كتاب يحيى بن الوليد «إدوارد سعيد في ثقافات متصادمة» المترحل حدّ التصادم في عديد الثقافات والجغرافيات

كتاب يحيى بن الوليد «إدوارد سعيد في ثقافات متصادمة» المترحل حدّ التصادم في عديد الثقافات والجغرافيات
نزار صالح
“ليس غريباً، يقول يحيى بن الوليد مؤلف هذا الكتاب، أن تتجدد عودة الباحثين إلى “الأكاديمي الأمريكي، والمفكر الفلسطيني الأبرز إدوارد سعيد”، (1935ـ2003)، إذ لا تزال قامته العالمية وراء “خطاب نقدي وثقافي متفرد وغير مسبوق في الجهات الأربع من العالم؛ مما جعله موضع اهتمام عالمي واسع، ومما جعله يرتحل إلى جغرافيات متغايرة وثقافات متباعدة إلى حدّ التصادم في أحيان كثيرة. فضلاً عن ترجمة الرجل، إلى فترة ما قبل وفاته، إلى 37 لغة”.
وهذا الوعد من بن الوليد في السطور الأولى من كتابه “إدوارد سعيد في ثقافات متصادمة” يتجلى أيضاً في العنوان الفرعي الذي يشير إلى جغرافيات فرنسا وإسرائيل وإيران والعالم العربي، ويتجسد تباعاً في فصول الكتاب الأربعة التي تدرس حلول سعيد في فرنسا (ارتحال منقوص واعتراض مدروس)، وفي إسرائيل (تيار المؤرخين الجدد والسردية الإسرائيلية مقابل السردية المضادة)، وفي إيران (حيث “توظيف وتطويع وتقويل”)، وفي العالم العربي (معارك الترجمة ومخارج التوظيف وأثقال الثقافة المغلوبة).
وقد تقتضي الإشارة هنا إلى أن المؤلف ليس غريباً عن حقول الدراسة والنقد التي أطلقها سعيد، فهو ناقد وباحث أكاديمي وأستاذ التعليم العالي (مادة النقد الثقافي ودراسات ما بعد الاستعمار) في جامعة عبد المالك الساعدي ـ طنجة. وبين إصداراته الأعمال التالية ذات الصلة: “الوعي المحلّق ـ إدوارد سعيد وحال العرب”، “سلطان التراث وفتنة القراءة”، “ّتدمير النسق الكولونيالي”، “صور المثقف”، “الكتابة والهويات القاتلة”، وسواها.
وإضافة إلى الجغرافيات الأربع المشار إليها أعلاه، يتطرق بن الوليد إلى تأثيرات سعيد في الثقافة الهندية التي كانت الأكثر تفاعلاً من خلال دراسات التابع ومجال الكتابة التاريخية النقيضة، و”ثقافات مغايرة” أخرى مثل تركيا وباكستان وأفغانستان وجنوب أفريقيا، فضلاً عن اليابانية (بالرغم من “ثنائيتها الشرقية والغربية” حسب تعبير المؤلف). كذلك الحال في الثقافة الصينية التي لم يكن لكتاب سعيد “الاستشراق” تأثير فيها حسب رأي بن الوليد، ولكن “في المدار الذي لم يفارق سؤال المقارنة وعدم الانتشار أو الاستجابة لهذا النمط من نقد الاستشراق في الصين ذاتها”، وبمعنى تحوّل “المنجز السعيدي” إلى معيار لا يمكن تجاوزه كما أتى عليه في كتابيه “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية”.
ولا يغفل المؤلف حقيقة أن خطاب سعيد ارتقى إلى مصافّ واحدة من مقولاته الشخصية الشهيرة، “النظرية المهاجرة”، وباتت كتاباته بمثابة ارتحال إلى ثقافات أخرى وتدويل لها فيها، الأمر الذي يضع الدارس أمام العديد من الأسئلة المركبة الموصولة بـ”المثاقفة” في “علاقتها بالتمثيل الثقافي والاختلاف الهوياتي الذي يبلغ حدّ الاحتدام الهوياتي، وغيرها من الإشكالات التي تفرض ذاتها في سياق دراسات مستقلة ورصينة”.
الثقافة الفرنسية، موضوع الفصل الأول من هذا الكتاب، بدت “متمنعة عن خطاب ما بعد الاستعمار”، وهذا بالرغم من التأثيرات الفرنسية في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي عبر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عموماً، وتنظيراته حول الخطاب والمعرفة والسلطة خصوصاً. سبب آخر هو أن ملف الاستعمار يلقي بثقله على البلد وأنشطتها الفكرية والثقافية، وموضوع الاستشراق غير محبب، أو من المواضيع غير المرغوب فيها. كل هذا بالإضافة إلى أن “إشكالات الفهم المتصلب للهوية وعمل الذاكرة والفهم الجمعي للآخر… أسهمت في تحريف مسارات التعامل مع خطاب ما بعد الاستعمار، وكان لها بالتالي تأثير على استقبال أفكار سعيد.
وكانت ترجمة “الاستشراق” إلى الفرنسية قد صدرت سنة 1980 بتوقيع كاترين مالامود وبتشجيع مباشر من الناقد البلغاري ـ الفرنسي تزفيتان تودوروف الذي واظب على الحماس لإبراز أفكار سعيد على الساحة الفكرية والثقافية الفرنسية. وبن الوليد يتابع استعراض عدد من الأبحاث والسجالات الفرنسية التي اقترنت بترجمة أعمال سعيد الأخرى، ويتوقف خصوصاً عند منعطف حاسم أواخر التسعينيات أبرز أهمية سعيد على النطاق الفرنسي، أي المؤتمر الذي نظمه عالم الاجتماع الفرنسي البارز بيير بورديو تحت عنوان “تأويل الثقافة”، طُرحت خلال جلساته قضايا تجربة التاريخ بين الإمبريالية والخيال، والإسلام والغرب والاستشراق، والمنفى والأسلوب المتأخر. وفي أوساط تسعينيات القرن المنصرم تلقى سعيد سلسلة دعوات من بورديو لإلقاء محاضرات في الكوليج دو فرانس، كما مُنح الدكتوراه الفخرية من جامعة باريس ديدرو قبيل رحيله بوقت قصير.
ومن فرنسا ينتقل بن الوليد إلى إسرائيل، ويتوقف عند تأثير سعيد على عدد من “المؤرخين الجدد” الإسرائيليين، لجهة استكشاف سردية فلسطينية مضادة للسردية الإسرائيلية المهيمنة، ونسف بعض أبرز مقولاتها الخاصة بطرد الفلسطينيين وتأسيس دولة إسرائيل، والاستعاضة عن مفهوم النكبة بمصطلح “التطهير الجماعي”. والمؤلف يقرّ بأن هؤلاء قدّموا “قراءة جديدة في تعاطيهم مع إسرائيل بوصفها ظاهرة كولونيالية”، ثمّ وصف خطابها العام حول الفلسطينيين بالاستشراقي والعنصري.
وكان كتاب سعيد “الاستشراق” قد انتظر أكثر من عقدين على صدوره قبل أن يتُرجم إلى العبرية، رغم أنّ كتاب سعيد “مسألة فلسطين” كان قد تُرجم في إسرائيل في سنة 1981 أي بعد سنتين فقط على صدوره أوّلاً باللغة الإنكليزية. وحسناً يفعل بن الوليد حين يتوقف خصوصاً عند دراسة مميزة تعود إلى سنة 1910، أنجزتها إيلا شوحط، اليهودية العربية من أصل عراقي، بعنوان “الترجمة ما بعد الكولونيالية ــ القراءة العبرية لإدوارد سعيد”، بحيث بيّنت شوحط مفارقات الهجوم الشرس على كتاب “الاستشراق” من جانب مستشرقين إسرائيليين يكتبون بالعبرية، متغافلين عن حقيقة ذيوع صيت الكتاب وانتشاره السريع واتضاح تأثيراته على الأوساط الأكاديمية والطلابية.
وفي الإجمال، حسب بن الوليد استناداً إلى شوحط، جرى استقبال أعمال سعيد “ضمن سياق مؤسّسي شكلته إلى حد كبير الإيديولوجيا الاستشراقية الصهيونية، مثلما أسهمت فيه الخطابات المتغيرة للأكاديميا الأنغلو ــ أمريكية بعد أن حفزتها التعددية الثقافية ومجالات البحث في الـ(ما بعد) المتنوعة التي شملت ما بعد الحداثة وما بعد القومية وما بعد الاستعمار؛ مما سهّل من إمكان القران مع ‘ما بعد’ من نوع آخر وجديد هو تيار أو مذهب ‘ما بعد الصهيونية’، ومما سهّل ظاهرياً من ارتحال إدوارد سعيد إلى إسرائيل”.
بصدد الثقافة الإيرانية، يعتبر بن الوليد أنه نادراً ما تمّ التفكير فيها بالعلاقة مع أفكار سعيد، وذلك رغم حضور الأخير من خلال كتاباته حول الثورة الإسلامية أو مواكبته للحدث وتتبّعه وتحليله ونقد الإعلام الغربي “المحكوم بماكينات الاستشراق الجديد وتنميطاته الاستشراقية الجاهزة”. ويعتقد المؤلف أنه جرى إخضاع سعيد في إيران لتأثيرات “مرجعياتها الثقافية الاحتدامية، لما يتجاوز التوظيف نحو الاستعمال الذي يبلغ حدّ التقويل، فضلاً عن محاولات التعريف المبسطة بالمنجز السعيدي وبمنأى عن الطرح النظري المتعمق”.
ويسجل المؤلف أن المثقفين الإيرانيين لم يبدوا اهتمامهم بكتاب “الاستشراق” بالنظر إلى أنه “لم يحفل بإيران التي تفرض ذاتها في الشرق الأوسط برغم أنها من البلدان غير العربية”. بعض هؤلاء المثقفين فسّر عدم اهتمام سعيد بإيران بأنه راجع إلى العرق الآري للإيرانيين، بما لا يجعل للغرب وجهة نظر مختلفة تجاه البلد. بينما رأى آخرون أن معارضة سعيد لإيران هي السبب، وعدم اهتمامه بها راجع إلى أنه لا يراها “ذاتاً وهوية”. ولعل أهم ما يُستخلص في التعاطي الإيراني مع منجز سعيد، في كتابه اللاحق “الثقافة والإمبريالية” وكتابه السابق “تغطية الإسلام” أيضاً، كان يتمثل في “مواصلة التغييب لما هو نظري كما في حال تعامل العرب مع المنجز ذاته. وذلك مقابل الانخراط في تحديد مفهوم الاستشراق الكبير والعملي من جوانب كثيرة، وذاك كله في المنظور الذي يشدد على مجابهة مواقف الغرب من الشرق بدلاً من تتبّع وتفكيك خطاب الاستشراق على مستوى دراسة لغات وآداب وثقافات الشرق”.
في نطاق الثقافة العربية يستعيد بن الوليد الكثير مما سبق أن جاء في كتابه “الوعي المحلّق ـ إدوارد سعيد وحال العرب”، مع تعديلات هنا وهناك أبقت مع ذلك على الوجهات الرئيسة لحضور الأخير الملحّ في الوعي العربي، و”البناء والتأصيل للعديد من أفكاره الأساسية ومفاهيمه الفارقة”. لكن حضوره “لا يزال يعاني نوعاً من الضمور المعرفي والشحوب النظري؛ لكن من غير أن نعدم محاولات وقراءات مضيئة في هذا المجال”، هذا عدا عن أن الثقافة العربية هي “بدورها من الثقافات الاحتدامية، فضلاً عن كونها تتموضع ــ لغوياً ــ خارج العالم الأنغلو أمريكي”.
الإشكالية الأولى التي اكتنفت استقبال سعيد في العالم العربي كانت تتعلق بترجمة الكتاب إلى العربية، أو بالأحرى الترجمة الأولى التي قام بها كمال أبو ديب، وكانت “خلافية، على أهميتها التي لا تُنكر من جوانب” إذ خضعت لانتقادات وجيهة وعديدة مصدرها “أسلوب التنطع والتقعر”، وكذلك “إصرار المترجم على اجتراح مصطلحات جديدة / نافرة مقابل مصطلحات متداولة ومستقرة تفي، إلى حدّ بعيد، بالدلالة المقصودة والمستساغة”. بعد 25 سنة على ترجمة أبو ديب، سوف يصدر المترجم المصري محمد عناني ترجمة ثانية للكتاب، والمترجم السوري نذير جزماتي ترجمة ثالثة، وصولاً إلى ترجمة رابعة من المترجم الأردني المعروف محمد عصفور.
إشكالية أخرى في النطاق العربي هي ما يسميه بن الوليد “التلقي الماركسي والقومي” لأعمال سعيد، مبتدئاً من كتاب صادق جلال العظم “الاستشراق والاستشراق معكوساً”، 1981، الذي انتقد منح النظرية النصية أو نظرية الخطاب صفة “تشكيلة معرفية” ودوراً محرّكاً وحاسماً في تحريك الأحدث. توفّر أيضاً نقد مهدي عامل في كتابه “هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ ماركس في استشراق إدوارد سعيد”، 1985، الذي اتهم “القراءة السعيدية” بتشويه ماركس. وفي السياق ذاته هناك كتاب وائل حلاق “قصور الاستشراق ـ منهج في نقد العلم الحداثي”، 2018، الذي أخذ على سعيد تحويل الاستشراق إلى مجرد مشروع سياسي أغفل المعرفة المهيمنة التي أنتجتها أوروبا منذ القرن السابع عشر خلال عصر التنوير.
ويبقى أنّ كتاب يحيى بن الوليد لا يتجاهل حقيقة أن سعيد “عدو التصنيفات وخطابات الهوية والقومية، وهو بدوره بتعذر على التصنيف. فهو ناقد أدبي وناقد ثقافي وناقد للاستشراق والموسيقى… وفيلسوف وفيلسوف للاختلاف… وعالم بالأوبرا وعازف على البيانو… ورجل سياسة حاذق وصداميّ رفيع، وسجاليّ ملتزم وشاهد حرّ… وأستاذ جامعي مهيب وأكاديمي مبهر ومثقف منفي… ومعلّق مدهش وكاتب مقال كثيف ومضغوط… ومفكر إنساني صلب ومفكر حداثي ما بعد كولونيالي، ومفكر إمبراطوري ما بعد إمبريالي وما بعد قومي…”
والمؤلف يجهد لاستيعاب ما يمكن استيعابه من هذه الأبعاد في كتاب واحد، بعض أبرز فضائله أنه لا يعرّف القارئ على سعيد الكوني، في ثقافات فرنسية وإسرائيلية وإيرانية وعربية خصوصاً، بل يفتح العديد من البوابات أمام تلمّس شخصية سعيد المتعددة والتعددية والغنية، وبالتالي الكونية في القصد والمنهج.
يحيى بن الوليد: “إدوارد سعيد في ثقافات متصادمة”
العائدون للنشر، عمّان 2025
251 صفحة.