملامسة شيء لا يُقال، بل يُعاش في صمتٍ داخلي كثيف، وهذا ما يجعل النص يتجاوز «التذكّر السردي» إلى حالة من الاستدعاء الشعوري، حيث لا تتشكل الحقيقة من الوقائع، بل من طريقة عيشها وتمثلها في اللغة.
الانزياح هو أحد أبرز أدوات الخضور في توليد انسياب المعنى، وهو لا يكتفي بانزياح الصورة أو التركيب، بل يعمل على انزياح المرجع ذاته، فالشاعر يتعامل مع اللغة بوصفها خامة مشعّة، لا ناقلا شفافا، ويعيد ترتيب العلاقة بين اللغة والواقع. في قصيدة «ببطء النور في تأجيل عتمتنا»، يقول: «بسيطا جئت كالساحات/ معزولا عن الطرق التي تكتظ / بالنظرات والخطوات والذكرى»، في هذه السطور، تتجلّى العزلة لا كعَرض عابر، بل كهوية، كطريقة في الدخول إلى العالم. الشاعر لا يأتي من الزحام، بل من فسحة خالية، من «الساحات» التي لا تزدحم بالعبور، بل تظل مفتوحة على الانتظار. إنه يحضر من الهامش، لا من المركز، من الفراغ الذي لا تُشغله الذاكرة، بل يسكنه التأمل، الطرقات التي «تكتظ بالنظرات والخطوات والذكرى» تتحوّل إلى رمز للضجيج الإنساني: للحشود، للزمن الذي يمشي في العلن، للقصص التي تُروى بصوت عالٍ. في المقابل، يتموضع المتكلم خارج هذا كله، في مساحةٍ نقية من التشويش، حيث الوجود لا يُعرَّف بالمرور، بل بالحضور البسيط.
في قصيدة «خرج من إربد ولم يعد»، نقرأ: «أنا لم أرَ المرآة قَصْدا/ كي أظلّ كما ظننتُ بأنني/ أو مثلما قال الكواهن/ إن أمي أنجبت شيئا/ غريبا كالصواب بخدعة»، في هذا المقطع، تتقاطع الهوية مع الرؤية، وتتشكّل الذات لا عبر ما يظهر، بل عبر ما يتجنّب الظهور. «أنا لم أرَ المرآة قصدا» ليست فقط جملة إنكارية، بل هي إعلان عن رفض الصورة الجاهزة، عن رفض أن تُختزل الذات في انعكاسٍ ثابت. ما يُطلب هنا هو أن تبقى الذات كما «ظنّت»، لا كما يُقال عنها، أو كما تُعرِّفها أعين الآخرين، ثم تأتي «الكواهن» كرمز للقول الجاهز، للتفسيرات الغيبية التي تحاصر الفرد. أما «شيئا غريبا كالصواب بخدعة»، فهي صورة تتجاوز المنطق: الصواب نفسه يُقدَّم كخدعة، وكأن كل ما يبدو «صحيحا» لا يُعبّر عن الحقيقة. بهذا، يشتبك الشاعر مع المألوف، ويفكك ثنائية الحقيقة/الزيف، ليتركنا في منطقة تأمل غامضة، حيث تُبنى الهوية من الرفض، من القلق، من أسئلة غير محسومة.
المعنى في قصائد الخضور لا يُولد فقط من البنية النصية، بل من العلاقة التي تنسجها القصيدة مع الزمن والذاكرة والغياب. يقول في قصيدة «الأرض تكبر أولاً»: «أحتاج في هذا الزمان حبيبة/ لأرى الصباح كما تراه قصيدة/ سهرت طوال الليل حول بيوتها/ وجعا على ما قال بيت في الظلام»، في هذا النص، لا يُصاغ المعنى كحقيقة، بل كتجربة وجدانية مفتوحة. فالصباح لا يُرى كما هو، بل كما تراه القصيدة، أي من منظور مشحون بالشوق والفقد والانكسار، حتى البيوت التي سهر حولها ليست مجرد أمكنة، بل هي رموز للغياب، وصدى لبيتٍ آخر قيل ذات ألم: «لأمه حين اختفت.»
هنا لا يكون الاعتذار موجّها لشخص ما، بل للغة نفسها، لأنها ـ رغم محاولتها النسيان ـ لم تنجح، فبقيت تكتب من قلب الوجع، لا من موقع السرد. وهكذا، يتسرّب المعنى خلسة، كندبةٍ لا تُشفى، كوجعٍ لا كبلاغة.
ومن مظاهر انسياب المعنى في الديوان: التكرار والرمز، حيث تتردد مفردات مثل: «النصف المكسور»، «الظل»، «الوهم» في أكثر من قصيدة، مما يخلق ترابطا دلاليا بين النصوص، في قصيدة «أجيئك نصف مكسور» يقول: «أجيئك نصف مكسور.. ومحمولا على نصفي»، وهو تعبير عن التمزق الوجودي، وتظهر صوره أيضا في «جرح وصبر غائر يتنافسان على شرودي» وحتى في قصائد أخرى مثل: «مئة عام من عزلة الشعير»، كما تظهر الرموز الطبيعية (الماء، النار، الظل) كوسائط لنقل المعنى، فالماء مثلا، يصبح رمزا للعطش العاطفي والأمل المتجدّد، إن ما يمنح هذا الانسياب قيمته الكبرى، هو أنه يُبقي القصيدة حيّة، مفتوحة، غير قابلة للتأويل الموحد، بل متعدّدة كما ينبغي للشعر أن يكون. فالكلمة ليست سيدة المعنى، بل مجرد نغمة في نسيج من الصمت والانتظار والتوق. لا يمكن القبض على معنى القصيدة كحقيقة جاهزة، بل كوميض، كارتعاش في جسد اللغة، وكعلاقة حميمة بين القول وما لا يمكن قوله.
انسياب المعنى في هذا الديوان ليس مجرد حيلة لغوية، بل هو طريقة وجود، وإعلان ضمني بأنّ الشعر لا يُكتب ليشرح العالم، بل ليضعه في حركة دائمة، أو في سؤال، أو في ارتباك جميل، لهذا يشكِّل ديوان «الأرض تكبر أولا» نسيجا دلاليا متشابكا، حيث تتدفق المعاني عبر القصائد في حركة لا تتوقف عند حدود النص الواحد، بل تمتد لتشكّل رؤية شعرية فلسفية، الشاعر لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يفتح أبوابا للتأمل في الزمن، الذاكرة، الغربة، واللغة، مما يجعل الديوان نصا مفتوحا على تأويلات متعددة، تظل تتدفق مع كل قراءة جديدة.
كاتب أردني