شهداء كنيسة مار الياس: أي «موقف مسيحي» في سوريا؟

شهداء كنيسة مار الياس: أي «موقف مسيحي» في سوريا؟
خريستو المر
القلق كبير، وحظوظ الوصول إلى برّ الأمان تتضاءل، في ظل القتل الإرهابيّ والمذابح التي تطاول السوريّين والسوريّات بين الساحل ودمشق، وآخرها مشاهد شهداء التفجير الإرهابيّ في كنيسة دمشق. هذا يحدث بعد استيلاء على السلطة ظنّه البعض أنّه يطوي عشرات السنين من إرهاب الدولة الذي مارسه الممسكون بالسلطة في دمشق، والقتل العشوائيّ قبل وخلال الحرب الأهليّة.
اليوم، المسيحيّون وغيرهم خائفون في سوريا، ليس لأنّهم تماهوا مع النظام البائد (وبعض القيادات بكلّ قلّة مسؤوليّة تماهت)، وإنّما لأنّ الإيديولوجيّة المعلنة لسنوات للفصائل التي اجتاحت دمشق هي التطرّف التكفيري، ولأنّ سقوط النظام تمّ بمؤازرة تركيّة، والذاكرة الجمعيّة تذكر للأخيرة مذابح بداية القرن العشرين.
لكن أيّ موقف مسيحيّ ممكن في ظلّ الخوف؟ من كان له سبيل للهروب هرب أو سيهرب، فالإشارات لا توحي بالخير. ولكن مَن يبقى فليذكر أنّ كلّ بريء يسقط ضحيّةً للعنف، وكلّ حيّ يتعرّض للتمييز، هو مظلوم معلّق على صليب، ولهذا هو يسوع نفسه. لهذا، فالأبرياء الذين سقطوا ضحايا للنظام السابق (أو لتقصيره) والذين يسقطون اليوم ضحايا للنظام الحاليّ (أو لتقصيره) هم سواء، هم واحد في القلب الذي اتّخذ يسوع الناصريّ سيّداً وحيداً، هم يسوع نفسه.
إنّ المسيح نفسه، يعيش آلامهم، كما يعيش آلامَ كلّ مظلوم. ولهذا يرى المؤمن صورة وجهه في صرخة كلِّ إنسانٍ يُسفك دمه بغير حقّ. إنْ فقد المسيحيّون هذه الرؤية فماذا يبقى لهم من كلمة «مسيحيّ»، وأيّ طعم يبقى لهم؟
النظام الماضي في دمشق مضى، ومحاكمته بين أيدي السوريّين. أمّا إرهاصات هذا النظام السوريّ القادم فتقول إنّه لا يأبه بشعبه، فقد أعلن صراحة أنّه مطبّع مع الصهاينة (وهم النظام الأكثر إجراماً في منطقتنا)، هذا في الوقت الذي زاد النظام الصهيونيّ احتلالاً في سوريا، وأعلن صراحة عن مطامعه فيها.
إنّ السيناريو الذي يقرأه قادة النظام الحاليّ، والمكتوب على ما يبدو بلغة الديمقراطيّة والتنوّع واحترام حقوق الإنسان، أي بطريقة تخدّر النقد، لا ينطلي على الذين يشعرون بالتهديد في أجسادهم، وبالتهديد في حرّياتهم التي تذوّقوا طعمها مع سقوط الديكتاتور. كان أحد الأصدقاء يقول بطريقة فكاهيّة رمزيّة إنّه يفضّل أن يأتي نظام ويحجّبه على نظام يضعه في الدولاب، وخوفنا أنّ النظام الجديد سيفعل الاثنين معاً.
المسيحيّون في عصرنا الحاليّ أناس يرفضون رفضاً قاطعاً أن يكونوا أقلّ مساواة من غيرهم في المواطنة. ليس لأنّهم مسيحيّون، بل لأنّهم بشر مثل غيرهم يعيشون في العصر الحالي لا في عصور غابرة. لا الآن ولا في المستقبل سيخرج إنسان عاقل ليقول إنّه يريد أن يستغني عن إمكانيّة عيش المساواة، وإنّه يرغب بأن يُعامل في دولته بطريقة أقلّ مساواة مع غيره. هذا بالضبط ما يرفضه المسلمون اليوم حين تعاملهم (أو تحاول أن تعاملهم) دول أوروبيّة أو شمال أميركيّة بطريقة تمييزيّة. ما صحّ في عصور غابرة لا يصحّ على إنسان اليوم -كائناً ما كان دينه- لأنّ الرؤية للوجود تغيّرت.
إنَّ الدولَ، حين تُسندُ مشروعها السياسيّ إلى هويّةٍ دينيةٍ ضيّقة (دينية أو مذهبية أو لغوية أو عرقية إلخ)، لا بدّ أن تُفرِّق بين أبنائها وبناتها، وتحتكم في حُسنِ تعاملها إلى معيارٍ جزئيٍّ يشرِّع العنف والقسوة على المختلفين، ويحمي أبناءَ الهويّة الجزئيّة ويمنحهم امتيازاتٍ خاصة. والنتيجةُ حدّة الانقسام وتفكّك المجتمع؛ فالمواطنون حين لا يشعرون بالمواطَنة التي تساوي بين الجميع، يتحوّلون من مواطنين فاعلين في وطن واحد، إلى «مكوّنات» و«جماعات» (دينية أو مذهبية أو لغوية أو عرقية إلخ) متضادّة تُشحن ضدّ بعضِها من المنافقين في الداخل، والأعداء في الخارج.
إنّ الحلَّ الأوحدَ والأصوبَ في بلادنا، يكمنُ في بناء دولةٍ مدنيّةٍ تحمي أبعادَ هويّة الإنسان كافةً، دولةٌ تعامِل الجميع على الأرضية المشتركة التي يجتمعون عليها: المواطَنة، والقانون، والعدالة، والكرامة الإنسانية. هكذا دولة، تنظرُ إلى الإنسان كمواطنٍ كاملٍ متساوٍ في الحقوق والواجبات مع غيره، وتعامله كدولة بناءً على الهويّة المشتركة لهم: كونهم مواطنين. بهذه المواطنة المتساوية تُحفظُ التنوعاتُ الثقافيةُ والحضاريةُ دون أن تتحوّل إلى أورامٍ سرطانيةٍ تفتكُ بالوحدة الوطنية، وتبقى الوحدة راسخةً دون أن تُمحى الهويّاتُ الخاصة.
إنّ صرخة المسيحيين التي نلاحظها في سوريا اليوم، هي خوفٌ على وجودٍ قد ينهشهُ التعصّب من جهة، والتمييز الظالم من جهة أخرى. وهي بذلك ليست صرخةَ طائفة، بل هي صرخةُ كلّ إنسانٍ يُحبّ الحياة ويحلمُ بالعيش بكرامة، أي صرخة السوريّين والسوريّات الذين لا يريدون أن يَستَعلوا (وهؤلاء موجودون لا بدّ)، ولكنّهم لا يريدون أيضاً أن يستعلي أحد عليهم وهؤلاء هم السوريّون جميعاً. هذه الصرخة هي نداءٌ بأن تبنِي الدولةُ نفسها على أساسٍ إنسانيٍّ جامع، لا يفرِض الوصايةَ على فردٍ بناءً على هويّاته الجزئيّة، ولا يستبيح جسدَه وحرّيته لأنّه يختلفُ في عقيدته أو لغته أو مظهره.
التوجّه المسيحيّ الأفضل اليوم في سوريا، وهو نفسه التوجّه الأفضل في لبنان وفي كلّ مكان، هو التمسّك بالتوجّه الإنجيليّ: «كلّ ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه» (متى ٢٥ :٤٠)، أي إنّ سفك دم إنسان واحدٍ بغير حقٍّ هو جرحٌ يمسُّ يسوع ذاته. وإنّ من يظلم ويقهر، أو يقتل إنساناً بريئاً، يكونُ قد صلبَ المسيحَ مرةً أخرى. هذا يعني أنّ التصرّف ينبغي أن يكون بالدفاع عن العدالة للجميع، والمشاركة في بناء دولة مبنيّة على المواطنة. لن ينجو المسيحيّون وحدهم، ينجون بنجاة الجميع. اللغة الكنسيّة الحقيقيّة ينبغي أن تتكلّم هكذا لغة.
إنّ السعي لبناء وطنٍ على مبدأ المواطَنةِ الجامعة، يحمي الناس جميعاً كمواطنات ومواطنين مهما كانت تنوّعاتهم. هكذا مسعى يبني وطناً يعتمدُ على القانون العادل، ويلفظ التعصّب والتمييز، وطناً يحتضن هوياتنا المتعدّدة ويحفظها في وحدة تحترم التنوّع. عدا ذلك، أتونٌ ندخله بأرجلنا ونصنعه بأيدينا، ولا نحتاج عندها إلى صهاينة لندمّر بلادنا، ولكنّهم لن يبخلوا علينا بمساعدة في هكذا مسعى، وهم يقدّمونها كلّ يوم. الطابة في ملعبنا.
* كاتب وأستاذ جامعي