كتب

«ممرات بيضاء لغزالة وحيدة» مجموعة القاص المصري كرم الصباغ: رحلة سردية في عالم المتصوفة والدراويش

«ممرات بيضاء لغزالة وحيدة» مجموعة القاص المصري كرم الصباغ: رحلة سردية في عالم المتصوفة والدراويش

صابر رشدي

أميل أحياناً إلى بعض الأعمال التي يلتحم فيها الكاتب بواقعه، كاشفاً عن خفاياه، راصداً أدق تفاصيله، بفضل إحساسه العميق بما يدور حوله، ومحاولاته الصادقة للتعرف على العالم القريب منه، سبر أغواره، والوقوف على بعض تفاصيله، دامجاً ذلك، بالفانتازيا والعجائبي؛ فلكل كاتب تجاربه، وثيماته المحببة التي يختلف بها عن الآخرين. إن أصحاب هذا النزوع يقدمون عروضاً قصصية للواقع السحري المحيط بهم، يحفظون الأحداث من خلال إعادة سردها بما يتفق مع مقام الكتابة الإبداعية، وفنيات هذا التيار الذي يعتمد المفهوم الاجتماعي للأدب.
وهذا ما بدا لي وأنا أطالع المجموعة القصصية «ممرات بيضاء لغزالة وحيدة»، للكاتب المصري كرم الصباغ، الذي يمسك بالتوترات التي تحتشد بها نصوصه، ويسردها بعبارات مصقولة ولامعة، محاولاً استخلاص الروح المحلي، شديد الخصوصية، مظهراً معالم الحيز المكاني الذي يعمل عليه، على نحو درامي، يعطي القصص الحيوية اللازمة التي تتراءى لنا ونحن نتابع حوادثها، المبنية على بعض العادات الموحية بالصورة الكاملة لحقائق الحياة الريفية، مقتحماً حيوات شرائح معينة، لديها إحساس متسامٍ بما يدور حولها، فكل شيء سائل، يمضي في طريقه إلى العدم، متماهياً مع الموروث الغرائبي للقرى.
ورغم الحيز الزمني الضيق للقصة القصيرة، فإننا نطالع شخصيات لديها مشاعر مبهمة عن العالم الخارجي، تتعثر في متاهة من الغموض الذي صار مألوفاً من كثرة تداوله، كما في قصة «أمطار الناي». حيث أجواء ضبابية تغلف عالم القصة، وأبطال لا تذكر أسماؤهم، وزمن بلا تاريخ محدد، نبدأ من فكرة بسيطة، يدعمها التقدم السريع للأحداث، والرؤية الخيالية، التي تغطي النص، وتحاول أن تترك للقارئ فعل المشاركة في بناء مسرح خاص به تدار فيه الأحداث. ليس هناك سوى شخصيتين: الأولى «حوذي» صارم القسمات يطوح سوطه في الهواء، ويلهب ظهور أحصنته الثلاثة الصاهلة. لقد جاء من أجل هدف محدد، تركه الكاتب للحدس. وها هو يتوقف بعربته أمام دار طينية واطئة، ويطلق الأبواق، لنرى الشخصية الأخرى: كهل داخل الدار يسمع النفير بوجل، فيسارع إلى كوة الباب، يرمق العربة بقلق واضطراب، ثم يعود كالمجنون إلى أوراقه المهملة، متعجلاً ما تبقى في رأسه من فكر. يبدو أنها شخصية كاتب تاهت روحه منذ سنين، وهو ما زال يفتش عنها. يخبرنا المؤلف بأنه كان يكتب عن «مرآة مهشمة، وهزائم شتى، ووجوه من شوك، وانتصار وحيد لم يكتمل قد داهمته الأبواق».
في النهاية يخرج من الدار، بوجه متوجس، وأقدام مرتعشة، بعدما لملم أوراقه وأشياءه، مستجيباً للحوذي الشرس، ذاهباً معه بلا إبطاء، في رحلة إلى المجهول، ملقياً به عند سفح جبل رمادي، ثم تركه وحيدًا، في عالم آخر، لم يعرف عنه شيئاً.

من هو ذلك الحوذي؟

من هو ذلك الكاتب، وهل يعاقب جراء شيء ما، اقترفه في حق الإنسانية، هل هي رحلة للتطهير، والعودة من جديد؟
ثمة أسئلة يطرحها النص، على نحو ما، قبل عثور شخصية الكاتب على ومضات من النور، والتغيير في صحرائه النائية، وعذابه العوليسي في رحلة العودة.
في قصة «مرايا النهار» ثمة رجل من هؤلاء الذين تعج بهم القرى، يصفه الكاتب منذ لحظة استيقاظه محملاً بأحزانه، يغلف جسده النحيل بجلبابه «الكستور»، ينتعل قبقابه الخشبي، الذي يكسر في خطوه صمت العزلة. لنتعايش بعدها مع الوصف الشامل للدار الضيقة التي لا نرى فيها سوى حصير مهترئ، ووسادة من ليف، وأغطية بالية، وأطباق قديمة، وموقد كيروسين. نتابع حياة بسيطة جداً لا شيء مثير فيها، حتى ننتبه في الفقرة الأخيرة، إلى تحول السرد من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في نقلة نوعية يقفز بها الراوي إلى عالم آخر مختلف ومربك، حيث نجده يتماهى مع بطل القصة دون أن نعرف من هو هذا الرجل: «أنتبهُ، فجأة أمد بصري؛ فأرى مربوعة فسيحة، وأرى حشداً من أهالي النجع، يجلس بينهم شيخ، تشبه ملامحه ملامحي.. ممتلئ الجسم هو».
لحظة بعد أخرى، نجد أنفسنا حيال رجل يرتدي جلباباً فاخراً، يقبض على عصاً مزدانة بزخارف ونقوش عربية، يتكلم فيصغى إليه الناس، يصمت فتتعلق به الأعين. يستمر الراوي – بدون تعثر- في رصد التحولات، يصف تعاطفه الطارئ معه. مع الانكشاف التدريجي، نعرف أننا أمام تلك الشخصية السابقة، من خلال عدد من المفاجآت المتقنة التي يجيد الكاتب صنعها.
من واقعيتنا العجائبية، الخاصة بنا، والتي تغذيها الحكايات الشعبية، والميثولوجيا الدينية، والحكي الشفاهي، وعالم التصوف، وأهل الطريق، وأهل السبيل، وأهل الحضرة، أصحاب الأوراد المباركة، وأهل الخطوة، الذين يُقيمون صلاة العصر في «السيد البدوي» في مدينة طنطا بمصر، ليلحقوا بصلاتي المغرب والعشاء «بالحرم النبوي» هناك، في المدينة المنورة. من هذا الواقع الموازي، السائر بخفة، جنباً إلى جنب، رفقة واقعنا الخشن، يمتح كثير من المبدعين من هذه العوالم الساحرة، قابضين، حتى هذه اللحظات، على القليل جداً من فيوض هذا الجانب المطمور في الخفاء، والذي لم يأخذ حقه بعدُ في الكتابة الإبداعية.
في قصة «باب غريب»، نعاين شخصية أخرى من الذين يعيشون على هامش الحياة العادية، مستغرقاً في عالمه الخاص، خلوة يؤوب إليها، متعبداً، متبتلاً، يقرأ أوراد الليل بلا انقطاع. ويرى ما لم يستطِع أحد رؤيته، تقدم إليه يد وضاءة شراباً ملائكياً، يرى غزلاناً تطوف حوله في «الحضرة»، ينفتح له باب أبيض، تكسوه هالات وزخارف تسلب عقله، ولما همَّ بتجاوزه، ترده اليد الوضاءة، ليعود «غريب» بروح خجلة يخصف ورق الزيتون على عورة نقصه. إنه يعيش بمنأى عن العالم، مبتعداً عن المجتمع المحيط به. مع متابعة القص، قد نكتشف أنه يكاد يكون أقرب إلى شخصية رمزية، بداية من الاسم، الذي يحمل في طياته صفة وحالاً، يدير الكاتب من خلالهما صراعاً بين الخير والشر، عبر الإغواء الجنسي، وعبر الخطيئة، ويكشف إلى أي مدى أن الخطر دائماً ما يحيط، بمثل هؤلاء البشر، نتيجة المحاولات الشيطانية التي لا تهدأ للإيقاع بهم، بغية إبعادهم عن «الطريق».
تذكرني وحدة أسلوب هذه المجموعة القصصية، بكلمات ريتشارد وولش منظِّر السرد الإنجليزي الشهير في دراسته الرائعة عن «التداولية اللغوية في القصص الخيالية السردية»، وهو يقول في إحدى الفقرات، تعليقًا على مثل هذا النوع من الكتابة: «أريد أن أقول إن الطابع الخيالي يعمل داخل إطار تواصلي، فهو يكمن في إحدى طرائق استعمال اللغة، ويكمن تميزه في التركيبة البلاغية التي يسهل إدراك تميزها والتي تُنشئها طريقة استعمال اللغة. وأفترض أنه من المفيد التمييز بين الطابع الخيالي للسرد وبين الطابع السردي [السردية] بصفة عامة، أي أنني أريد أن أمنح قوة كاملة للقول بأن السرد كله بناء مصطنع، وأنه في حدود هذا المعنى المقيد بصرامة خيالي، ولكني أقول مع ذلك إن السرد الخيالي يلعب دوراً ثقافياً متميزاً مترابط المعنى، وإننا في حاجة إلى مفهوم متميز للطابع الخيالي حتى نبرر هذا الدور ونفسره».
في هذه الإضمامة، ثمة وحدة واتساق للصوت السردي. لاعتمادها لغة متجانسة، من حيث النغمة والإيحاء، فبناء القصص يعتمد على تجارب داخلية، متشابهة رغم اختلاف الشخصيات، ربما لوقوعهم في المحيط الزمني نفسه، والحيز المكاني عينه، وكأننا نقرأ وجوهًا متعددة لذات واحدة. تتكرر عليها الثيمات الشعورية والنفسية درجة التطابق أحياناً، حيث الإيقاع العام لمعظم النصوص يسير في منحنى تصاعدي. معتمداً على إماطة اللثام شيئاً فشيئاً، عن المشاعر الداخلية، كما نرى في قصة «سُنْدس الطَّيِّبين»، فنحن ما زلنا هنا، لم نبارح عالم الدراويش، المتيم به الكاتب، فبطله يكاد يفقد صفاته البشرية، متحولاً إلى كائن نوراني، متحداً مع الطبيعة أحياناً، وكأن هناك دعوة مضمرة، نلحظها من بين السطور، تنادي بمراجعة علاقتنا بالعالم المادي، عبر الذكر، التأمل، والزهد، من أجل استعادة البراءة الأولى، ونقاء الفطرة، والسكن في عالم الرضا والقبول، حيث تختفي الأنا، ويسطع النور الإلهي: «مدد.. مدد.. مدد، طرق على الأبواب هتف الدراويش ذاكرين: الله محبة أثلجت وجع المتعبين من الرزايا.. الله نور البراح والزوايا.. الله حي رق له عنفوان البحر وقلب الصخر، وطيش الريح.. الله حي به حيث القلوب.. الله أكبر.. الروحان تعانقتا، وتم الامتزاج والذوبان».
يختلط السرد بالابتهال، بصيغة موسيقية متناغمة مع الحالة، يتصاعد رويداً رويداً، ثم ينفصل بعدها عن هذا الإنشاد، المضفور بالغنائية، كصدى لفظي لإيقاع الكون، عائداً إلى النص: «يا عبدالقادر: قد آن أوان الترحال.. اخلع قميص الدنيا من رقبتك.. أنت مختار فلا تبتئس، هاك تلك الروح روح أبيك قد مُزِجَتْ بروحك دُسَّها بين الحنايا.. يا وارث العهد والطريقة: لم يمت أبوك، فالشيخ «حسن» حلت روحه فيك، فأورثك عذوبة الصوت، وحلاوة النشيد.. قم، واخرج على الناس بوجهك الصبوح.»
إن تكرار ثيمة المتصوفة والدراويش، واستدعاء هذا التراث تحديداً، في كثير من قصص المجموعة، يبدو وكأنه رغبة سردية لدى الكاتب للهروب من الخراب، من عالم مفكك، مشحون بالعنف، يعاني الفقدان الروحي، والابتعاد عن المقدس، فهو لا يكتب ليسرد حالات، قدر ما يعبر عن حالات وجدانية، فنحن بصدد شخصيات منعزلة، مضادة للواقع، وكأننا إزاء رفض ناعم، لهذا الواقع، لا يعتمد التمرد، ولا تقوده رغبة عنيدة في مواجهة العالم، ولكنه يلجأ إلى أنجع الوسائل أماناً، متواصلاً مع العلوي، والمتسامي، ففقدان عالم الضجيج والصخب، والجفاف الروحي يعد مكسباً غير هين، وكأن هذا الفضاء البديل امتداد للذات الباحثة عن التطهر، عن معنى نبيل، مفتقَد، عن طريق القلب غالباً، من خلال التوسل بالذكر، والأوراد المباركة، في مقاومة روحية، تتطلب ذوات صلبة، رغم ضعفها الظاهري، ربما أراد الكاتب تصوير هذه الشخصيات كبديل رمزي للواقع الحديث، بالغ المادية والتدجين؛ فوحدها الكتابة هي القادرة على تنبيهنا، بأن عالماً بلا روح هو عالم بلا مستقبل.
كرم الصباغ: «ممرات بيضاء لغزالة وحيدة»
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2024
109 صفحة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب