
مهرجان عمّان السينمائي … النَّص والعالم الذي خارجه
سليم البيك
بالعودة إلى الدورات السابقة لـ»مهرجان عمّان السينمائي – أوّل فيلم»، وقد ختم قبل أيام دورته السادسة، يُلاحظ تقدّم وثبات في هذا التقدم، في الجودة التنظيميّة والبرمجيّة. مع كل دورة تكبر مساحةُ المهرجان ضمن خريطة المهرجانات السينمائية العربية، وتبرز هويَّتُه المميزة له، وهي اهتمامه الأساسي بالأعمال الأولى لأصحابها.
كانت هذه الفكرة مغامرة، كان يمكن أن تحصرَ المهرجانَ ضمن مستوى يجعله دون مهرجانات في المنطقة العربية، فتحت أبوابها للأفلام العربية الممكنة، لمخرجين ومخرجات صاروا نجوماً. لكن الفكرة التي رسمت هوية المهرجان الأردني جعلت من الأعمال الأولى، أساسها المتنافسون على سوسنته السوداء، مع إتاحةٍ ضمن أقسام مختلفة لما هو خارج شرط العمل الأول. فأضاف بذلك، المهرجانُ أبعاداً جديدة لبرمجته، مستضيفاً أفلاماً لا تنحصر بكونها العمل الأول لأصحابها، مع تعزيز لمكانة المتنافسين، أي الأعمال الأولى.
المهرجان، وفي ستّ دورات أحيطت بالقلق، إذ استهل دورته الأولى مع اندلاع الجائحة الصحية، تأثرت بذلك دورته الثانية. الثالثة والرابعة كانتا في ظرف طبيعي قبل أن تعود حالة الاضطراب في المنطقة مع الحرب الإبادية والحرب الإقليمية، وقد انعكست على الدورتين الخامسة، وأخيراً السادسة في تموز/يوليو.

تخطى المهرجان ما أمكن أن تفرضَه تلك الظروف عليه، فلم يخفّف من وطأة المغامرة في التخلي عن فكرة العمل الأول، أي التخلي عن موقع المهرجان الذي تكرَّس مع كل دورة في كونه الداعم الأبرز لصناع الأفلام الشباب في تجاربهم الأولى، بل حافظ على هويته التي انطلق بها، رغم ما رافقها من تحديات، ولم ينجُ بمعنى البقاء بالحد الأدنى، بل خاض مغامرة أخرى كانت في المواصلة والنمو، وقد وُلد المهرجان في ظرف عالمي طارئ كانت الأحداثُ الثقافية فيه تُلغى، وتتحوّل إلى الافتراضي. يفكّر أحدنا في ذلك ويقول إن مهرجاناً ولد وكبر، وبشكل مستقر، سيكون أكثر مناعة مستقبلاً، بوصفه حدثاً فنياً ثقافياً، في مواجهة أي ظروف طارئة يمكن أن تشهدها المنطقة أو العالم (إن كان من ظرف أصعب مما نمرّ به حالياً).
هذا يحيلني إلى شعار الدورة الأخيرة، وهو «عالم خارج النص». فالمهرجان الذي وصل سريعاً وثابتاً إلى الصفوف الأولى من الأحداث السينمائية في المنطقة العربية، بما يمكن أن يثقل عليه، كاهتمامه أولاً بالأعمال الأولى، ما يعني أن أفلاماً بعينها تكون نجوميّة لن تجد مكاناً فيه، وكالظروف التي تأسَّس ثم استمرَّ في ظلّها، وكحداثة عمره وهو لم يتعدَّ الستّ سنوات، المهرجان هذا أكّد بشعاره إلى أصحاب الأعمال الأولى أنّ الخروج عن النص، والخروج عن المتن والمألوف، أن التلقائية والمصداقية في الطرح، أن المغامرة والجرأة، الهامش والمهمَّش، كلّها من أصل العمل السينمائي، في تاريخ السينما وراهنها، وأنّ الخارجين عن النص في أعمال أولى، قبل ترويض التجربة السينمائية وتكريسها ربما، أن لكل ذلك مكانه في عالم يكون خارج النص وخارج المفروض والمتوقَّع، في مهرجان بدأ بمغامرة وبظروف استثنائية، أي خارج النص، واستقرّ على ذلك، واحتضن، باستقراره هذا، أفلاماً غير مطمَئنة، قلقة، هامشية، تحمل هواجس التجارب الأولى وأحلامها.
هو مهرجان يُعلم أفلامَه بأنها، في كونها استهلالات تكون خارج النص، في كونها تجرؤ على ما تتفاداه أفلامٌ أجبرتها حالةُ التكريس على تهذيب ورزانة غير حميدَين دائماً سينمائياً، يُعلمها بأنها، في كونها خارج النص، تجد عالماً شاسعاً يحتضنها، ويحفظ للأعمال الأولى، وهجَ البدايات وفرحتها، وإشعاعاتها السردية والبصرية.
كان يمكن للمهرجان أن يلغي، مع غيره، دورته الأولى وربما الثانية بسبب الجائحة الصحية، ثم دورته الخامسة بسبب الحرب الإبادية، ثم دورته السادسة بسبب الحرب الإقليمية، لكن مسؤولية ثقيلة حملها المهرجان، أو حمّلها لنفسه، مواصلاً الصعود بثبات، هي مكانة البيت الأوّل، التجربة الأولى، الدهشة الأولى أمام جمهور عربي تحديداً، لسينمائيين سيقول الكثير منهم، بعد سنوات قصيرة أو طويلة، إنهم بدأوا من هناك، إن بيتهم الأول كان «عمّان السينمائي» الذي مشى، من أجلهم، خطواته الأولى بثبات في طريق متعثّر.
كاتب فلسطيني/ سوري




