ثقافة وفنون

آش بزان

آش بزان

حيدر المحسن

تأسّست هذه المدينة قبل أكثر من ألفي سنة، وكانت عاصمةَ إيران في ظلّ حكم السّلاجقة والصّفويّين، وللدلالة على السّلطة والمجد أطلق عليها الشّاه عبّاس الصّفوي اسم أصفهان، أي (نصف العالم). لا أقول إن زيارتي إليها، التي دامت أسبوعاً واحداً فقط، مكّنتني من دراسة أحيائها وناسها وأشجارها، بالإضافة إلى روتينها اليوميّ وعبء الحياة الذي يواجهه الجميع. بل إن ما عشته لا يكشف إلا قطرةً من هذا اليمّ، وإن كان العلمُ يخبرنا أن نقطة واحدة بإمكانها أن تُرينا صورة تقريبيّة لبحرٍ تمخر فيه السّفن.
الطّريقة السّليمة للاقتراب من المدينة، في رأيي، تكون عن طريق الطّعام، نهتدي بواسطته في البلد الغريب إلى أُناس يمكن أن نطمئنّ إليهم، لا وحوش. وإذا كانت بغداد تُعرف بأصناف تمورها، وباريس تشتهر بموسوعة ضخمة من الأجبان، يُغرم الأصفهانيّون بطبق اسمه «آش»؛ حساء دسم يمتلئ بأنواع البقول والمعكرونة والخضراوات، يُقدّم في البيوت والمطاعم عند الفطور عادة، وفي مأدبة العشاء أحيانا.
الصّورة الأبلغ لمكانة هذه الوجبة في قلوب الإيرانيين، تقدّمها لنا ابنة الشاه ناصر الدين، رابع الملوك القاجاريّين السّبعة الذين حكموا بلاد فارس في السنين (1796 – 1925)، وكانت تحمل اسماً غريباً: «تاج السّلطنة». كتبتْ مذكراتها بخطّ ناعم وصغير في دفتر ضخم، وصفتْ في أحد فصوله ولع الشاه بالآش، وكيف كان يحتفل بطريقة إعداده:
«كلّ عام، كان أبي يسافر منذ الشّهر الأول للربيع إلى أصفهان حيث الغابات من أجل (آش بزّان)، أي مراسم طبخ الآش، ويقضي ثمّة الربيع والصيف والخريف». يمتلك الشّاه ثمانين زوجة وجارية، لكلّ واحدة عشر أو عشرون خادمةً وجليسةً، وكانت هذه الطّقوس إحدى نُزْهات الشّاه مع نسائه المفضّلات، حيث تُقام خيمة وسط الغابة طولها عشرون ذراعًا، وتوضع الصّواني على الجهتين، تُجمع فيها أنواع الخضراوات والبقول مما تُنبت الأرض، «وكان على الأعيان والنّبلاء والوزراء أن يجلسوا وينظّفوا تلك الموادّ ويعدّوها للحساء». يقوم الشّاه بعد ذلك بسكب قبضة من الموادّ الجاهزة في قِدْر كبير، يتبعه الباقون ممن اشترك في الحفل. «طيلة النّهار واللّيل، كانت تُقام أنواع الألعاب من أجل تسلية السّيّدات. لا يمكن تصوّر حياة بمثل هذه الرّفاهيّة والتّرف». انتهت حياة ناصر الدين شاه بالقتل بسيف أحد أمناء قصْره، وتولّى الحكمَ ابنه مظفّر الدين شاه، الذي فاق أباه في الإسراف وفي حبِّه اللّهوَ والطّربَ، وفي عدد النساء المحظيّات والغلمان.
منذ زمان كلكامش، ونظام الحكم في مدن الشّرق شموليّ وظالم بحقّ الرّعيّة إلى أبعد الحدود. إنه «الطّغيان الشّرقيّ العارم» بتعبير المؤرّخين؛ فهناك إله واحد هو الملك، غطريس قاسٍ ومتكبّر ومتعسّف في طريقة حكمه، ولا يشذّ عن هذه القاعدة ملك أو رئيس، ومن يقرأ مذكّرات «تاج السّلطنة» تصله هذه الحقيقة، دون ستار يضعه المؤرّخون أحياناً حين يدوّنون التّاريخ.
اختلفت الأمور في هذا الزّمان في إيران كثيراً، في طريقة الحكم وفي طريقة العيش لعامة الناس، وخاصّتهم. المطاعم التي تقدّم الآش في أصفهان قليلة، وكان عليّ أن أركب «المترو»، وأقطع حوالي خمس محطّات للوصول إلى مبتغايَ. لكن جميع معالم المدنيّة اليوم تعود إلى عهد الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي، بما فيها نظام «المترو»، وقد تمّ في عهد الجمهورية الإسلامية تأهيله أو مجرّد إعادة الطّلاء، مع لافتات على الجوانب عليها آيات قرآنية بالعربي والفارسي. راح «المترو» يُسرع ويُبطئ ويتوقف في المحطات، وتشاجرت امرأة تقدّم بها العمر مع شابّ يحتضن حبيبته في مشهد طافح باللّوعة والغرام. كانت العجوز تدافع عن تعاليم الجمهورية الإسلامية بضراوة، وتحكي عن الحلال والحرام والصّلاة والصّيام، دون أن ينتبه إليها أحدٌ. ثم أخذت تكلّم نفسَها وتؤشّر بيديها، ولم تكن ملامحُها تشفّ عن المعاناة وحدها، وإنما تلظّت في ناظريها غيرةٌ شديدة، الأمر الذي أثار ردَّ فعلٍ جليًّا من قبل العشيقَيْن وبقيّة الرّاكبين في «المترو»، وهو الأسى لحال العجوز.
يشبه المطعم الذي يقدّم الآش إحدى حانات شارع الحمرا في بيروت، حتى إن الرّفوف التي كانت تحمل في الماضي زجاجاتِ النّبيذ، ما زالت قائمة في مكانها، وحلّت قناني الكجب والمايونيز وغيرها، بدلاً من أواني الخمر. النادلة فتاة مكتنزة رَدَاح، لها نهدان نافران وذوائب مسترسلة طويلة لم يحجزها الحجاب الشّكلي الذي تزيّن به جيدها. طعمُ الآش ليس لذيذاً فحسب، بل هو غير متوقّع على الإطلاق، ويعيد إليك، أيّاً كانت جنسيّتك، نكهةَ الغذاء في الطّفولة الأولى. المطعم هادئ لأن الصّباح في أوّله، ولا يوجد زبون غيري. على كلّ طاولة قدح ماء فيه وردة جيرانيوم بنفسجيّة اللّون، مع لوحة خشبيّة صغيرة خُطّت عليها أبيات لأحد الشّعراء الإيرانيين، وكان «هوشانك ابتهاج» هو شاعر مائدتي:
«أنظر إليك وأنت صامت
وليس للصّمت لسان، ولسان العشّاق أعينهم
والعين تعرف طريق القلب»
يقول كلود ليفي شتراوس: «يجب أن لا يكون الطّعام جيداً للأكل فحسب، بل جيّداً للفكر أيضاً». على المائدة القريبة لوحة تحمل شعراً لسعدي الشّيرازي:
«ألا أيّها السّاقي أدِرْ كأساً وناولها
لأن العشق كان لنا سهلا
وفي النّهاية صار مرّا»
الترجمة ركيكة لأنها من صنع السيد «غوغل». في أركان المحل أصُصٌ غريبة الشكل لأزهار الأرجوان شبيهة بالفراشات، ومزهريّة على الرّفّ تحمل وروداً غريبة لونها أزرق بروسيانيّ. بعد أن قدمت لي الطعام، عادت الفتاة إلى عملها الذي كانت منشغلة به؛ توشية قبّعة صغيرة ذهبيّة اللّون بشريط وريش أحمر. يُشرف المطعم على حديقة فيها شُجيْرات ورد ترمي عليها ظلالاً ثقيلة شجرةُ توتٍ عملاقة بجذوع وتفرّعات متشابكة وأوراق معتمة. بإمكان المرأة الجميلة تحويل أيّ شيء تلمسه إلى عمل فنّي، وبإمكانها تغيير أي مكان تسكنه إلى قطعة من الجنّة. دار الحديث بيني وبين الفتاة بالإنكليزيّة، وكانت تتكلّم بعينيها وبروحها الرّقيقة الشّفافة أكثر. سألتها إن كانت تقدّم الخمرة للزّبائن في المساء، وقرأت في عينيها دهشتها من سذاجتي، لأني لا أعي في ما يبدو كيف يعيش المرء بين ظلال قوانين فرضتها بقوّة تعاليم الجمهورية الإسلامية.
عندما أنهيتُ طعامي جاءت امرأة بدينة قبّلت الفتاة من خدّها وفهمتُ أنّها أمها. دار بينهما كلام بالفارسية، وكانت المرأة تفحصني بعينيها الصّغيرتين، من وراء نظارتين سميكتين بإمعان. ثم وجهت إليّ كلامها بإنكليزية سليمة: «قبل سنوات كان ذِكر الكحول في إيران ممنوعاً، ويعرّض السائل للحبس. أخبرتني ابنتي أنك سألت عن النبيذ».
توقّفت المرأة عن الكلام، وتطلعت صوب المطعم كأنها تنظر بعيداً، ثم حوّلت نظرها صوبي، وتابعت: «نعم، نحن نصنعه من الكشمش في المنزل، وبعد انتهاء عملي في المساء أزيل تعبي بكأسين أو ثلاث».
ساد الصّمت من جديد، وكانت المدينة تصحو متثاقلة غير آبهة بما يدور في أرجائها، وبماضيها الصّاخب بنزهات ملوكها الذين تتابعوا، ومهرجانات أفراحهم وتجبّرهم وظلمهم وقصص نهاياتهم الحزينة. كانت «تاج السّلطنة» تتنبّأ لأبيها بمصيره، وفي يوميّاتها شكوى من طريقة حكمه. ثمّة شبه بين فتاة المطعم وابنة الشاه القاجاري، كان هناك أسى خفيٌّ يظلّل ناظريها، فرشته ابتسامة هادئة لازمت محيّاها طوال الوقت. حين علمت أنّي شاعر، طلبت منّي أن أقرأ لها قصيدة من تأليفي، وقام «غوغل» بترجمتها إلى الفارسيّة. ثمّ وعدتني أن تنجز رسماً بالألوان المائيّة، يعتمد على الجوّ في القصيدة، وأن تقدّمه إليّ هديّة تذكاريّة تخليداً لذكرى هذا النّهار الرّائع. كانت ترتدي قميصاً أبيضَ منقوشاً عليه طائرة خضراء في جهة القلب. استجمعتُ شجاعتي وحكيتُ لها هذه النّكتة: حظر طالب حفلة في الكلية، وشاهد طائرة على صدر فتاة جميلة. «لماذا تنظر إلى طائرتي؟». سألت الفتاة. «هل أعجبتك؟». «ليست الطّائرة التي تعجبني». قال الطّالب. «بل مطار الطّائرة هو ما يعجبني».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب