كيف نخوض «الحرب»

كيف نخوض «الحرب»
مرّت أربع وعشرون ساعة على دخول عسكر ترامب في «الحرب». هي فعليّاً الليلة العاشرة من هذه «الحرب». الحرب أمرٌ صعبٌ، وتعداد أيامها أمرٌ محيّرٌ لمَن لم تنتهِ حروبه السابقة ليعدّ حرباً جديدة. يقول الثائر الكوبي خوسيه مارتي: «من العار أن نخوض حرباً يمكن تجنّبها، ولكن من العار أيضاً أن نتجنّب حرباً يجب خوضها».
لا ينطبق هذا القول على الفلسطينيين الذين كتب لهم خوض الحرب منذ المخاض، ولكنّه ينطبق على العار الشامل الذي يعمّ بلاداً وأقطاراً من الفرات إلى النيل. طبعاً العار سُلَّمٌ أعلى درجاته من تطوّع لحراسة مرمى الاحتلال ويهرع سلاح جوّه لإسقاط الصواريخ والمسيّرات على رأس مواطنيه النشامى قبل أن تطال الاحتلال. وعلى سلالم العار أيضاً دعاة ضرب الظالمين بالظالمين الظانّون أنهم سالمون وهم عتاة عراة عماة لا يفقهون ولا يبصرون. وعلى السلّم أيضاً مطايا كثر تتنافس على الطاعة والاستسلام.
لتجنّب عار الشهادة على إبادة متفرجين، خاض مقاومون في لبنان حرب الإسناد حتى الاستشهاد ومرّ على تلك «الحرب» 625 يوماً وهي مستمرّة اليوم. مرّ ثمانون عاماً وشهرٌ وأسبوعٌ ويومٌ على النكبة ومستمرّة هي الأخرى. قد يقول البعض إن هناك من قرّر خوض حرب كان في الإمكان تجنّبها اليوم أو قبل يوم أو غداً، ولكن لم يكن هناك خيار واقعي عندما تكون الحرب واقعة، وخوضها فرضٌ وواجبٌ إنسانيٌّ للبقاء.
عدم خوض الحرب ليس خياراً لأن الخلاص الذي يتوهمه مروّجو الانبطاح هو الخنوع والخضوع لأسفل السافلين الإباديّين وغطرستهم ورذالتهم التي استُعرضت نماذج ممارساتهم في حرب الإبادة المستمرة على غزة وغير مكان. عدم خوض الحرب المفروضة عليك ليس نجاةً أو هروباً أو تذاكياً أو تعباً أو حياداً، هو استئصال الإنسان منك واستبداله ذِلّةً أبديّةً.
أمّا وأن الحرب قائمة ومستمرّة، فكيف تقاومها وتحارب؟ يقول المحارب الصيني سون تزو في كتابه «فنّ الحرب»: «المحاربون المنتصرون ينتصرون أولاً ثمّ يخوضون الحرب، بينما يخوض المحاربون المهزومون الحرب ثمّ يسعون إلى الفوز». قبل الإسراع إلى إعلان الهزيمة المسبقة، لأن الترويج لعقلية الهزيمة ونفسيتها ينهمر علينا بغزارة صوتية مفرطة، يضيف تزو: «إذا عرفت عدوك وعرفت نفسك، فلن تخشى نتيجة مئة معركة. أمّا إذا عرفت نفسك ولم تعرف عدوك، فستلقى هزيمة مع كل انتصار. وإذا كنت لا تعرف عدوك ولا تعرف نفسك، فستلقى الهزيمة في كل معركة».
في هذه المرحلة المتقدّمة من «الحرب»، هناك المهزومون الحتميّون الذين لا يزالون يجهلون عدوّهم لا بل يتماهون معه من بلاغة جهلهم. لا حول ولا قوة مع هؤلاء. هناك من ذاق طعم الهزيمة مع كل انتصار لأنه كان يعرف عدوّه ولكنه لم يعرف مدى توحّشه رغم كل المؤشرات إلى ذلك، أو كان يظنّ الرؤوس المتوحشة التي يواجهها منفصلة بينما تجمعها رقابها في جسد واحد. لم تعد هناك مؤشرات توحّش تحتاج تحليلاً، بل ممارسات وحشية تصاعديّة يومية لا تُنبئ بالتباطؤ ولو نجحت بالإبادة. هذا العدو اليوم ونعرفه جيّداً. يبقى أن نعرف أنفسنا جيّداً حتّى لا نخشى نتيجة مئة معركة وفقاً للحكمة الصينية السابقة.
نعرف جيّداً أنّنا لا ننتظر ثناء دونالد ترامب لنشعر بقيمتنا، فثناؤه إهانة وإدانة. نعرف جيداً أنه لن نرضى بتحكّم نتنياهو ولا مَن سبقه ولا مَن سوف يليه في حياتنا ومستقبلنا ومستقبل أولادنا مهما علت كلفة المقاومة. نعرف أنّنا لن نشهد على إبادة غزة ولا غير غزة. لسنا متفرّجين ومهلّلين وداعمين ومساندين من بعد.
نعرف من نحن ونعرف أنّ ما فعلناه سابقاً لم يكن كافياً فمن العار ألاّ نفعل المزيد، لأنّ تجنّب المواجهة ليس خياراً متاحاً، وحتّى لو كان متاحاً، فهو ليس خيارَنا. اليوم أكثر من أي يوم مضى خيار المقاومة ليس مجرّد شعار أو رفع عتب، إنه سرّ الوجود والبقاء. بالمقاومة والمزيد من المقاومة والمقاومات تُخاض «الحرب» في فلسطين وفي اليمن وفي الشام وفي إيران وفي لبنان وأينما استطاعت الشعوب إلى المقاومة سبيلاً.
من أسرة «الأخبار»