مدير «مسرح الحرية» في مخيم جنين مصطفى شتا: الاحتلال سيطر على المسرح وحوله إلى مكان للقبح والوحشية

مدير «مسرح الحرية» في مخيم جنين مصطفى شتا: الاحتلال سيطر على المسرح وحوله إلى مكان للقبح والوحشية
سعيد أبو معلا
جنين ـ على بعد 150 مترا من أكوام تراب ضخمة وضعتها جرافات الاحتلال على إحدى مداخل مخيم جنين التقت «القدس العربي» المدير الإداري لمسرح الحرية في مخيم جنين مصطفى شتا، بعد فترة قصيرة من خروجه من سجنه في الاعتقال الإداري.
كان اللقاء في «مدرسة المسرح» على أطراف المخيم الشرقية، وهو غير بعيد عن «مسرح الحرية» الذي يقع في قلب المخيم المغلق أمام سكانه بعد أن تم تهجيرهم وطردهم قسريا.
«مسرح الحرية» الذي يعتبر أحد معالم المخيم فيقول شتا إنه تحول إلى منام لجنود الاحتلال بعد أن دمروا محتوياته والمقتنيات الخاصة به.
كان الحوار مع شتا حول ثقافة المقاومة، ودور الفن عموما والمسرح خاصة، في ظل الإبادة.
جنود جيش الاحتلال ما زالوا يعملون، على قدم وساق، على إعادة هندسة المخيم، فيما طاقم المسرح يلملم خسائره ويبحث عن دور فني وثقافي، محليا وخارجيا، فالأمر حسب مصطفى شتا، «لحظة استثنائية» للعمل وتقديم الرواية الفلسطينية كما يريدها الفلسطينيون في أشد لحظات الاحتلال جنونا ووحشية. لم يقرر المسرح الرحيل ولا الانتظار، بل أخذ يستثمر المساحة التي توفرها مدرسة المسرح على أطراف المخيم لتقديم حياة فلسطينية فنية بثقة نادرة، ترفع شعار «ثقافة المقاومة»، وفيما يلي نص الحوار:
○ الوضع صعب في جنين وعموم الضفة، فيما المسرح مغلق في وسط المخيم بفعل العملية العسكرية إلا انكم قدمتم عرضا مسرحيا مهما حمل اسم «مروح ع فلسطين» وهو عرض قديم لكن أعيد للخشبة.. حدثنا عن التجربة التي تبدو نقيض ما يجري في الضفة حيث جهود الاحتلال لتهجير الفلسطينيين؟
• الفنانون دوما ما يبحثون عن مساحات بالوطن أو خارجه، مسرح الحرية، بدوره، كان يبحث عن هذه المساحات، وتحديدا في ظل الظروف الصعبة التي نمر بها. شاءت الظروف أن يكون العديد من الفنانين في لندن، وأمام فرصة أن نكون ضمن «مهرجان شباك»، الذي يشجع على الثقافة والتواصل بين الشعوب، كان لدينا علاء، معتز، أسامة، أمير، صوفيا، أمينة أيضا، وإلى جانب الفنانة والمخرجة المبدعة ميكائيلا ميراندا، التي كانت مديرة المسرح سابقا، لقد كونوا مع بعضهم قصة قوية، وأعادوا الاعتبار للمسرحية، من خلال تدريبات مكثفة لمدة 5 أيام، وتم تقديم العرض، الذي نجح. أبهر العرض جمهور لندن، وأوصل صوت فلسطين من جنين إلى العالم.
واليوم، هناك نقاشات بشأن جولة ثانية من العروض. ننظر لأهمية المسرحية، بأن الوقت جدا مهم أن يسمع العالم الرواية الفلسطينية بعيدا عن الدبلوماسية والإعلام، فأنت تسمع القصة الحقيقية من خلال الفن.
○ المسرحية التي عرضت في لندن كان أول عرض لها على ما أعتقد عام 2017، عن ماذا تتكلم هذه المسرحية التي يبدو أن الواقع اليوم يحمل مؤشرات عكس اسمها «مروح ع فلسطين»؟
• المسرحية تتحدث عن شاب فلسطيني اسمه جاد، يشجعه أهله على زيارة فلسطين التي ينتمي إليها، بينما يريد هو حياة الرفاهية في أمريكا، لكنه يقرر بلحظة أن يأتي لفلسطين، فيعيش الحياة كما هي، يأتي عن طريق حاجز الجلمة، يدخل جنين، وتحديدا إلى المخيم، ويعيش حياة سكانه، ثم يذهب بجولة إلى غور الأردن في أريحا، بعد ذلك إلى بيت لحم، ومخيم الدهيشة، وهناك يبحث عن فتاة من مخيم الشجاعية تدعى ريما، وخلال وجوده يستشهد مالك، رفيقه، فيقرر البقاء في فلسطين، في أطار التوثيق والمساعدة.
إنها تشبه قصة فيلم «عسل أسود» لأحمد حلمي، مع توسعنا أكثر في المساحة الوطنية، والتغييرات التي حصلت على البطل في ضوء التغيرات في الوطن. مسألة ثانية، المسرحية في الأصل تقوم على مجموعة قصص حقيقية جمعها المسرح من خلال جولة «باص الحرية»، لقد استطعنا أن نكتب قصة متكاملة وهي نتاج مجموعة من قصص الفلسطينيين على امتداد الجغرافيا الفلسطينية.
○ يبدو لي أن المسرحية استوجبت التنقل داخل الجغرافيا الفلسطينية المهددة، قد يشكل الأمر تحديا للعمل المسرحي؟
• نعم صحيح، كامل القصة هي نتاج قصص من المواطنين على امتداد الجغرافيا الفلسطينية. تأثرت المسرحية برسالة من غزة، كتبها غسان كنفاني عام 1956، تتحدث عن الشجاعية بالتحديد، المسرحية خليط بين ما يحدث في الضفة الغربية قبل أحداث الحرب، والعلاقة مع غزة.
○ كأنك تريد القول، بأن هناك فرصة ثمينة للفلسطينيين، بأن يخترقوا العالم بمنتجاتهم الفنية كي يحققوا التأثير في ظل ما تمر به قضيتهم؟
• أعتقد بأنها فرصة أكثر من استثنائية، لأن الاحتلال بفعله العبثي وجنونه الانتقامي والوحشي، يخسر القواعد الشعبية في العالم، وهي قواعد تتجه نحونا، لأنها تريد سماع القصة الحقيقية. الأحداث في فلسطين أعادت الاعتبار للقضية من جديد، اليوم الرواية الفلسطينية لا تقدم من الناحية السياسية التقليدية التي تتكرر من 100 عام بدون وجود أي تأثير فعال. بالتالي، عندما تقدم الرواية بطريقة تستطيع أن تصل بها للناس، من ناحية ثقافية، من خلال المسرح، الموسيقى، تحدث حالة الاختراق، الجهد كبير من زملائنا في المؤسسات الثقافية والفنية.
اليوم تعمقت فكرة لدينا تقول إنه يجب تقديم القصة مباشرة من دون أي «ميك آب» يناسب الغرب، لقد عشنا في خديعة لوقت طويل، بأن يجب أن نقدم روايتنا كما يفضل «الغير» أن يسمعها، وأن نعمل كما يحبون هم، لكني اليوم أقدم نفسي وروايتي كما هي، أنا فخور بأني شرقي وعربي وفلسطيني، نقدم في المسرح أنفسنا بصفتنا شركاء وجزء من هذا العالم، ولست ملحقا أو تابعا، ولا أقدم نفسي فنيا كي أحصل على فتات من المال.
○ هل هذا التطور في وجهات النظر والرؤى مرتبط بك مصطفى وكمسرح حرية، أم هو حالة فنية عامة في فلسطين بفعل حرب الإبادة والموقف الغربي منها؟
• لا أريد القول إن الجميع يحمل نفس الموقف، لكن، سأتكلم لماذا نحن في المسرح تحديدا نقع تحت هذا التأثير ونعلن هذا الموقف، لقد رفعنا طوال الوقت خطابا شعاره الأساسي «المقاومة الثقافية»، وكنا نسأل أنفسنا: هل كنا مخلصين للشعار أم لا؟ بصراحة، ما بعد كورونا، شعرنا أننا بالفعل نعمل ما نؤمن به، كل ما كنا نقدمه كان همه الأساسي التعريف بفلسطين كما هي، من النهر للبحر، حتى لو كان ذلك ضمن إطار حل متخيل، وبسبب ذلك تعرضنا للكثير من المشاكل والأزمات التي لها علاقة بالتمويل، قمنا بإقالة موظفين، وكان من أصعب القرارات، تعرضنا للاعتقالات حيث طالت رئيس مجلس الإدارة، والمدير الفني السابق أحمد طوباسي، ومجموعة من الفنانين والزملاء الذين يشاركوننا المنطلقات ذاتها، في السنة الأخيرة تغيرت طبيعة المكان لقد تحولنا لمركز معلومات للمخيم، أصبحنا المنسقين والمرشدين لكل الصحافيين القادمين إلى جنين، تطور الأمر وأصبحنا نظهر على الوكالات الإخبارية ونقدم وجهة نظرنا وواقع المخيم، كان لدينا صوت شجاع، ونحن فخورون بذلك، على الرغم من التأثير الكبير الذي تعرضنا له حتى في علاقتنا مع المؤسسات الثقافية الرسمية.
○ لقد تعرض المسرح لأكثر من استهداف، برأيك، هل كان استهدافه مقصودا، أم أنه جزء من استهداف المخيم؟
• إذا أخبرتك أنه استهداف مقصود فإنني أعطي أهمية أكبر للمسرح، وهذا ممكن، لكن المؤكد بالنسبة لنا أن إسرائيل استهدفت كل ما له علاقة بالحياة في المخيم، مثلا، كانت هناك شجرة على باب المسرح قام الاحتلال باقتلاعها، لماذا وكيف نفهم ذلك؟ الفكرة ليست لها علاقة بالمكان كمكان، إنما بكل ما له علاقة بالحياة، إسرائيل في البداية كانت تتجنب استهداف أماكن مثل المسرح، قبل 7 أكتوبر عام 2023 بثلاثة أشهر حدث حريق طال 5 سيارات على باب المسرح إلى جانب انفجار ضخم، خرج الاحتلال وقال إنه لا يستهدف الأماكن الثقافية، لكن لاحقا، الصور داخل المسرح، وشاشة العرض داخل السينما رسموا عليها نجمة داوود، قاموا بتكسير الجوائز التي حصل عليها المسرح، جهازي الكمبيوتر محطم أيضا، الفكرة هنا، ليست فقط اقتحام مكان، انما التفاصيل بداخل هذا المكان، لقد استهدفوا التفاصيل داخل المسرح، فشاشة العرض والجوائز التي لها علاقة بتاريخ المسرح لا تشكل أي تهديد على الاحتلال، ومع ذلك تم تدميرها، كما لاحظنا أن تركيز استهداف المسرح له علاقة بمحاولة اقتلاع الهوية الثقافية للمكان.
○ عمليا المسرح هو أحد رموز المخيم، يأتي الزائر للمخيم، يذهب إلى مقبرة الشهداء، وبنفس الوقت يزور المسرح، أرى أن استهدافه لكونه مصدر للحياة، وهذا يدفعني للتطرق لسؤال، ما وضع المسرح اليوم بفعل الاقتحام المستمر منذ أشهر، هل لديكم معلومات وأخبار عنه؟
• ما عرفناه مؤخرا أن الجيش احتل المبنى بالكامل، وحوله إلى منطقة استراحة للجنود، وضعوا علما كبيرا على سطح البناية، من مكان بعيد يمكن مشاهدة العلم، لقد تحول من مكان جميل ينتج الفن والإبداع إلى مكان يضم كل القبح والوحشية بفعل وجود جنود الاحتلال، تحول من مكان لانطلاق العمليات العسكرية في جنين.
بالضبط لا أملك معلومات حول ما فعلوه بالمسرح، لدي تخيلاتي أن هؤلاء الجنود يستغلون المسرح لمشاهدة أفلام، ويستخدمون المسرح كمكان لراحتهم، أتخيل أنهم بالمكان غير مهتمين بالمعدات والأجهزة الثمينة داخله. المؤكد انهم يستخدمون المسرح بطريقة تختلف عن استخدام الفنان له، بالنهاية هم ليسوا أصحاب المكان.
تأسس المسرح من مجموعة من الناشطين الإسرائيليين الذين قرروا القدوم إلى جنين خلال الانتفاضة الأولى، كانت على رأسهم آرنا، ساعدت في تأسيس بيت الطفولة بعدها المسرح، ثم جوليانو وهو ابن آرنا، والذي كان يعيش حالة صراع.
اليوم الإسرائيليون، وبعد حوالي 14 سنة من اغتيال جوليانو، الذي لم نعرف بعد من قام باغتياله، لكن الاحتلال نفسه اليوم يقول لنا بسياق غير مباشر من اغتاله. لكون النموذج نفسه الذي شكله المسرح لم يكن يرضي الاحتلال، واليوم وجود المسرح في مخيم جنين، المكان الأكثر راديكالية والقوة العنيفة ضد الاحتلال، يجعل الاحتلال يعمل على إلغائه، ليبقى التركيز على مفهوم العنف المجرد داخل المخيم.
عادة ما يطلب رأينا بأشكال المقاومة في فلسطين، كنت أجيب أنني فخور جدا بوجود المقاومة، نحن في مسرح الحرية نتعامل مع المقاومة كفكرة أو كلوحة فسيفساء ونحن حجر في هذه اللوحة، نعتز بانتمائنا للمقاومة، وبالتالي لا ننكر أشكال المقاومة الأخرى.
○ في العودة الى أصل المسرح في المخيم، وفي فيلم «أولاد آرنا»، يطرح سؤال: لماذا يتركون الفن ويحملون السلاح، هذا السؤال، ما زال حتى يومنا مطروحا وساخنا، كأن السؤال الذي طرح قبل 25 عاما، ما زال مستحقا، ما تعليقك هذا الموضوع؟
• بصراحة لا أرى هذا السؤال منطقيا وطبيعيا، فأول من المقاومة المسلحة إلى المقاومة الثقافية كان زكريا الزبيدي، وهو من قام بافتتاح المسرح، ولاحقا تبعه ربيع تركمان، كانوا جزءا من كتائب شهداء الأقصى، كنا ناشطين بالعمل السياسي بشكل عام، قررنا أن الفعل السياسي الأكثر تأثيرا هو العمل الثقافي، لكن، أحلام الشباب، سواء كانت مرتبطة بالمسرح أو بالحياة بشكل عام التي تحطمت أمام اليأس الذي زرعه الاحتلال، خلق الدوافع لجعلهم يتجهون نحو خيار المقاومة المسلحة.
هنا أنا أطالب بالحذر، فلا أريد أن أتعامل مع المقاومة المسلحة كطريق الهروب من الواقع، التصورات التي تضع سياق المقاومة بأن دوافعها هي دوافع نفسية، مرتبطة بيأس المقاوم وإحباطه، هي غير صحيحة، لا تأسس لفكرة سبب وجود المقاومة، إذا كانت المقاومة انطلاقاتها يائسة، فهي ستكون فعلا يائسا، المقاومة سببها تراكم كبير من الوعي نتيجة الضغط الكبير الذي يشكله الاحتلال على حياتي، بالأصل لا أعيش حياة طبيعية بسبب وجود الاحتلال، إذا أنا أربط كل تفاصيل حياتي بالاحتلال تصبح جميع مفاهيم دوافع المقاومة حقيقية وموجودة.
○ كيف تنظر إلى واقع المخيم اليوم، حيث المحصلة أن مخيم جنين كما المسرح تحت سيطرة الاحتلال، أي مشاعر وأي تناقض وأي معطيات في ظل أن هناك استدعاء للناشطة اليهودية آرنا التي ناصرت الفلسطينيين وابنها جوليانو خميس ومشروع المسرح قبل سنوات كثيرة؟
• مشروع جوليانو خميس لم يكن تعايشا وسلاما، بدايات مشروع المسرح داخل المخيم له علاقة بالتحولات الفكرية التي مرت بها والدة جوليانو آرنا التي كانت صهيونية، لكن بعد معرفتها عن فلسطين قررت مساعدتهم، جوليانو جاء للمخيم لمشاهدة ما الذي تفعل أمه في هذا المكان، ولاحقا انضم لأمه لمساعدتها في مشروع تمكين الأطفال. بعد عودة جوليانو عام 2000، عاد للانغماس فعليا بماهية القضية الفلسطينية، خلال اجتياح عام 2002، وفي إحدى زياراته للمخيم اكتشف أن الأطفال إما شهداء أو معتقلون، فجاءت فكرة إنتاج فيلم «أولاد آرنا»، وجد جوليانو مثلا الطفل أشرف أبو الهيجا الذي كان ممثلا في المسرح قائدا لحماس، أما عائلة الزبيدي وتحديدا طه كان قد استشهد، ويحيى وجبريل فكانوا معتقلين، وزكريا مطارد. سنجد يوسف سويطات وأشرف أبو الهيجا وداوود زبيدي، أي من كانوا في مسرحية آرنا الأولى استشهدوا على الرغم من اختلاف انتماءاتهم الحزبية، لقد كانوا يستخدمون منصة المسرح لتقديم قصتهم كأطفال.
عمليا اليوم الاحتلال فاقد للوعي، الإنسان الذي يفقد وعيه يصبح مجنونا، وهم بهذا السياق يساهمون بتعزيز الرواية الفلسطينية، وهذا يعزز من عملنا، صحيح أننا غير موجودين في المسرح، في المكان الأصلي، من المكان الذي نجلس فيه يبعد عنا المسرح حوالي 250 مترا، وهنا نحاول العمل بالحد الأدنى، قاعة صغيرة للأطفال، نعمل مع الأطفال النازحين، وهناك مشاريع تعتمد على التبرعات التي نحصل عليها من الأصدقاء حول العالم، هؤلاء لديهم إيمان ببقاء عمل المسرح، وفي المقابل ليس هناك اهتمام من الجهات الرسمية مثل وزارة الثقافة، ولا من أي طرف.
وفي المقابل، نحن في مكان نشعر فيه وكأننا نعيش في عالم آخر، بالمقارنة مع ما يجري في غزة، إسرائيل نجحت في تقطيع أواصر الضفة الغربية، قسمتنا وجعلت كل منطقة تعيش وكأنها في ظروف وعالم خاص، ما يجري في فلسطين يطرح علينا أسئلة صعبة للغاية وإشكالية، أمور غير منطقية تحدث وتضعنا في صراعات حادة وحالة من الاختناق على مستوى الدور والفعل وبما نؤمن به وما يجب أن نطلب الآخرين به.
قال غسان كنفاني ما معناه إنه عندما تلمع البنادق في وقت المعارك يصبح دور المثقف والأديب خلف المسألة وليس أمامها، نحن اليوم بمكان لا نعرف أين في ظل ما يجري في غزة؟ وما هو دورنا؟ وكيف يمكن أن نقول لهم اصمدوا؟ وهل أنا معهم فعلا؟ هل ما أقوم به من أنشطة مسرح تجعلني مع غزة مثلا؟ وكيف يجب ان أكون معهم فعليا؟ تماما مثلما كان شباب المخيم يطرحون علينا أسئلة ساخرة عندما كنا نحدثهم عن المقاومة الثقافية وهم يتصدون لاقتحامات الجيش.
ما أعرفه تماما أننا في المسرح نشكل أرضية للوعي، يهمني أن يكون الجميع معي كي نفهم من نحن وما هو دورنا وما معنى الاحتلال ومن هو عدوي وكيف يمكن أن نهاجمه وما نوع الأداة المناسبة؟ هذا النوع من الوعي بالنسبة لي يشكل الأرضية المطلوبة فلسطينيا.
○ أسئلة شائكة تطرحها في هذه اللحظة يضاف إليها كيف يمكن أن نفهم دور الفن في لحظة إبادة، هناك تهجير في غزة وجنين أيضا، كيف يكون دور الفن؟
• نحن فعلا نريد طرح القضايا على خشبة المسرح، المسرح ميزته الأساسية أن يكون مرآة للواقع، إنه لا يعمل كأكذوبة أو يخدع أحدا، يقيم المقاوم وينتقده بشكل حقيقي، وينتقد السياسيين في حالة الخطأ، ويتكلم عن الفلسطيني كما هو، بالتالي هذه فرصة استثنائية.
ضمن هذا السياق نسعى إلى تقديم مسرحية تعمل على التاريخ الشفوي لمخيم جنين، طلبنا من الكاتب والصحافي عصري فياض أن يقدم لنا مجموعة من قصص المخيم، وقام بذلك منذ فترة طويلة، وبعد فترة وجدنا أن جزءا من أصحاب القصص قد اختفى (رحل/ مات)، نريد أن نفهم كيف هي الحياة داخل المخيم، من المهم جدا الحديث عن المخيم في لحــــظة يتم تدميره، وبالتـــالي من المهم التقاط اللحــــظة ليس فقط كتــاريخ، انما كمشاعر إنسانية ونفسية.
في مواجهة الإبادة يقع على عاتقنا دور مركزي، مثل ربط التجربة الفلسطينية بحالات المقاومة التي حدثت في العالم، مثل كيفية اجتثاث ثقافة ايرلندا واحلال الثقافة البريطانية مكانها، ومواجهتهم لهذه المعركة من خلال المسرح ومدى تعرضهم للاعتقال، وكذلك المحاولات الرمزية لمجموعات «الهنود الحمر» في أمريكا، دورنا مركزي، ليس فقط للمسرح، بل للعمل الثقافي ككل، مهم جدا الاستثمار بالثقافة الفلسطينية. أصبح الفلسطيني رمزا ويجب الحفاظ على هذا الرمز من خلال تكثيف الحالة الثقافية، في المقابل نحن في حالة ضعف والمطلوب منا التقاط هذه الفرصة بحيث لا أنتظر 100 عام لسرد قصتي للعالم، في ظل أن العالم متعطش للمعرفة، ودوري هنا يتجسد في تلبية رغبة وعطش العالم في تقديم المعرفة عنا. يجب أن نكون جزءا من المجتمعات القادرة على تشكيل جدل حول قضاياها المركزية في العالم.
○ هل هناك تمويل أو جهد فلسطيني بهذا السياق، ما أبرز الصعوبات لترجمة هذه الأحلام المستحقة أو الواجبة على المنتج الثقافي والفني؟
• بصراحة، العالم بمجمله يخضع للسياسات الأمريكية، عرض علينا سابقا التمويل السياسي المشروط، اليوم نشهد تحولا في هذا الموقف، أصبحا نرى تململا من ذات الأطراف من ذات المواقف السابقة، مثلا الفرنسيين نراهم يرغبون بإعادة التفكير بشكل التمويل الذي يتم تقديمه للمجتمع المدني الفلسطيني، برأيي سيحدث التغيير، الصعوبات ما زالت موجودة، فعدد الممولين في العالم أصبح جدا قليل، لكننا بالأساس نعتمد بشكل أكبر على التوجهات الفردية والتبرعات من مجموعات أو أحزاب سياسية، مثل: «حزب الخضر» في إيطاليا، حتى لو كانت تبرعاتهم بسيطة لكنها تحمل رمزية وتأتي ضمن تركيبة يمكنها صنع التغيير، وهذا هو ما نعتمد عليه.
ثانيا، أشعر بسعادة مطلقة عندما تصلنا رسالة من مواطن بلجيكي مثلا، سمع عن القضية الفلسطينية ويفكر في دعم «مسرح الحرية»، يسألنا عن كيفية إرسال مبلغ مالي بسيط للمساعدة، بالنسبة لنا هذا مبلغ مقدس.
○ كيف كانت تجربة السجن؟ وهل ستدفعك للخروج بأعمال فنية ومسرحية من وحيها؟
• دخلت الاعتقال وكان وزني 110، وخرجت ووزني 70 كيلوا، الأسرى يدفعون من أوزانهم وأجسادهم بسبب السياسات التعسفية والاستثنائية في سجون الاحتلال، وهي سياسات تطول جميع الأسرى دون أي تمييز لكنها تتكثف نحو الأسرى القدامى.
لدي أفكار متعلقة بعرض مسرحي، وأفكار متعلقة بعروض ضمن الرقص المعاصر، تجربة السجن تجعل على عاتقنا مسؤولية أكبر، وهي مسؤولية جعلتني أمتلك صوتا شجاعا، وبالتالي المسرح مستمر بالعمل بذكاء على تقديم الرواية وبنفس الوقت هناك حذر مع أي الجهات التي يجب العمل معها وكيف نقدم رسالتنا في ظل حجم التهديد.
○ تتحدث معنا بحماس شديد وكأنك لم تخرج من السجن منذ فترة قصيرة، وبالمناسبة ما التهمة التي وجهها الاحتلال إليك؟
• لم أخرج من السجن منكسرا وضعيفا. لقد وجه الاحتلال لي تهمة «تشكيل خطر على أمن المنطقة»، وبالتالي كنت معتقلا إداريا، أرى أن الاعتقال جاء انتقاما بسبب نشاط المسرح، إضافة إلى وجودنا في مكان فيه مقاومة مسلحة في قلب مخيم جنين، اعتقدوا أن المكان يشكل دعما لكتيبة جنين، وطرح علي سؤال حول علاقة المسرح بـ«كتيبة جنين»، كما أنني معتقل سابق، لأنني سياسيا في فترة سابقة تم التعامل معي على أنني ناشط في الجبهة الشعبية، اعادوا الاعتقال للانتقام مني، مع أنه ليس لي أي علاقة بأي تنظيم سياسي، أنا موجود بمكان تنشط في هذه التنظيمات، لا أنكر أدوارها، وأعرف أنها جزء من الهوية والتاريخ الفلسطينيين.
○ على بعد 100 متر تقريبا يتواجد الجيش الإسرائيلي من حيث نجلس هنا في مدرسة المسرح، وانت هنا تتحدث عن خطاب ثقافة مقاومة، مستمرون في نهجكم.. إنها مفارقة حدثنا عنها؟
• إذا توقفنا عن عملنا الثقافي نكون قد رضخنا لما يريده الاحتلال، بالتالي نحن مستمرون رغم الصعوبات والقلق والمخاطر، وإذا لم يعمل المسرح في جنين فمن هي الجهة التي ستعمل؟ إذا سكت صوتنا من سيعلي أصوات المواطنين ويساهم في نقل الرواية، ما نقدمه كمسرح نابع من إيمان راسخ بأن الدور الذي يقدمه المسرح اليوم يساهم في بناء المستقبل بقوة، كما يلعب دورا أساسيا في التأثير في الإدراك العام الذي يشكل قوة رادعة وطاردة للاحتلال، وهي قوة لا تأتي من عامل واحد، بل من مجمل الفعل المقاوم الذي يتوافق مع العمل السياسي.
نحن كحالة ثقافية، نشبه أنفسنا بفرقة العاشقين مع المقاومين الفلسطينيين في بيروت قديما، نريد أن نكون الشهادة الحقيقية على ما يحدث في فلسطين، بالضفة الغربية، في مخيم جنين، في غزة، ونريد تقديم الشهادة الحقيقية التي تتضمن نقدا ورؤية ذاتية لما نفعله ونمارسه، كما تسليط الضوء على أننا شعب يستحق الحياة، ويجب أن يعيش في سياق طبيعي كأي منطقة في العالم، يجب الاعتراف بنا، وإذا لم يتم ذلك فإن الخسائر في المستقبل ستكون شائكة، فكل ما يحدث في العالم من تداعيات خطيرة سببه الظلم الذي يحدث في مكان ما من نفس العالم، وجزء من هذا الظلم يحدث في غزة وفلسطين.
«القدس العربي»: