إسرائيليون: لأول مرة نشعر بأننا في دولة تفقد أمنها.. والخطر الوجودي يتسلل إلى قلوبنا

إسرائيليون: لأول مرة نشعر بأننا في دولة تفقد أمنها.. والخطر الوجودي يتسلل إلى قلوبنا
مثل كل شيء في الجيش الإسرائيلي، حتى الـ 600 يوم الرهيبة التي مرت علينا تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: في البداية هزيمة، ثم نصر، ومرة أخرى هزيمة. وبتوسع: في اليومين الأولين هُزمنا. بعد ذلك صحونا، انتعشنا، شحذنا أسناننا وانتصرنا. هذا النصر حققه المقاتلون والقادة، لكن كالمعتاد، لم نتمكن من جني ثمار النصر. في الأشهر (الكثيرة) الأخيرة، نفقد الزخم، نتأخر عن القطار، نفوت الفرصة، نعطل الإنجازات ونقترب من هزيمة أخرى، ليس عسكرية، ولا أحد هناك نتهمه. وبايدن لم يعد هنا، و”القانونيون” لا يتدخلون في الحرب، والمستشارة والنائبة العسكرية تعطيان للجيش إسناداً كاملاً، وغالانت أقيل، ورئيس الأركان استبدل، والائتلاف مستقر وليس هناك ائتلاف يميني قومجي أكثر تطرفاً منه. باختصار، لا يوجد في المحيط مذنبون نلقي عليهم بالمسؤولية، ونتهمهم بطعم حامض للهزيمة الجديدة. لكن ثقوا بنتنياهو وأقزامه. فهم سيجدون، أي سيختلقون شيئاً ما. في هذه اللحظة، وقعت وردية “المذنب الدوري” على يئير غولان، إلى أن يحصلوا على المذنب التالي.
نبدأ بالهزيمة الأصعب في تاريخنا، السقوط المدوي المهين الذي لا كفارة له أبداً. كان هناك هدف واضح واحد لخطة “أسوار أريحا”، أو بلغة الفلسطينيين “طوفان الأقصى”: كسر فرقة غزة، واقتحام دفاعات الجيش الإسرائيلي عن الغلاف. هذا الهدف تحقق بكامله، بما يتجاوز التوقعات الأكثر وردية لمحمد ضيف ويحيى السنوار. فرقة غزة انكسرت، وقاعدة الفرقة احتلت، ومنظومة الدفاع من الجيش الإسرائيلي انهارت كبرج من الورق، وآلاف قتلة النخبة فعلوا في الغلاف وسكانه كما يشاؤون من الساعة السادسة والنصف صباحاً وحتى نهاية ذاك اليوم الرهيب.
لأول مرة منذ قيامها ومن نهاية حرب الانبعاث، احتلت أجزاء من إسرائيل من قبل أعداء (“بالشباشب”، على حد تعبير المسؤول الرئيس عن الكارثة). استغرق ثلاثة أيام كاملة أخرى لإنهاء تطهير المنطقة، ولنزع آخر المخربين من مخبئه ولإعادة استقرار الخط. في هذا الزمن، تعرضت إسرائيل لأكثر الضربات رعباً. 1200 إسرائيلي قتلوا في يوم واحد، عائلات كاملة شطبت، وكيبوتسات ومدن زراعية احتلت وأحرقت وسلبت ونهبت. أهال قتلوا أمام عيون أبنائهم، أطفال ذبحوا أمام عيون أهاليهم. نساء اغتصبن، رؤوس قطعت. مدنيون، ونساء، وشيوخ وأطفال اضطروا لأن يقاتلوا في سبيل حياتهم دون أن يهرع الجيش الإسرائيلي لإنقاذهم أو يصل إليهم. كل الفظائع، كل الأسباب التي دفعت أباءنا لإقامة الدولة اليهودية هنا انقضت علينا من جديد، من بين كوابيس الماضي. بلدات إسرائيلية أصبحت تشبه البلدة اليهودية إياها، في أثناء الاعتداءات الجماهيرية. عادت الاضطرابات إلى حياتنا. كل هذا، فيما الدولة التي أقمناها تحوز لقب “قوة إقليمية عظمى” فخورة ولا تهزم. تضرجنا في دمائنا.
وكان شيئاً ما يتجاوز الجانب المادي والألم الإنساني. لأول مرة عاد الخوف الوجودي ليسترق إلى قلوب غير قليل من الإسرائيليين، انعدام الأمن اليهودي إياه، الإحساس بأن إسرائيل ليست دولة مسلماً بها. وجودها غير مضمون. هي هشة، ضعيفة، وأعداؤها يهددون. دخلت إلى حياتنا أيضاً “خطة الإبادة” الإيرانية. فجأة، دفعة واحدة، فهمنا أننا على مسافة خطوة من تحقق هذه الخطوة. “إبادة”. ما لنا وللإبادة؟ وبالفعل، بدأنا نعتاد هذا الاصطلاح من جديد.
كانت الأسابيع الأولى بعد الكارثة أسابيع استقرار من الصدمة. الجيش الإسرائيلي، وسكان الغلاف، ومواطنو إسرائيل، وحكومة إسرائيل، ورئيس وزراء إسرائيل… كلهم ربما باستثناء أوريت ستروك (“قبل كل شيء عيد سعيد”)، حاولوا جمع شظايا روحهم وحياتهم والتفكير بما يفعلونه بعد ذلك. واحد فقط من أولئك كلهم، ذاك الذي كان آخر من ذكر، كان ناجعاً ومركزاً منذ البداية. وكما بلغنا في هذه الصفحات، احتاج نتنياهو يوماً واحداً فقط ليجمع رجاله ويكلفهم بمهمتهم، مهمة حياته: نحن لا نرحل إلى أي مكان، قال لهم، هاتوا لي بخطة. كي ننجو من هذا. كيف نبقى في الحكم. كيف نستفيد ونستغل ما حصل هنا لصالحنا.
وهكذا كان
عندما سجل لسموتريتش قال إن الإسرائيليين سيصحون “بعد قليل” ويطردوننا، كان نتنياهو قد انتقل إلى خطة طرد خاصة به: كيف سيطرد كل المسؤولين، باستثنائه. لكنه في هذه الأثناء كان يعرف شيئاً بسيطاً: حتى ينجو، هو بحاجة إلى تعزيز، ووجده في شكل وطنيين إسرائيليين ساذجين، كسولين غبيين (من ناحيتنا)، إسرائيليين متفانيين من ناحيتهم: غانتس وآيزنكوت. كان انضمامهما منذ 11 أكتوبر قد سمح لنتنياهو بأن يجمع الطاقة اللازمة، ويلتقط الزمن الضروري، ويجتاز الفترة الصعبة ويبدأ بترميم مكانته في أوساط القاعدة.
كان انضمامهما حيوياً للانتعاش العسكري. نتنياهو نفسه خاف من المناورة في غزة. مخاوفه المتكررة لم تختف بل تعززت. اللواء إسحق بريك، العميد عوفر فينتر، وآخرون، أخافوه من شرك موت للجيش الإسرائيلي في غزة. غانتس وآيزنكوت رمما ثقته الذاتية. وغابي أشكنازي حث من الخارج. خرج الجيش الإسرائيلي إلى المناورة وسحق حماس بلا شروط. عدنا لأنفسنا.
لا حاجة لمزيد من الحديث عن النصر العسكري؛ فقد استخدم الجيش الإسرائيلي كامل قوته. سلاح البر جرى تأبينه قبل الأوان. المقاتلون، والضباط، وألوية المشاة، والمدرعات الرائعة، كلهم أعطوا ما لديهم في تضحية لا نهاية لها. “الشاباك” المرضوض والمهزوز، صحا، وهو يعطي ما يسمى “عرضاً” منذ 7 أكتوبر. أما “أمان”، فقد نهض مجدداً من غياهب هزيمته، ومثلها وحدة 8200 التي توفر كميات هائلة من المعلومات النوعية منذ 7 أكتوبر.
كل هؤلاء، يضاف إليهم بطولة المقاتلين في “النظامي” و”الاحتياط”، وقوة سلاح الجو ودقته وباقي وحداتنا التكنولوجية والقتالة – فعلت الفرق. غزة احتلت، وألوية وكتائب حماس هزمت، وكل قيادة حماس صفيت، وسلسلة قيادة حماس الوسطى والصغرى كلها صفيت، وحتى كل قادة شرطة حماس في غزة أرسلوا إلى السماء. قسم كبير من غزة نفسها دمر، وبنية الأنفاق تلقت ضربة قاسية.
العميد باراك حيرام، قائد فرقة غزة (الذي حل محل القائد المهزوز آفي روزنفيلد)، سُمع أمس في التسجيلات التي بثتها القناة 12 يبلغ سكان الغلاف بأن كل الأنفاق التي اجتازت محور فيلادلفيا من غزة إلى مصر أو العكس دمرت. ليس هناك هدف عسكري ذو مغزى إلا وحققه الجيش الإسرائيلي في غزة. مخزون صواريخ حماس دمر تماماً تقريباً، وقوتها العسكرية كُسرت، و25 ألف مخرب قتلوا.
صحيح، لحماس قدرة إعادة بناء. وأساساً في ضوء حقيقة عدم تمكن إسرائيل حتى الآن من إيجاد بديل لها، وحقيقة أنها تواصل السيطرة (رغم كل شيء) على توريد المساعدات الإنسانية. لكن لا شك أن قدرتها على تشكيل تهديدا ذا مغزى على إسرائيل أو تكرار مذبحة 7 أكتوبر مرة أخرى لم تعد قائمة، ولن تكون في السنوات القادمة.
في هذه المرحلة، وفي ضوء النجاحات الجارفة في جبهات أخرى أيضاً (الضربة القاضية التي تلقاها حزب الله والضربات الأليمة التي تلقتها إيران)، أعدت لإسرائيل خشبات قفز لإعادة البدء والانطلاق من جديد: الرئيس ترامب انطلق إلى الشرق الأوسط بقوة هائلة، يجر وراءه الجميع تقريباً – السعودية، الإمارات، قطر، تركيا وحتى سوريا، ومصر ودول المغرب. وكلهم يريدون القفز إلى عربة ترامب نحو أفق وردي من الاستثمارات المشتركة، والأحلاف الإقليمية والارتباطات الاستراتيجية.
الكل، باستثنائنا. القطار يغادر المحطة بدوننا. مسيرة تحول نتنياهو إلى بن غفير استكملت. وقد أصبح الليكود حزباً كهانياً. تفكيك مؤسسات الدولة الممنهج يتواصل بقوة شديدة. الآن، يتهجمون حتى على رئيس الأركان الجديد الذي لتوهم عينوه بأنفسهم. نحن على شفا أزمة دستورية، فيما يتحدث الحزب الحاكم بصوت عال عن عدم طاعة قرارات محكمة العدل العليا.
لقد فقد نتنياهو الكوابح والتوازنات الأخيرة المتبقية له. ليس واضحاً ما إذا كان مشوشاً أو كاذباً، وليس واضحاً ما يدور في رأسه حين ينكل بعائلات المخطوفين أو يبلغ، في شريط رسمي، بأنه حرر 25 مخطوفاً (لم يتحرر أي واحد) منذ بدل طاقم المفاوضات.
لماذا كل هذا؟ من أجل بقائه الشخصي. الخطة إياها، التي وضعت في 8 أكتوبر، نجحت. هو لا يزال هنا، حي، يركل ويهذر. لا توجد في العالم دولة رئيس وزرائها كلي القدرة ويمكنه النجاة أكثر من أسبوعين بعد حدث مثل 7 أكتوبر. هذا مميز لنا. نتنياهو يعرف أنه لم يتبقَ من حماس شيء تقريباً، ويعرف أنه يجب مواصلة الحرب ضد حماس بالطريقة التي نقاتل فيها في الضفة، ويعرف أنه لا ضمانة دولية في العالم تمنع إسرائيل من العودة إلى غزة، جواً أو براً، حتى بعد اتفاق لإعادة كل المخطوفين. يعرف نتنياهو أن إسرائيل تصبح دولة منبوذة في هذه الأيام، ويعرف أن أحداً غير مستعد لأن يطير إلى هنا أو يستثمر عندنا، وأن عشرات الدول تفكر بفرض عقوبات علينا أو الاعتراف بدولة فلسطينية، أو هذا وذاك. هو يحطم إسرائيل من الداخل، ومن الخارج أيضاً. كل شيء مشروع من أجل نجاته. الملك أهم من المملكة.
ليس نتنياهو هو المذنب. هذا هو الرجل. كان إسحق شامير قد وصفه بأنه “ملاك التخريب”. وها هو الملاك قد تحول اليوم إلى شيطان، والتخريب إلى سقوط، لكن يوجد حول نتنياهو أناس كثيرون يسمحون لهذا بهذا، في حزبه وخارجه. أناس يرون المشاهد ويسمعون الأصوات، وينظرون بعيون عليلة إلى تفكك الحلم الصهيوني، إلى تفكك كل المؤسسات، وذلك لمنح عائلة الحاكم هواء التنفس. أناس يعرفون الحقيقة ويتنكرون لها. هم الشركاء في الجريمة. ولن يطهروا؛ لا في محاكمة التاريخ، ولا في محاكمة الشعوب أيضاً.
وعليه، القصة بسيطة: إسرائيل هُزمت، نتنياهو ينتصر.
بن كسبيت
معاريف 28/5/2025