ثقافة وفنون

ولادة ثانية

ولادة ثانية

حيدر المحسن

كأن المرأة نوع آخر من الكائنات، وليس اختلافها عن الرجل بالجنس فحسب. فهي تستلهم الجرأة والشجاعة من طبيعة مختلفة، عندما تخاطر بحياتها من أجل أن يأتي الإنسان إلى الوجود، وتعرض نفسها للمرض الشديد والنزيف، أو الموت أثناء الولادة. إنها تجابه مشاق الحياة وضناها بوفرة من الحياة، وهذه ميزة كافية تجعلها تفكر بالتفوق على الرجل، الذي يبذل نفسه من أجل أن يبتكر أسبابا جديدة للدمار والقتل، عندما تشتعل الحرب بينه وبين أعدائه. تنهار الأبنية التي شيدها وتتهدم صروح الحضارة، والرجل يتأمل المشهد ممتلئا بالزهْو والفخر، فأي داء وَبِيل يحمله جنس الذكور في دمائهم منذ القِدم؟! يقول جيبون: «ما هو التاريخ؟ إنه أقرب إلى سجِل عن جرائم الرجال وأخطائهم ومصائبهم».
في المقابل نرى المرأة تمجد عالم الإحساس بصورة مفرطة، فزع وجودي شديد في عينيها من الفراغ الذي يسكنه العدم، تهرب منه إلى ما هو حسي وينشر التفاؤل، كأعمال الطبخ والزينة والخياطة، وغير ذلك مما يتسم بالرقة التي تعطي النساء قوة داخلية وهدوءا في النفس. ميزة أخرى للنساء أن جميع أفعالهن تتم بذوق وعطف ومتعة شخصية في التنفيذ. بينما يعمد الرجل في طريقة عيشه إلى منهاج قوامه الشراسة والملالة، ونمط من التفكير ليس فيه غير الاهتمام بدنيا المال والسياسة، وغيرهما من أنشطة تافهة، ليس لها علاقة بألوان العيش الحقيقية التي تحفزنا على اكتشاف حيوات جديدة. يقول الشاعر أراغون «المرأة مستقبل الرجل»، لكنه لم يخبرنا متى يحل هذا الوعد الذي يمتد أمامنا مثل ليل بهيم؟
يمكننا، وفق ما تقدم، قراءة قصة ألف ليلة وليلة بطريقة مختلفة؛ فالقتل اليومي الذي يقوم به الملك شهريار للعذارى كان رمزيا، والمراد به أنه يهجر خليلته في اليوم التالي، لأنها اتصلت بالذكر فانتقل إليها شيء من عالمه، بينما يُريد الملك أنثى خالصة في سريره، كي ينسى ما قامت به يداه من ويلات، وما جرى على الأرض من شرور. ويذكرنا الأمر أيضا بقصة جلجامش الذي كان من حقه الدستوري التمتع بالليلة الأولى مع جميع الفتيات. كل فتاة عذراء تصبح سناً في عجلة ضخمة غير مرئية، من أنوثة يُريدها الملك أن تدور مثل هالة حول بيته، من أجل أن تكون قوته خارقة وليس لها شبيه، وفي هذا تجسيد لفكرة آلهة الشرق التي كانوا يعبدونها، ويتخذون منها أصناما، ومنها «اللات والعزى ومناة الثالثة الأولى» (سورة النجم 19).

مات جلجامش لكن أسطورته بقيت حية في الذاكرة الجمعية لشعب وادي الرافدين، عادت إليها الحياة في قصة شهريار الذي قضى أيضا، وانتقلت تجربته إلى هذه الأمة، ومن ثَم إلى البشرية جمعاء. أصبح هذا السلوك موحدا وقاعدة عامة وقانونا لدى الرجال، فالذي يجمعهم بالمرأة الزوجة أو العشيقة أو بنت الهوى غاية واحدة لا غير، لما ينقضي وطرها يعود الجميع إلى أصلهم الذكوري، وتعود الشقة واسعة بين الجنسين، كأنها بحر تضطرب أمواجه على الدوام، وتعصف الرياح في سمائه، فلا اتصال يجري بين ساكني الشاطئيْن.
تخبرنا الملحمة أن أنكيدو كان وحشا خالصا في طبيعته الأولى، ثم بعثت له صاحبة الحانة أنثى «تعلمه فن المرأة»، كما جاء في الملحمة، أي فن أن يكون إنسانا. أنجبته هذه المخلوقة ثانية، وهي الولادة الحقيقية للرجل عندما يتصل بالمرأة بواسطة الباه، يتغير بعدها إدراكه لكل شيء. غدا أنكيدو «فطِنا واسعَ الحس والفهم»، وراح يشعر بأنه كبير ومستقل وحصيف، وهو يلتفت هنا وهناك ويعرف السعادة الحقة ويذوق طعمها أول مرة. اختلاف الولادة الأولى عن الثانية يشبه الفرق بين الحليب المُر والعسل. هل تلاحظون أنه ثمة خيط في الحديث يقودنا إلى قصة حور العين في الجنة الموعودة للمسلمين، من يدخلها يظل في شغل عن كل شيء، غير التمتع بالحوريات البكر وتناول الطعام والخمرة، الامتيازات ذاتها التي منحتها البطولة المطلقة لجلجامش الملك؟ لقد تمت استعادة الأسطورة في اللاوعي الجمعي للأمة، والجنة المأمولة تقدم فرصة للسفر عكسيا باتجاه زمن الملحمة، من أجل أن يكون المؤمن في دخيلته صورة مطابقة للبطل، ويوفر له الدينُ وطقوسُه الانغماسَ في هذه الملامسة. بهذه الطريقة يتم إقناع الشباب من ثوريي الإسلام السياسي بتفجير أنفسهم كقنابل حية في أعمال الإرهاب؛ في رمشة عين يستيقظ المنتحر ليجد نفسه جالسا في مكان جلجامش، وعلى كرسي عرشه.

ليس لدى أهل الجنة غير تناول الطعام وفعل الباه وشرب الخمرة، التي تقوم بما لا أدريه وسط النعمتيْن سالفتيْ الذكر. هناك احتمال، وإن كان بعيدا فلا بأس من ذكره، إنها تُسكر المؤمنين الفائزين بجنة الخلد، ليوقنوا أن واحدهم تحول من سين أو صاد من الناس، فانقلب به الحال دفعة واحدة إلى جلجامش الملك. الولادة الثانية ضرورية للمرء، لأنه يأتي إلى الدنيا بفضلها وقد صار رجلا ودّع براءته الأولى. اللافت للنظر أننا لا نعثر على إشارة واضحة إلى أم أنكيدو في الملحمة، وكأن أمر إنجابها له ينتمي إلى أفعال الطبيعة، ولا داعي لذكره، مثلما يهطل المطر وتشرق الشمس، وكما يغرد العصفور وينبح الكلب.. دونَ مساهمة أو اختيار، أو حتى أخذ مشورة الوليد ورأيه. بينما يكون المرء في الولادة الثانية شريكا رئيسيا في العمل، وتُفهمه المرأة التي أنجبته، لا شعوريا، بما عليه القيام به في صورته الروحية الجديدة: «علمته كيف يُؤكل الخبز اللائق بالألوهية/ وأعطته للشرب خمرا يليق بالملوكية/ وكسته بالحلل القشيبة»/ كما تقول الملحمة.

انتقل من حالة الفطرة التي صاغته منها الطبيعة، إلى دنيا الواقع العملي والحياتي، حيث كًتب عليه أن يحيا ويصطرع، وكان عدوه جلجامش أول الأمر. وفي زمن قصير من الملحمة، صفحات قليلة لا غير، ينقلب العدو الأشد إلى صديق قريب وحميم. لا يوجد في عالم الرجال رفيق دائم وعدو أبدي، وهو المغزى الرئيسي في الملحمة. يتقاتل جلجامش مع أنكيدو في البدء إلى حد أن الآلهة تفزع من هول المعركة، ثم يتصاحب الاثنان، ويصيران خِليْن حبيبيْن يلازم أحدُهما الآخرَ، وقد سار على هذا المنوال سليلو آدم من الذكور. إذ تنشب الحروب بينهم دون سبب، وتنتهي دون سبب أيضا، وليس أمام جميع الخلق، إلا أن يكونوا مسرحا لهذا التقاتل والتحابب، اللذَيْن لا معنى لهما. وما يجري الآن، وما شهده التاريخ من حروب تؤدي بالملايين إلى الموت، دليل على أن الشمس التي أشرقت على أهل الملحمة، لا تزال تُضيء نهارنا، وحين تغيب يحل علينا الليلُ نفسُه. إن العبثَ وحدَه، هو المادة التي يبحث عنها جنس الرجال عموما، ويعملون من أجلها، بما في ذلك خياناتهم وعداواتهم الظاهرة والمبيتة، وبما في ذلك أيضا رحلة جلجامش الشهيرة طلبا للخلود. أدركت الآلهة، ببُعد نظرها، حالَ الرجال، وقررت أن تمنعهم من بلوغ هذه الغاية. ما إن حصّل العشبةَ، قامت الأفعى بالاستحواذ عليها، إذ لم يشأ صاحب الملحمة إحراج السيد جلجامش الإله والملك، فقام باستبدال المرأة بأفعى تتخذها الميثولوجيا الشرقية رمزا لها، لأن المرأة ضعيفة وخاملة ومسالمة تماما قياسا إلى جرأة جلجامش وبُعد سطوته، فلا يجوز أن تحصل على رمز الخلود، ويُحرم منها الملك. ثم تثمل الأفعى (المرأة) برحيق العشبة، ومن باب الحرص على الأمانة، تقوم بنقل رسالة الخلود إلينا عن طريق الولادة الثانية، وهذا مغزى آخر تقوم عليه الملحمة. صار الرجل خالدا عن طريق هذا الدرب، وليس هناك سبيل غيره.
لقد «خلقنا (من ماء الحياة) كل شيء حي»، بخلاف ذلك، أي حين ينقطع السبيل إلى الولادة الحقة للرجل، تحل عليه «كيمياء النقص الأبدي»، و»عَروضات التكسرات الأصلية»، و»بلاغة الانكفاء»، بتعبير الشاعر كاظم جهاد في قصيدة له، وهذه كلها مبذولة لدى الشباب المتجهين للانتحار بواسطة أفكار الإرهاب، موعودين بجنة عرضها السماوات والأرض، يتخذونها فراشا يولدون عليه ثانيةً، ليدركوا عندها معنى الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب