ثقافة وفنون

«الخادمة».. التي خدمها الجميع

«الخادمة».. التي خدمها الجميع

بروين حبيب

هناك من يرى أن عدة مؤلفين صنعوا نجاحها المذهل، وهناك من يعزو سر هذا النجاح إلى بركات الذكاء الاصطناعي، ولكنها تؤكد في إحدى المرات النادرة التي تكلمت فيها، أنها هي من تكتب رواياتها، وأريكتها التي تجلس عليها شاهدة على ذلك. وحين نعود إلى موقعها الرسمي يرتفع منسوب الغموض قليلا حين نقرأ «تعيش فريدا مع عائلتها وقطتها في منزل مكون من ثلاثة طوابق يطل على المحيط، مع سلالم تصدر صريرا وأنينا مع كل خطوة، ولا أحد يستطيع سماعك إذا صرخت. إلا إذا – ربما- صرخت بصوت عالٍ جدّا»، وحتى حينما ظهرت الروائية الأمريكية فريدا ماكفادن في مقابلة هاتفية متبوعة بجلسة تصوير، لم ير المعجبون سوى امرأة أربعينية متوسطة الحجم ترتدي بنطلونا وقميصا ونظارات وشعرا مستعارا أحمر، وليس شعرها هو الوحيد المستعار فاسمها كذلك، إذ إن فريدا ماكفادن ليس سوى اسم أدبي تنشر تحته رواياتها الكثيرة، وحين سئلت عن سر هذا التخفي عزته إلى سببين: أولهما أنها تعاني من رهاب اجتماعي يمنعها من الظهور العلني وحضور الفعاليات التي تقام عن كتبها، وثانيهما أنها لا ترغب أن يصبح ولداها المراهقان، بل حتى قطتها السوداء تحت الأضواء. فإذا أضفنا إلى ذلك أنها طبيبة متخصصة في إصابات الدماغ لها عيادة في مدينة بوسطن، لا تزال تعالج فيها مرضاها، نجد أنها تحرص على أن تفصل بين وظيفتين مرهقتين: الطب والكتابة، وإن كانت قد قلصت عملها في عيادتها إلى يوم واحد بعد أن باغتها نجاح مذهل في العامين الأخيرين.

لم تكن هي ولا قارئوها ولا ناشرها في ما بعد يتوقعون لها أن تصبح أكثر كتاب روايات الإثارة مبيعا في العالم، وأن تترجم إلى أربعين لغة ومنها العربية، وأن تبيع ملايين النسخ، فبداياتها لم تكن تشي بالنهايات، كانت طالبة طب في واحدة من أرقى جامعات العالم هارفارد، أنشأت مدونة أثناء دراستها نشرت فيها بعض الفظائع والإهانات التي واجهتها وهي طبيبة متدربة على يد رئيسها في العمل، كما نشرت حكايات عن استغلال هذا المشرف المتسلط، لها، وقد كتبت منشوراتها وقصصها بروح لا تخلو من دعابة، ثم بعد ذلك نشرتها سنة 2013 في شكل رواية بعنوان «الشيطان يرتدي ملابس طبيّة» على منصة في الإنترنت. وواصلت العمل في المستشفى والاعتناء بصغيريها نهارا والكتابة ليلا، ونشرت بجهودها الذاتية على الإنترنت ست روايات، إلى أن لفتت نظر دار نشر إلكترونية، فنشرت لها روايتها «الخادمة» سنة 2019، ولم تكن تراهن عليها كثيرا، بل كانت مترددة وتوقعت لها مبيعات ضئيلة لأنها كانت ترى أنها مظلمة أكثر من اللازم كما صرحت لصحيفة «نيويورك تايمز»، لكن ما حدث تجاوز كل التوقعات، فقد استجابت فريدا لملاحظات قرائها الإلكترونيين، ومن ضمنهم والدتها أيضا، فغيّرت نهاية الرواية التي وجدوها مربكة، وأعادت نشرها ورقيا سنة 2022 لتحقق نجاحا ساحقا حيث باعت منها مليوني نسخة، وفي فرنسا وحدها بيع منها حين ترجمت إلى الفرنسية ستمئة ألف نسخة، وأصبحت روايتها الأكثر مبيعا في فرنسا سنة 2024، بل إن كتابا واحدا من كل كتابين يباع في فرنسا من تأليف هذه المرأة/الظاهرة الروائية. ولحد الآن باعت فريدا ماكفادن 6 ملايين نسخة من كتبها الأربعة والعشرين. وغدت رواياتها «أسرع مؤلفات الغموض مبيعا على الإطلاق»، كما تصدرت روايتها الأيقونة «الخادمة» قائمة أمازون للروايات الأكثر مبيعا لهذا العام في المملكة المتحدة. فتهافت عليها الناشرون وتعاقدت مع ناشر على طباعة خمس عشرة رواية من رواياتها السابقة التي نشرتها وحدها من قبل في شبكة الأنترنت، فتحولت أغلب رواياتها من رقمية إلى كتب ورقية.

ظاهرة فريدا ماكفادن أثارت فضول كبريات الصحف العالمية، فكُتبت مقالات تحاول أن تجيب عن السؤال الكبير، كما عنونت «واشنطن بوست»، «كيف غزت طبيبة من بوسطن نوع روايات الإثارة؟» وحققت أعلى المبيعات وتفوقت على روائيين كبار مختصين في أدب الإثارة. ولمحاولة الإجابة على هذا السؤال الذي لا يعتمد على القيمة الفنية لما تكتب فريدا فقط، نقارب أشهر رواياتها «الخادمة» (قرأتها في ترجمتها العربية الصادرة عن الدار العربية للعلوم) التي حققت نجاحا عالميا، وبيع منها أربعة ملايين ونصف المليون نسخة في جميع أنحاء العالم، وقد اقتبست في فيلم هوليوودي من إخراج بول فيج من المقرر عرضه أيام عيد الميلاد في نهاية ديسمبر/كانون الأول من هذه السنة. والرواية في تلخيص بسيط من دون أن نحرق أحداثها، تروي قصة شابة تدعى «ميلي» في منتصف العشرينيات من عمرها تخرج من السجن بإطلاق سراح مشروط بعد عشر سنوات قضتها فيه، لتجد نفسها، دون مأوى تنام في سيارتها، غير أن القدر يبتسم لها فتحصل على وظيفة خادمة، أو مدبرة منزل في قصر عائلة ونشستر الفاحشة الثراء، حيث تقيم نينا مع زوجها المتفهم الفاتن السيد أندرو وابنتهما الصغيرة، ولكن «الحقيقة ليست كما تظن» (وهي عبارة يمكن تطبيقها على جميع كتب فريدا ماكفادن) حيث يتحول ما بدا نعيما في عيني الفتاة ميلي، إلى جحيم حقيقي، فمن يبدون أخيارا ليسوا سوى أشرار حقيقيين والعكس يصح أيضا، وتأخذ الروائية بيد القارئ دون أن تفلته لحظة، في سلسلة من الانعطافات والمفاجآت تحبس أنفاسه وتثير فضوله، فقوة رواية الخادمة تكمن في «قدرتها على ربط التقلبات والمنعطفات في اتجاهات لا تتوقعها أبدا، ما يجعل القارئ يرغب في تقليب الصفحات لأنه يريد أن يعرف إلى أين تأخذه الأحداث»، وفي كل مرة يعتقد أنه يتوقع ما سيحدث يجد نفسه مخطئا.

ولكن هل هذا البناء الفني والحبكة المتقنة الصنع، هي سبب الانتشار الكبير جدا للرواية؟ علما أننا نجد بذور هذا التشويق والغموض في أغلب كتب الإثارة من روايات كونن دويل وأغاثا كريستي، وصولا إلى نجوم روايات الإثارة في زمننا مثل ستيفن كينغ. والحقيقة أن عوامل عدة خدمت «الخادمة» ليس أقلها الجانب الترويجي في زمن أصبح لوسائل التواصل الاجتماعي الكلمة العليا في إيصال أي منتوج (والكتاب بغض النظر عن قيمته المعنوية سلعة أيضا)، فيكفي في مثل حالة رواية «الخادمة» لتبيع ملايين النسخ أن يوصي بقراءتها مشاهير المؤثرين مثل نبيلا فيرغارا (لديها 10 ملايين متابع على أنستغرام)، أو لينا ستيايشنز (لديها 5 ملايين متابع على أنستغرام)، وهذا ما حدث فينضم لقائمة المعجبين بالآلاف، ومنهم من كانت رواية «الخادمة» أول كتاب يقرأونه. وقد أصبح لفريدا ماكفادن جيش من المعجبين المتابعين تحت مسمى (mcfans) دون أن ننسى أن العلاقة مع قرائها ليست خطية، بل تبادلية، فقد حدث أن غيرت بعض أحداث روايتها نزولا عند اقتراحاتهم، بل كتبت أجزاء أخرى من الرواية مدفوعة بهذا الرواج الكبير لتتحول روايتها إلى ثلاثية، أو الأصح ثلاثية ونصف الثلاثية، فبعد الرواية الأولى «الخادمة» أصدرت جزءا ثانيا بعنوان «أسرار الخادمة» ثم ما تصح تسميته نصف جزء (120 صفحة) بعنوان «الخادمة تتزوج» ثم أتبعته بجزء أخير بعنوان «الخادمة ترى كل شيء»، كل هذا في ظرف سنتين فقط. وحتى لا نظلم الروائية وقد أنصفتها كبريات الصحف العالمية، رغم أن بعض النقاد وصف كتاباتها بأدب المحطات (أي تلك الكتب التي تباع في محطات القطار وتُقرأ لتمضية وقت الرحلة)، نجد عند فريدا حس فكاهة سوداء عالٍ مع قدرة استثنائية على بناء المفاجآت والتلاعب بتوقعات القارئ، وخلق جو من القلق حتى في وصف المكان، مثل الغرفة التي أقامت فيها ميلي، أو حتى القصر نفسه الذي يمكن أن نعده شخصية روائية قائمة بحد ذاتها، إضافة إلى شخصياتها النسائية التي تبدو هشة، لكنها في حقيقتها قوية ومتسلطة أحيانا. وإن كان يؤخذ على الروائية اهتمامها بالأحداث أكثر من تطوير شخصياتها، التي تعد بالكثير من الجانب النفسي، كل ذلك مكتوب بلغة مباشرة وظيفية لا جماليات فيها فالأحداث التي تجعل القارئ يلهث وراءها هي البوصلة التي لا تحيد عن اتجاهها الروائي.

حين أنهيت قراءة رواية «الخادمة» للكاتبة الأمريكية فريدا ماكفادن ازداد يقيني بأن الكتاب الرائج الذي يقرأه الملايين، ويشكّل ظاهرة ليس بالضرورة تحفة فنية، شدتني الرواية حتى أنهيتها دون ملل، ولكن لم أصل إلى أن أكتب بانبهار مثل واحدة من الماكفانز «عزيزتي فريدا ماكفادن، توقفي عن كتابة كتبك الرائعة، لأن لديّ أعمالًا أقوم بها، ومنزلًا أنظفه، وصالة رياضية أذهب إليها، ولا أستطيع التوقف عن القراءة».

شاعرة وإعلامية من البحرين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب