
فقدان القيمة ومسرحة العدالة في «القبعة والنبي» لغسان كنفاني

عبدالحفيظ بن جلولي
تتحول المدينة إلى خشبة للفرجة كما مسرح متنقل، يجد العابر لشوارعها راحة في اكتشاف أحواله، من خلال أحوال المدينة. كنت في وهران حين انعطفت نحو محلات بيع الكتب القديمة القريبة من الكاتدرائية، عثرت على مسرحية لغسان كنفاني بعنوان «القبعة والنبي»، تدور فصولها في فضاء محكمة، وللصدف العجيبة أن محكمة وهران تقع خلف الكاتدرائية، إلا أن غسان كنفاني يوثق مسرحيا فصول مأساة سببها الاحتلال الصهيوني، وبالتالي يكشف عن اللاعدالة، لأن الاستعمار نفسه تعبير عن تشويه لمفهوم العدل، وعليه تكون محكمة وهران شاهدة على عدالة تأسست بفعل الحرية الذي هدم كيان استعمار فرنسي إحلالي للجزائر، دام حوالي القرن والنصف.
«القبعة والنبي»، جميعنا نحمل زيف وجودنا، نتحرك على ركح الحياة مُرْتَدِين قبعات ليست على مقاسنا في شيء، ندعي أننا ذوات أخرى غير تلك التي هي نحن في حقيقتنا وجوهرنا، ويأتي المحتل ليؤكد أنه جاء «نبيا» ليحررنا من جهلنا وتوحشنا الحضاري، وقد رأى ماركس ذلك في الاستعمار الفرنسي للجزائر. تنجلي الستارة عن مجرد أرقام، عن رقم واحد ورقم اثنين، رمز شخصيتي القاضيين، فهو لم يُسَمهِمَا لانعدام مفهوم العدالة في واقع الاستعمار، ولأن القاضي في كيان الاستعمار هو ناطق باسم الظلم، ولهذا كان الرقم هو الدال على الحالة العددية التي تعتبر فيها القيم مجرد معدودات تابعة.
بداية المسرحية كانت هذه الجملة: «(وكأنه يكمل حديثا) أما وقد انتهينا من المحاكمة فسأصدر الحكم الآن. قف كي تسمعه كما ينبغي». إذا كانت البداية بـ»حكم» كهذا، فمعنى ذلك أن الاستعمار حالة حسم لا يمكن أن يسمع سوى صوته الذي يجب أن تردده الكيانات الأخرى، صدًى ينبعثُ لا يدل إلا على وجود المستعمِر الذي يلغي كل ذاتٍ كي تنتصب ذاته من خلال عدالة الظلم. وغسان كنفاني باعتباره صوت المقاومة الناجز في «عائد إلى حيفا»، أو «رجال في الشمس»، كان مدركا أن صوت العدالة لا يمكن إلا أن يكون عملا ممسرحا في واقع الكيان الغاصب، وعملا فنيا باعتبارات الإبداع في حياة الفلسطيني المتمسك بالعدالة، عدالة موقفه وعدالة قضيته.
ولهذا يجيب المتهم على موقف المحكمة: «(يدور حول الطاولة ويمسك الحاجز بكلتا كفيه) أيها السادة دعوني أذكركم بأننا لم نبدأ بعد!». كان مشهد البداية/النهاية الذي تبنته عدالة الظلم الاستعماري موقظا للإحساس الفطري بالانفكاك من قيد الظلم والثورة عليه، ولهذا صاح المتهم معلنا أننا لم نبدأ بعد، فالبداية لا تعلنها محكمة قضاتها مجرد أرقام، بل يعلنها صاحب الحق المغتصَب المحكوم عليه بتقييد حريته، ولهذا كان ممسكا للحاجز بكلتا كفيه، الحاجز الذي يفصله ظلما واضطهادا عن مستوى الحرية التي تتيح له أن يكون صاحب القرار في إعلان البداية والنهاية أيضا، البداية باعتبارها فعلا ثوريا يروم الحرية، وتجاوز «الحاجز»، والنهاية التي تمنحه القوة الثورية في امتلاك المبادرة في فضاء الأرض المحتلة/المستقلة بداية ونهاية.
بدا «رقم واحد» وكأنه يكمل حديثا، لم تتناول المسرحية بداية الحديث، كفعلٍ مسرحيٍ الهدف منه إشراك الجمهور في تلقي الإحساس بظلم المتهم، الذي لم يكن ممتلكا لزمام مبادرته على أرضه، فما قيل ابتداء ولم تذكره المسرحية كان بمثابة القرار المفصول فيه ظلما بانتهاك الحقوق القانونية للمتهم، الذي لا تذكر المسرحية بأن له محاميا، فالكيان الغاصب يلعب دور القاضي والدفاع، اللذين يفهمان الواقع الإنساني على أساس قيامهما على قاعدة الظلم.
المتهم في المسرحية تدينه المحكمة بالقتل، قتل «الشيء» الذي أمامها، والشيء غير معين، أي الضحية، ويستمر في عدم التعيين، وهو ما يمثل الحجة الواهية التي يتمسك بها أي احتلال، مقابل صاحب الأرض، لا دليل على أن المستعمِر كان يمتلك حجة أقوى وهو يخطط للهيمنة والسيطرة على أرض وشعب لا يقعان في محيط ممتلكاته، بل ما قاده إليهما هو حب الإخضاع والاستيلاء على مقدرات الشعوب، والذي بين المحتل والمستعمَر، هو ما تذكره حيثيات قرار المحكمة في كلام رقم اثنين: «حتى قبل أن يجف دمها»، هذا هو العنصر الفاصل في العلاقة التي تحكم تسلط المحتل وثورة المستعمَر، لكن لإدانة كل من يتمرد على قواعد السيطرة والظلم، يعمد المحتل إلى وسمه بإراقة دم الأبرياء، وهم المستوطنون القادمون على ظهر الدبابة لزرعهم بدل نبات الأرض المتجذر. يصبح الدم في المسرحية انطلاقا من كيان الشيء غير المعين، الذي لا تعرف المحكمة طبيعته سوى إنه شيء، ويعرف جيدا المتهم أنه لا يتعلق بكيان يجري في عروقه دم، وهو ما يحيل الشيء إلى كينونة مستمرة لا تموت، تظل عالقة في الوعي الكاذب للمحتل، باعتبارها مجرد شيء بينما صاحب القضية المتهم وحده يعرف طبيعتها الجوهرية، ولهذا في نهاية المسرحية «الشيء يتحرك من جديد»، ويصحبه المتهم ويخرجان من المحكمة.
في فضاء العدالة/الظلم (يتقدم «الشرطي» بهدوء ويحرك ضلع الحاجز المواجه للجمهور وينقله على محوره إلى الجهة المقابلة فيبدو القاضيان الآن في القفص والمتهم دونه). تفصح المسرحية على هذا المشهد الذي تقدمه حقيقة جوهرية في مسار الصراع بين الظلم والعدل، لا باعتباره عنصرا مكثفا لأحداث المسرحية، ولكن باعتباره حقيقة قائمة في وعي المحتل باعتباره ظالما، وفي وعي المستعمَر باعتباره صاحب حق. تستمر آلية تحريك الحاجز كلعبة يديرها الشرطي تكشف عبر المشاهد التناوب المسرحي بين الضحية والجلاد كتقنية لتثوير فعل المقاومة وتكريس شخصية المناضل ضد الظلم. إن المعنى في قيام الشرطي وهو من عناصر العدالة/الظلم، بتحريك صورة الحاجز، مرة كقفص يدين القاضيين ومرة أخرى كقفص يدين المتهم، هو محاولة تفكيك بنية المحتل بتداول الاتهام من داخله لبعض ما يقوم به من أفعال تدين ادعائه العدالة، لأن الشرطي في كيان الدول يمثل رمز المحافظة على النظام العام، ومنع حدوث الجريمة بل مكافحتها، ولعله تأويل يمثل بقايا الضمير الذي يتراوح وجوده بين الاستفاقة الضعيفة والخفوت الدائم.
تشتغل المسرحية في إدانة فعل «الظلم» الاستعماري على موضوعة «الحزن»: «إنني أرفض هذه المحاكمة.. صحيح أنني حزين (يبكي) ولكن هذا لا يعني أنني القاتل.. (ينتعش) ثم من هذا الذي قتل؟ ما هو اسمه أو اسمها؟ كيف قتل؟ تصوروا لو أنكما قررتما قتل كل حزين في هذا العالم.. لن يبقى غيركما. ثم ستحزنان أنتما لأنكما ستكونان عندئذ وحدكما، وسيقتل أحدكما الآخر». الحزن علامة انتصار لأن الذات المستعمَرة تتأسس كصاحبة حق، تناضل من أجل استرداده، وتعبها لا يعني أبدا الانكسار، بل يعني الإصرار على استرجاع الحق المغتصَب، وكل ما يلف المتهم في ساحة المحكمة من شعور بالحزن والكآبة لا يعني أنه القاتل، لأن الحزن حالة إنسانية تختزن في طياتها الفرح، الفرح بالنضال من أجل الخروج من حالة الحزن باعتباره مستوى تفرضه وضعية العدالة/الظلم، ولهذا فهو وضع تنبعث من خلاله الذات، معلنة هويتها المنتصِرة، ولهذا، يحيل المتهم المحكمة إلى التساؤل حول هوية «الشيء» الماثل أمامها، قتيلا أم قتيلة؟ وهو تساؤل يكشف عن تخبط المحتل في عدم الوقوف على القيم في واقع الوجود الإنساني، لأن القيم قد تكشف هشاشة الإنسان في وجوده لكن ذلك لا يعني في ميزان القيم ذاتها انهزامه أو استسلامه، تماما عكس حقيقة المحتل الذي لا يريد إظهار سوى جانب القوة المغلفة على الدوام بجهله للتاريخ وهشاشة وضعه الإنساني والقانوني، قوة مزيفة تحتمها وضعيته الهشة أمام مرآة التاريخ والبشرية التي تناضل عبر تاريخها الطويل ضد الظلم والهيمنة والهوية الواحدة السائدة.
في إشارة دالة عن التسمية، يتوجه المتهم إلى القاضيين باعتبارهما رقمين ليكشفا عن اسم الشيء الذي يعتبرانه قتيلا أو قتيلة، هما غير متأكدين، وهنا تنكشف ارتيابية المحتل في وجوده باعتباره مغتصِبا لا صاحب حق. وطلب التسمية هو إيجاد كيان معرف متفق على وجوده باسمه المتفق عليه، والاستعمار في ضمير العالم وضع اسمي غير متفق عليه، في حين هو يتجاهل اسم الضحية، تجاهله ذاك هو ما يعبر عن فقدانه تسميته في واقع العالم الصائر إلى العدالة الحقة، ولأنه فاقد الهوية فهو يُسقط حالته على الحلقة الأضعف (الضحية أو المستعمَر) التي يهيمن عليها.
كاتب جزائري