مجلة «جاكوبين» والوساطة الإمبريالية

مجلة «جاكوبين» والوساطة الإمبريالية
ماذا كَتبتْ مجلة «جاكوبين» عن إلياس رودريغيز، اللاتيني الأميركي بطل عملية واشنطن الشهر الماضي؟ لا شيء، وكأن شيئاً لم يحدث. لكن المجلة نفسها احتفتْ بلويجي مانجيوني الذي اغتال المدير العام لشركة «يونايتد هلث كير» الصحية براين تومبسون.
يُبدي التقدّميون الأميركيون حساسية مفرطة تجاه المقاومة المسلحة في بلادنا، فالسلاح يُشهَر حصراً لقضاياهم هم، «حصرية السلاح» وطبعاً توزيعه لاحقاً على حلفاء الولايات المتحدة حصراً.
ليس فقط هم يريدون لنا أن نقاوم الإبادة سلمياً بل هم يريدون في الآن معاً: أولاً، أن يحرّرونا هم وليس أن نقوم نحن بذلك (وبالتالي علينا أن نَستجدي وعي الناخبين الأميركيين والطبقة العاملة الأميركية التي على اختلاف مشاربها العرقية انتَخبتْ دونالد ترامب، ربما لم نَستجدِ بما فيه الكفاية الطبقةَ العاملة الأميركية المقدسة لدى مجلة «جاكوبين»، والتي هي بالنسبة إليها أقدس من دمائنا ولها الأولوية على وجودنا كما هو واضح من نصوصها).
وثانياً، أن يدعوا إلى تسليح أوكرانيا بكل ما أوتيتْ الولايات المتحدة من تكنولوجيا عسكرية ضد روسيا (مجلات يسارية تروتسكية أميركية ملأى بنصوص تَفتخر بأن يساريين على الجبهة في أوكرانيا في مقدمة المقاتلين؛ اشهدوا لي عند الطبقة العاملة الأميركية أننا كنا أول مَنْ قاتل أعداء واشنطن. لكن المجلة نفسها لا تَفتخر بعمليات أبطال «كتائب أبو علي مصطفى» في الضفة الغربية وقطاع غزة).
بالتالي، من أسخف المقولات اليوم هي التضامن مع فلسطين وأوكرانيا معاً: اختبار (litmus) اليسار اليوم ليس الكوفية ولا ألوان البطيخ بل في سؤال ما إذا كنت تؤيّد المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل وتدعم إرسال المال والسلاح إليها (كما تَفعل في حالة أوكرانيا) أم لا. هل سترسل مجلة «جاكوبين» المال والسلاح إلى «كتائب أبو علي مصطفى» أو على الأقل تَمنح الشرعية لمَنْ يريد القيام بذلك؟ أن تؤيد إرسال التكنولوجيا العسكرية الأميركية إلى أوكرانيا فيما أنت تتضامن مع الشعب الفلسطيني دون مقاومته هو جوهر التقدّمية الإمبريالية، وهي بلا شك أخطر من فاشية ترامب الفجّة.
هذا السؤال يجب طرحه أيضاً على لولا دا سيلفا (رغم أن مواقفه أفضل من كل الحكّام العرب مجتمعين، إلا أن هناك خللاً فكرياً في مقاربته للقضية الفلسطينية، لديه ولدى كثيرين ممّنْ اعتَنقوا يوماً المقاومة المسلحة في أميركا اللاتينية قبل أن يصلوا إلى الحكم، موخيكا وروسيف وبترو وغيرهم).
في الأشهر ما قبل السابع من أكتوبر كانت مجلة «جاكوبين» وصحيفة «الغارديان» وغيرهما منخرطة في توصيف النظام الإسرائيلي بأنه نظام فصل عنصري. بمعنى: «نحن نحرّركم ونرى الزمان والطريقة المناسبَين لذلك»، أمّا أن تحرّروا أنفسكم، والأسوأ عن طريق العنف المسلح، وأن تتجرؤوا على توقيت ذلك، فهذا ما لا يمكن منحه الشرعية الفكرية والأخلاقية (بما أن هذه هي المهمة المنوطة بهم في الحاضرة الإمبريالية).
صحيح أننا لا نؤيّد سحق مقاومتكم بالقوة الإمبريالية، ولكننا لن نَمنح أي شرعية لمقاومتكم المسلحة ضد الإمبريالية. أنتما، الإمبريالية ومقاومتها المسلحة، سيان في السوء (هنا جوهر غسيل الإبادة ليصبح استيعابها ممكناً أكاديمياً وكمادة مؤسساتية).
منذ بدء الحرب هناك سياسة ثابتة لدى «جاكوبين» و«الغارديان» (النسخة الأميركية التي يَكتب فيها «كبار محترمي» التقدّميين الأميركيين) وغيرها، وهي تسخيف مقاوماتنا وكل عملية تنفّذها المقاومة. وحين يكون واضحاً أن هناك ضربات جدّية تقوم بها المقاومة، يتمّ تمرير إنجازات المقاومة بالتقسيط الممل على مدى أشهر حتى لا يشعر بها القارئ.
المخيف هو أن هذه المنصات هي أفضل ما يمكن أن نجده في المجتمع الأميركي؛ إلى هذه الدرجة هو مجتمع إمبريالي، حيث تقدّميّوه أسوأ من فاشييه، لأنهم يزيدون حقيقة العالم غموضاً بالنسبة إلينا نحن شعوب الأطراف الذين نقاتل من أجل بعض الوضوح. عنفنا المسلّح هو مكافحة غموض النظام العالمي (الذي يسهم به التقدّميون الأميركيون) بغموض الموت، منهجيتنا الهايدغرية في التفاعل مع النظام الدولي. المطلوب ليس موقفاً «أكثر أخلاقية» من هذه المنصات، بل الحدّ من قدرة هذه المنصات على التحكّم في آراء «نخبنا» المحلية (وهي لديها سطوة غير مقبولة)، لأن سلطتها ذات بُعد إبادي حتى في ظل أكثرهم تمسّكاً بالخطاب الأخلاقوي.
في ظل الهجوم الإسرائيلي-الأميركي على إيران، ماذا وَجدتْ «جاكوبين»؟ وَجدتْ أنها حرب «لا أحد يريدها»
مجلة «جاكوبين» هي الوسيط بين الإمبريالية واليسار حول العالم: اليسار حول العالم يشكّك بخطابات الإدارة الأميركية عن شعوب هذه المنطقة أو تلك، فتتنطّح «جاكوبين» لتقدّم الخطابات نفسها بلكنة يسارية فيصبح اعتناقها عالمياً أسهل (واشنطن تريد محاربة روسيا بسبب صراع القوى، تَأتي «جاكوبين» لتقول حسناً علينا أن نحارب روسيا لأنها ليست ماركسية وليس لأنها خصم لواشنطن، والخطاب نفسه سنجده حول تايوان غداً).
مِن نشر نظريّة أنّ إسرائيل أسّستْ حركة حماس من أجل القضاء على حركة فتح العلمانية (هناك قطاعات من اليسار اللاتيني اقتنعتْ بهذه التفاهات نتيجة جهود «جاكوبين» المشكورة)، إلى شيطنة حزب الله ونزع أي صفة تحرّرية عنه (والأمر نفسه مع إيران اليوم)، وصولاً إلى نوستالجيات حول السبعينيات في العالم العربي وكأنه ليس هناك فصائل مقاومة مسلّحة ماركسية في فلسطين اليوم وراهناً ونعم يمكن مدّها بالسلاح الآن. والأسوأ هو استخدام بعض الأصوات اليسارية في منطقتنا لتبييض الخطابات الإمبريالية وليس لحثّها على المقاومة المسلّحة أو دعمهم وتسليحهم لتنظيم مقاومة مسلحة.
قدرة مجلة «جاكوبين» باللغة الإسبانية على أن تكون المنصة شبه الوحيدة الفعّالة لليسار حول أميركا اللاتينية هي قدرة إمبريالية، وهي تَستخدم هذه القدرة لنشر خطابات أخلاقوية حول الإبادة في قطاع غزة (بدل التحليل المنهجي) وطبعاً للقول إن حماس وإسرائيل سيان في قمع الشعب الفلسطيني (كما هو حال بيرني ساندرز، الفارس التقدّمي الذي لا يهين).
لدى «جاكوبين» القدرة (على مستوى عالمي) على شرعنة المقاومة المسلحة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بالضبط لأنها مجلة أميركية، ولكن لا تتوقعوا ذلك منها، هي فقط ستستصرحهم للحديث عن معاناتهم في ظل إبادة إسرائيلية، من ناحية، وهيمنة إسلامية على المقاومة من ناحية ثانية. انتظروا كيف ستتعامل «جاكوبين» مع فنزويلا أو نيكاراغوا حين يتمّ قصفها من قِبَل الولايات المتحدة، ستجدون الخطاب المراوغ نفسه حول أنظمة «تدّعي» الماركسية.
في ظل الهجوم الإسرائيلي-الأميركي على إيران، ماذا وَجدتْ «جاكوبين»؟ وَجدتْ أنها حرب «لا أحد يريدها». برانكو ماركتيش هو أفضل الأصوات داخل «جاكوبين» بلا شك، ولكن حتى كتاباته هي دون الحدّ الأدنى المطلوب. المجلة حالياً مشغولة بفتوحات زهران مماندي، أمّا الفتوحات الحقيقية لإلياس رودريغيز، فهي غير ذات أهمية بالنسبة إليها. صحيفة «الغارديان» تسارع إلى نشر أي شبه-تظاهرة ضد حماس في غزة (لدى «الغارديان» بارومتر ديموقراطي حساس جداً، فيَجمعون استطلاعات رأي حتى لو كان ذلك تحت ضغط الإبادة والتجويع لسؤالهم ما إذا كانوا فرحين بالمقتلة والجوع). طبعاً هناك أسماء من «جاكوبين» يَكتبون في «الغارديان» أيضاً بدل نبذها، وهو أقل الإيمان اليساري.
قامت مجلة «جاكوبين» بنزع الشرعية عن مقاوماتنا تحت عنوان أنها ليست مقاومات ماركسية، ولكن المجلة لا تَملك الجرأة لتنشر أي مادة مؤيدة حتى لو كانت المقاومة ماركسية. وحتى أكثر من ذلك، سيتهمون المقاومة بأنها ليست ماركسية بما يَكفي. فقط انظر كيف ترفع «جاكوبين» الشرعية عن النظام في فنزويلا؛ كل الحديث أنه ليس نظاماً ماركسياً كما يدّعي ويزعم، بمعنى أنه حتى لو نشأت مقاومة ماركسية سيجدون أنها «تَزعم» ذلك، لأن بيرني ساندرز وألكساندرا أوكازيو كورتيس هم الماركسيون الحقيقيون، وليس نيكولاس مادورو أو دانيل أورتيغا.
خطاب «جاكوبين» يؤذينا، ولكن خطابها ضد «الإستابلشمنت» (التي أفضّل تسميتها «الحاضرة الإمبريالية» لتأكيد أنها وحدة مكانية ومؤسساتية وتَجعل تحليلها وتحليل مؤسساتها أكثر تماسكاً بدلاً من العبارة الهيولية «الإستابلشمنت») لا أهمية أو صدى له. المستهدَف بخطاب المجلة هو نحن ووعينا وليس صنّاع القرار في واشنطن. ما نقرأه في «جاكوبين» ليس «جُبناً»، أو تذاكياً وتحايلاً على الإدارة الأميركية، بل هو الدور الحقيقي لهؤلاء ضمن نظام إدارة الخطاب الإمبريالي.
ماذا نَخسر نحن في الأطراف إذا أُغلقتْ «جاكوبين» ومثيلاتها في الولايات المتحدة؟ لا شيء. على العكس تماماً، سوف يتنفّس اليسار حول العالم، وخصوصاً في أميركا اللاتينية، أوكسيجيناً منهجياً نقياً مجدداً، سيزداد العالم والنظام العالمي وضوحاً.
صوتنا الذين يريد التقدميون الأميركيون سماعه في موجة «decolonize X» و«listen to X» في بعض الأقسام الأكاديمية في الولايات المتحدة هو ليس رأينا فيهم ولا في الحاضرة الإمبريالية التي منحتْهم السلطة الخطابية. مقاومتنا المسلحة هي ليست جزءاً من «الإنصات إلى المحليين» بالنسبة إليهم. هم يريدون فقط تحميلنا مسؤولية ما يَجري علينا (بعكس حساسيتهم المفرطة تجاه معاناة الأفراد لديهم).
هناك حالياً اتجاه في الجامعات الأميركية أننا تحدثنا كثيراً عن الاستعمار وعلينا أن نَبدأ بالالتفات إلى «فعالية» المستعمَرين، بمعنى أنهم دَلّلوا الشعوب المقموعة أكثر من اللازم وعلينا الآن أن نحاسبهم. أمر شبيه بما يقوم به دونالد ترامب مع حلفاء الولايات المتحدة: لقد أعطيناكم الكثير من الأموال، الآن أرجعوها. هذا تحوّل أكاديمي أميركي قبل أن يكون فاشياً.
للتقدّميين الأميركيين سهم ونصيب من دمائنا، ويجب لهذه الحقيقة ألا تزول أبداً؛ أنتم تتذاكون علينا وليس على الإدارة الأميركية (طبعاً بمعزل عن المهزلة العمْرية «ageist»؛ أن الأجيال الجديدة «غير»).
* باحث