ثقافة وفنون

محمود السعدني… ضحك شديد الجدية

محمود السعدني… ضحك شديد الجدية

مروة صلاح متولي

ظل قلم محمود السعدني مصرياً خالصاً منذ البداية حتى النهاية، رغم سنوات السفر والاغتراب، قلم نحبه بكل تأكيد مهما اختلفت الرؤى ووجهات النظر، قلم نطمئن إليه ولا نستطيع أن نقاوم سحره وجاذبيته، قلم نعرفه ويعرفنا، لم يضع الحواجز بيننا وبينه في يوم من الأيام، ولم يغلق حرفاً في وجوهنا. ربما كان يظن البعض أن هذا القلم كان يستمد وجوده من الحضور الطاغي والكاريزما الهائلة لصاحبه، وأن الكلمات ذاتها لا تستطيع أن تصمد وحدها بعد رحيل من كتبها، لكن القلم كان نجما لا يقل نجومية عن صاحبه، ولا تزال الكلمات حية تنبض بروح محمود السعدني، وتنتقل كتبه من جيل إلى آخر كطقس مصري أصيل ومعرفة لا بد منها.
يوصف محمود السعدني عادة بأنه كاتب ساخر، أو ربما هذا أشهر أوصافه، لكن لا يبدو هذا الوصف دقيقاً أو شاملاً، على الرغم من السخرية التي تغلف معظم كتاباته، ويصعب حقيقة تحديد محمود السعدني، ووضعه داخل إطار معين، وكما اختار هو أثناء حياته أن يكون حراً طليقاً يتحرك داخل مساحة شاسعة، فالأجدر بنا ألا نحاول أن نقيده، وأن نهيم معه في عالمه الخاص، لينتقل ويذهب بنا إلى حيث يشاء. عاش محمود السعدني في الفترة من عام 1927 حتى عام 2010، وكان صحافياً قبل أن يكون كاتباً، مارس العمل الصحافي منذ حداثة سنه، وانتقل بين أكثر من مؤسسة صحافية مصرية، وكان مع العديد من زملائه وأبناء جيله من كبار أساطين الصحافة المصرية. مع الصحافة وماكينتها الدائبة التي لا تهدأ على مدار الساعة واليوم والأسبوع والشهر، وخلال تلك السنوات الطويلة من العمل المستمر، ترك محمود السعدني إرثاً صحافياً هائلاً، يتفرق على أكثر من جريدة ومجلة داخل مصر، وخارج مصر في أقطار عربية وبلدان أوروبية. دائماً ما تترك الصحافة أثراً على الكاتب حتى في كتبه المستقلة، فالصحافي الذي يمارس المهنة ذاتها، وينغمس في كل التفاصيل الكامنة وراء الكلمة، والكواليس التي لا يراها القارئ، لا يقتصر الأمر لديه على الكتابة، إنما يعيش عملية أوسع بكثير من عملية التقاء الورقة بالقلم، ويمكن القول إن الصحافي كاتب يعيش على أرض الواقع، بل في قلب الواقع وفي أعماق أعماقه، يخالط الكبير والصغير، ويندمج مع الكثير من الفئات، ويغوص في أحوال ومشكلات البلاد والعباد.
في عالم الصحافة انتقل محمود السعدني بين أكثر من مطبوعة، وترأس تحرير بعض المجلات كمجلة «صباح الخير»، كما أسس بعض المجلات التي ترأس تحريرها وأشرف على إصدارها. كانت النشأة والتكوين وبداية العمل الصحافي في سنوات ما قبل 1952، وغطى السعدني بعض الأحداث السياسية المهمة في العهد الملكي، وعاصر كبار الزعماء السياسيين في تلك الفترة كالزعيم مصطفى النحاس وغيره. أما علاقة الكاتب الراحل بنظام يوليو/تموز 1952 فكانت علاقة متغيرة لا تستقر على حال، تتبدل بتبدل حلقات النظام وانتقاله من عهد إلى آخر، لكن يمكن القول إن السعدني كان ناصرياً، رغم أنه سجن في العهد الناصري ولم يكن مقرباً من عبد الناصر. سجن السعدني أيضاً في عهد الرئيس أنور السادات، وكان الخلاف الأكبر بينهما، على الرغم من أن السعدني كان يعرف السادات منذ العهد الملكي، والتقى به في منزل الكاتب الراحل زكريا الحجاوي، كما يروي السعدني، وكان كل منهما لا يزال في بداية المشوار. والمعروف أن حجم الصدام بين الرئيس السادات والصحافيين، الناصريين منهم على وجه الخصوص كان كبيراً، على الرغم من أن السادات مارس الكتابة والعمل الصحافي في فترة من فترات حياته، من هؤلاء الصحافيين الذين اصطدموا بالسادات، من تم سجنه وفصله من عمله، ومنهم من غادر الوطن واتجه إلى العمل في الصحافة العربية، سواء داخل الوطن العربي، أو في الصحف العربية التي كانت تصدر من العواصم الأوروبية. وفي ظل التمويل العربي والدعم القوي من بعض الرؤساء العرب في ذلك الزمن، احتدم الخلاف مع أنور السادات واشتد الهجوم عليه من الناصريين، وهو من الضباط الأحرار وركن أساسي من أركان نظام يوليو/تموز 1952، وهو الزعيم المنتصر بطل حرب أكتوبر/تشرين الأول المجيدة.
كان محمود السعدني ممن اختبروا السجن في عهد السادات واختبروا المنفى أيضاً، فبعد خروجه من السجن ومنعه من العمل، سافر السعدني إلى لندن وأصدر مجلة «23 يوليو» ذات السياسة التحريرية الناصرية، ولم يعد إلى مصر إلا بعد اغتيال الرئيس السادات. وعندما عاد التقى بالرئيس مبارك في القصر الجمهوري وظل على علاقة جيدة به حتى آخر لحظة، وهكذا استعادت مصر كاتبها المحبوب، واستعادت ذلك القلم المصري الخالص، والصحافي اللامع صاحب الكلمة التي تستطيع أن تنفذ إلى عقول وقلوب الجميع، ونعمت المؤسسات الصحافية المصرية برجوع السعدني إليها وسط زملائه من أبناء جيله، وتلامذته الذين أسعدهم الحظ بالعمل معه. كان الرئيس حسني مبارك يقرأ ما يكتبه السعدني، ويتصل به أحياناً بشكل شخصي ليعبر عن إعجابه بمقال ما، أو ليخبره كم أضحكه ذلك المقال.

الجيزة… المكان الوحيد

كما أن لكل كاتب مكانه الأثير أو المكان الذي يترك فيه أثراً لا يمحى، فهذا المكان عند محمود السعدني هو الجيزة بكل تأكيد، هو ابن الجيزة، التي لم تفارقه ولم يفارقها حتى في سنوات الاغتراب، فمن يقرأ أو يسمع عن أسلوب حياته في لندن، خصوصاً من حكايات ابنه الصحافي أكرم السعدني عبر قناته «سعدنيات» على يوتيوب، يشعر بأن محمود السعدني صنع هناك في ذلك البلد الأوروبي جيزة صغيرة شديدة المصرية. لا شك في أن محمود السعدني أرخ للجيزة كما لمصر بشكل غير مباشر، من خلال سيرة تفرقت عبر كتبه المختلفة، حفظت لنا صوراً لأماكن قديمة اندثرت ولم يعد لها وجود، وأشخاص عبروا في هذه الحياة ومروا، لم نكن لنعرف عنهم شيئاً لولا ذكرى أو اثنتين سجلهما قلم السعدني، أماكن وأشخاص ولحظات من حياة مصر، تحمل مشاهد من التاريخ السياسي والاجتماعي والفني والأدبي، والتاريخ الشعبي لعموم الناس في الحارات والشوارع والأزقة والمقاهي.
كانت الجيزة مسرح الأحداث ومركز الحكايات في الكثير من كتب محمود السعدني، وكانت رواية السعدني للمكان تختلف عن أي تناول آخر عند غيره من كتاب وأدباء مصر، تضع القارئ في قلب المكان بصورة مدهشة.

قائمة طويلة من الكتب

ترك محمود السعدني قائمة طويلة من الكتب بعناوينها المحفوظة في الذاكرة، ومحتواها المعروف لدى جمهوره الكبير ومحبيه، منها «مذكرات الولد الشقي»، «رحلات ابن عطوطة»، «حمار من الشرق»، «المضحكون»، و»داعاً للطواجن»، «الطريق إلى زمش»، وغيرها من الكتب. وعندما نتأمل في كتابات محمود السعدني نشعر بأنه لم يكن يضع نفسه في إطار معين، فلم يقدم نفسه كأديب وهو أديب، ولم يقدم نفسه كناقد وهو ناقد. في باب الأدب نجد أنه لم يقتصر على الأدب الساخر فحسب، وإن امتلك ساحته بلا منازع في زمانه، ونجد داخل كتاباته صوراً أدبية أخرى تذهب بنا إلى خيال بديع وأفكار ملهمة، وهناك الحزن والألم الذي يقطر من السخرية المريرة في بعض الأحيان. كتب السعدني عن الفن، ومن كتاباته يستطيع أي ناقد أن يستلهم بعض الأفكار المهمة، وأن يتعرف على رؤية الكاتب الكبير، ورؤيته وأسلوبه في التناول، ويمكن القول إن السعدني كان ناقداً بالمعنى الأوسع للكلمة، حيث امتلك الرؤية الثاقبة والذهن المتقد والذوق السليم والحس الدقيق.
اقترن الضحك بمحمود السعدني بشكل مدهش كما لو أنه امتلك أسراره كلها، فمن الصعب أو ربما من المستحيل أن تقرأ جملة ما، أو وصفاً لأحد المشاهد والمواقف من دون أن ينفجر الضحك، وكذلك في أحاديثه وحواراته ولقاءاته مع الجمهور، كان يستطيع أن يلقي كلمة واحدة أو كلمتين في بضع ثوان، ليستمر الضحك بعدها طويلاً. وتأتي قوة الضحك من سحر الوصف وأسلوب الإلقاء وخفة الدم المصرية الأصيلة، وكذلك ذكاء الفكرة والذهن الحاد القادر على الالتقاط والربط بين الأمور، وربما يكون السر أيضاً في أنه ضحك شديد الجدية.
خلال حياته حقق محمود السعدني نجومية كبيرة وشعبية هائلة قلما تحققت لكاتب، ولا تزال مؤلفاته تحظى بتلك الشعبية وقادرة على الوصول إلى الجميع، حيث يقضي القارئ أوقاتاً رائعة مع ذلك القلم الذي لامس أموراً خطيرة في دنيا السياسة، وعانق الأدب وألوانه بأشكال جديدة مبتكرة، ودار مع الفن دوراناً رشيقاً ممتعاً.
* كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب