
الحرب فرصة لإنتاج وإطلاق العقد النفسية
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
تحفل الحروب، بأعمال يقوم بها البشر، عسكريون ومدنيون لا يمكن تصنيفها إلا كجرائم من الدرجة الأولى، لا يجرؤ على القيام بها عتاة المجرمين، يمارسها الناس، عسكريون ومدنيون، ويطويها النسيان بسبب ظروف الحرب القائمة اساساً على استخدام ارقى أنواع السلاح وأشدها فتكاً لقتل البشر، فالبشر يجدون أنفسهم خلال الحرب مرخصون بقتل الناس دون رقيب وحسيب، هم خارج القانون، وبوسع ذواتهم فعل الجرائم الكبرى، ليس القتل فحسب، بل والاغتصاب والتعذيب، وحرق الأماكن، وقصف البيوت، وتخريب التحف المعمارية، والاعمال الفنية النادرة، وبوسعي أن أسجل قائمة طويلة لا نهاية لها من الفظائع والجرائم.
قرأنا في كتب الفلسفة، أن نزعة الاعتداء موجودة في دواخل البشر، ولكنها تحت السيطرة، لا يسمح لها بالظهور بسبب عاملين إثنين:
1. الخشية من الحساب والعقاب وسطوة القانون.
2. الوازع الأخلاقي : الديني والاجتماعي.
وفي الحروب، يتخلى القادة السياسيون والعسكريون (غالباً أو أحياناً) عن أفعال منتسبيهم، بدواعي السماح لتنفيس غضبهم وحقدهم والكراهية نتيجة تثقيف طويل الأمد للجنود والمدنيين في كراهية العدو، ضمن التوجيه المعنوي، قبل الحرب وخلاله، ومن جهة أخرى أن الجنود والضباط قاسوا الظروف الصعبة اللاإنسانية في الابتعاد عن الحياة الاجتماعية والعائلية، فيطلقون العنان لغرائزهم في القتل والاغتصاب والحرق. وقد قرأنا، أن القيادات العسكرية الفرنسية بالدرجة الأولى كانت تغض النظر رسمياً عن أفعال جنودها في القتل والاغتصاب في فرنسا بعد تحريرها من النازي، وفي ألمانيا بعد سقوط النظام النازي واحتلالها من الحلفاء الأربع: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وبريطانيا وفرنسا.
في المانيا كانت القيادة السوفيتية أول من تفهمت مسألة أن لا نجعل بيننا وبين الشعب الألماني موانع وعوائق نفسية، القيادة النازية اندثرت وانتهت، والشعب الألماني وألمانيا باقية، وسوف نتعامل معهم، فأصدرت بعد فترة قصيرة(بضعة شهور) تعليمات صارمة بالكف عن الاعتداء بأي صورة كانت، وبعقوبات صارمة، تبعهم بعد فترة الجيشان البريطاني والأمريكي، وأخيرا الفرنسي، ولكن بعد كانت الجيوش الأجنبية قد عاثت في المدن الألمانية، الحقت اضرار كبيرة، وما تزال المانيا تعاني من آثار تلك الاعتداءات.
حين دخلت جيوش الحلفاء ألمانيا، وجدوا بلدا راقياً بكل المقاييس، وبنى ارتكازية محكمة (طرق وجسور، جامعات، مدارس، دور حضانة، مستشفيات، تمديدات شاملة للماء والكهرباء (دخلت الكهرباء إلى آخر قرية ألمانية عام 1911).
وهذا ما يزال يحدث حتى وقتنا الراهن، ولا أريد أن أثير الشجون، المثارة أصلاً ..! ففي الأرشيفات من المعلومات مما تفعله جيوش دول تدعي الإنسانية والإسلام، والحضارة والمدنية، ما تحجم عنه قبائل الكانيبال/ cannibalism (أكلة لحوم البشر) ، وبعض الأحيان لا يفيد فتح ملفات في هذا المجال فالمحاكم ستعجر عن حلها، ويعتقد الجميع أن نسيانها هو الأفضل. وأن ما عرض أمام المحاكم ليس سوى عينات منها، تعاملت مع الأطراف التي خسرت الحرب، فيما واصلت الأطراف المنتصرة سياسة الأمر الواقع وفرض إرادة المنتصر.
وفي الوقت الذي تظهر وتمارس جيوش البلدان المتقدمة صنوفاً من جرائم الحرب البشعة، فإن العسكريين من الضباط والجنود يعودون للوطن وقد حرفت هذه الممارسات عميقاً في ذاكرتهم ونفسياتهم، فتنعكس على حياتهم اللاحقة التي قد تنتهي بالانهيار النفسي وربما وصولاً للانتحار.
الحرب هي أساسا تمثل عجز العقل البشري عن إيجاد حلول للمشكلات، فالحرب بهذا المعنى إعلان صريح لفشل العقل البشري من التوصل للحلول الإنسانية، فيتوارى العقل، ويبرز الانفعال . وللحرب طرفان رئيسيان:
* أحدهما وهو الأقوى(غالباً) سئم المفاوضات ولجأ للقوة المسلحة المتوفرة بحوزته، بكثرة أكثر من العقل والفلسفة …
* والطرف الثاني، وهو سيحاول أن يقلص النتائج والآثار بالوسائل السياسية لديه.
ولو فكر السياسيون من هواة إشعال نيران الحروب، فالآثار الرئيسية والجانبية غير المرئية العميقة الأثر التي قد تمكث في نفسية المواطن لعقود طويلة، لوجدوا أن أي انتصار هو شيئ بسيط مقابل حجم الآلام والخسائر في البشر والطبيعة والثقافة والفنون، وقبل كل شيئ في نفسية الرجال والنساء والأطفال ..